السبت، 11 مارس 2023

لا يزال بإمكان التونسيين إنقاذ البلاد إذا ما اتحدوا

 لا يزال بإمكان التونسيين إنقاذ البلاد إذا ما اتحدوا

ديفيد هيرست

كم هي غريبة الأمور! فتونس التي كانت لا تمثِّل قبل عقد من الزمن الشعلة لثورة ممتدة فحسب، بل أيضاً منارة للانتقال السلمي من الديمقراطية إلى الديكتاتورية، بات الآن يحكمها رجل يجعلني شخصياً أترحم على الدكتاتوريين السابقين أمثال الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، يبدون موزونين.

انقلبت الأوضاع في تونس رأساً على عقب. فكل ما كان البلد الصغير يُمثِّله قبل عقد من الزمن انقلب اليوم. فآنذاك، كان مثار الفخر بجيشها هو أنَّه لم يتورط في السياسة ولا في النشاط الاقتصادي.

لكن الآن يتولَّى الجيش وزارتين من صفوفه في الحكومة، في الصحة والزراعة، ويحصل على مساحات شاسعة من الأراضي.

وإذا ما حدَّد تركي الحمد، وهو كاتب سعودي مُقرَّب من ولي العهد محمد بن سلمان، هيمنة الجيش المصري على اقتصاد الدولة باعتبارها أحد العوامل وراء الانهيار الاقتصادي للبلاد، فإنَّ الجنرالات في تونس يحذون حذو أشقائهم المصريين عمياناً.

سلطات بلا حدود وصفر شرعية

كان لدى تونس قبل عقد من الزمن حكومة ائتلافية وأحزاب سياسية تنازلت عن السلطة طوعياً.

وكان هنالك دستور يضمن الفصل الأساسي للسلطات بين الحكومة والبرلمان والقضاء. وكان لرؤساء الوزراء سلطات لا يملكها الرؤساء. وكان هنالك انتخابات منتظمة بنسب مشاركة تُؤكِّد صحة النتيجة.

لكن اليوم، يحكم تونس رجل واحد، هو قيس سعيِّد، وهو رئيس بسلطات واسعة وصفر شرعية.

وسُجِّلت رسمياً نسبة مشاركة تبلغ 11% في جولة الإعادة بالانتخابات البرلمانية في يناير/كانون الثاني الماضي. وفي الحقيقة، لم تختلف نسبة المشاركة في الغالب كثيراً عن نسبة 8.8% المُسجَّلة في الجولة الأولى من الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول، بل ربما أقل. وعلى كل حال، تُمثِّل هذه الأرقام مقاطعة على مستوى البلاد من جانب الشعب الذي منحه انتصاراً ساحقاً في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

لقد وُلدَ ميتاً برلمانٌ تونسي يُنظَر إليه باعتباره مؤسسة تعترف بالسلطة المطلقة لرأس الدولة دون أي رقابة على السلطة التنفيذية.

والسبب واضح تمام الوضوح. لقد فشل مشروع سعيِّد. فهنالك نقص في السلع الأساسية مثل القهوة والسكر واللبن في أرفف المحال. وهنالك تأخيرات متكررة في دفع رواتب القطاع العام، لأنَّ الدولة مفلسة تقريباً. وتعثَّرت المفاوضات بشأن حزمة الإنقاذ الحاسمة من صندوق النقد الدولي والبالغة 1.9 مليار دولار.

لقد اضطر سعيِّد إلى اتخاذ موقف الدفاع. فهو يقول إنَّ سبب الفوضى كلها هو الفساد. ويقول إنَّ اللوم يقع على كل شخص آخر باستثنائه هو.

ومثلما صرَّح أحمد نجيب الشابي، رئيس جبهة الخلاص الوطني، لموقع Middle East Eye البريطاني: "سلطة سعيِّد قائمة على نظرية المؤامرة. (فهناك شياطين)، و(هناك متآمرون)، و(هناك خونة)، و(هناك محتكرون) يستهدفون البلاد".

ولا شك في أنَّ عجز المعارضة عن الاتحاد قد دعم دوامة الهلاك التونسية. فـ"النهضة"، أكبر حزب في تونس، لم يحظَ بدعم الأحزاب الليبرالية والعلمانية في التظاهرات الأولى خارج بوابات البرلمان المغلقة. وحتى اليوم، لا تزال جبهة الخلاص الوطني والاتحادات النقابية تدير حملات منفصلة و"حوارات وطنية" منفصلة.

لكنَّهم يُدفَعون إلى أحضان بعضهم البعض، بسبب رئيس يرد على كل تحدٍّ بموجة من الاعتقالات.

مؤامرة القهوة

السمة المُميِّزة الوحيدة للأشخاص الذين اعتقلهم قيس سعيِّد هي أنَّهم ينتمون إلى مختلف ألوان الطيف السياسي.

فالدفاع عن مُوكِّلك في محكمة يضعك في خطر. وبالنسبة لنشطاء أمثال شيماء عيسى وجوهر بن مبارك، كانت جريمتهما هي عقد لقاء مع السفارة الأمريكية. فاتُّهِمَت شيماء بنشر معلومات كاذبة، واتُّهِمَ آخرون بالتآمر لخلق نقص في الغذاء المُدعَّم.

كان خيَّام التركي، وهو ديمقراطي اجتماعي يُسهِّل النقاش بين خصوم سعيِّد العلمانيين وذوي التوجهات الإسلامية، يعمل ليل نهار لجسر الفجوات بين الخصوم حتى اعتقاله الشهر الماضي، فبراير/شباط.

أصبحت الحادثة معروفة، بحس فكاهي أسود، بـ"مؤامرة القهوة". فكل مَن جاء إلى منزله لتناول القهوة اعتُقِل. ويحظى تركي، وهو مواطن تونسي إسباني مزدوج الجنسية، بعلاقات جيدة على مستوى العالم. وإحدى التهم التي يواجهها هي التآمر.

لا بد أنَّ هذه هي المرة الأولى في تونس التي يتضمَّن فيها التآمر الحديث مع القائمة بالأعمال الأمريكية، حيث جرى تصوير أرقام لوحات حراسها واستخدامها كدليل.

لكنَّ البراغماتيين أمثال الشابي واضحون بشأن الاتجاه العام. فقال: "يجب أن يدرك الحراك الاجتماعي أنَّه أمام جدار. بالتالي، من الضروري جعل السلطة تقبل الحوار، واتحاد القوى السياسية والاتحادات النقابية للمطالبة بحوار وطني يفتح الطريق أمام خروج تونس من الأزمة".

وأضاف: "نأمل أن يضع اتحاد الشغل تحركاته في أفق وطني بدلاً من أفق مجتمعي محض، لأنَّ الوضع يتطلَّب رؤية".

ومع تعمُّق ديكتاتورية سعيِّد، تتقارب خيوط المعارضة المتصدعة، حتى لو بمقدار شبر واحد في كل مرة. فالاعتدال، والتسوية، والقدرة على جسر الفجوات الاجتماعية والانقسامات السياسية العميقة– وهي الخصال نفسها التي ميَّزت التجربة التونسية مع الديمقراطية- كلها عوامل سامة بالنسبة لرئاسة سعيِّد.

لذا، كان هدفه التالي هو إفريقيا، القارة نفسها التي يقوم عليها اقتصاد تونس وتاريخها وثقافتها.

"مذبحة" ضد المهاجرين

في 21 فبراير/شباط الماضي، أطلق سعيِّد العنان لسيل من الانتهاكات اللفظية ضد المهاجرين الأفارقة ذوي البشرة السوداء.

فقال سعيِّد في إفادة رسمية من الرئاسة: "هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وهناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس". وأضاف أمام مجلس الأمن القومي: "جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرة مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة، فضلاً عن أنَّها مجرَّمة قانوناً".

والاعتداء ليس فقط لفظياً أو خطابياً. إذ تم طرد المهاجرين الأفارقة من منازلهم، وهُوجِموا بالمناجل، وتعرَّضوا للضرب ومضايقات الشرطة المستمرة.

وبصرف النظر عن حقوق الإنسان الخاصة بالمهاجرين، تُعرِّض "مذبحة" سعيِّد ضد المهاجرين، التونسيين الذين يُشكِّلون جزءاً من الموجة البشرية العابرة للبحر المتوسط أيضاً للخطر.

ازدادت الهجرة التونسية في عهد هذا الرئيس. إذ أفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية العام الماضي بأنَّ 443 لقوا حتفهم أو فُقِدوا خلال محاولتهم العبور بصورة غير شرعية من تونس إلى إيطاليا. وأُفيدَ بأنَّ 10139 مواطناً تونسياً آخرين وصلوا إلى البلد، بينهم 2102 طفل و498 سيدة.

ويعيش أكثر من مليون تونسي في فرنسا، 300 ألف منهم لم يُولَدوا هناك. ويعيش 300 ألف آخرين في إيطاليا. ما هي الحماية التي يحصلون عليها من رئيس يصف المهاجرين بالمؤامرة الإجرامية التي تهدف لتغيير التركيبة الديمغرافية في البلدان المضيفة لهم؟

لم يصل قيس سعيِّد حتى الآن إلى حد وضع خصمه السياسي الرئيسي، الرجل الذي يرمز إلى تونس ما بعد الاستبداد، راشد الغنوشي، خلف القضبان، ولو أنَّ المحاكم أخضعت السياسي المخضرم البالغ من العمر 82 عاماً، لنحو 100 ساعة من الاستجواب و9 استدعاءات في 6 قضايا مريبة بالقدر نفسه.

ويُمثِّل عدم وجود الغنوشي في السجن لغزاً. هل يمكن أن يكون السبب هو أنَّ حدوث ذلك يعني أنَّ سعيِّد قد استنفد منفعته لداعميه؟ أم أنَّه يخشى أن يكون اعتقال ذلك الرجل خطاً أحمر يؤدي تجاوزه إلى اضطرابات جماهيرية؟

لكن هناك فكرة واحدة تهيمن على تفكير كل أعداء سعيِّد الكثيرين، وهي أنَّ الوضع لا يمكن أن يستمر، لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً.

هنالك أمل

لم يُقصِ الرئيسان التونسيان السابقان بورقيبة وبن علي الجميع دفعة واحدة.

فكي يقمعا الاتحادات النقابية، كانا يضعان آخرين في صفهما. وكي يقمعا الإخوان المسلمين، كانا يُوجِدان مجالاً للنخب الليبرالية العلمانية. واستفاد كلٌّ منهما من المقاطعة الدولية لليبيا مُعمَّر القذافي.

ولا ينطبق أيٌ من هذا على سعيِّد. فدول الخليج لم تعد تُموِّل الاقتصادات المفلسة في منطقة المغرب العربي.

وهنالك إيطاليا التي يحكمها اليمين المُتطرِّف بقيادة جورجيا ميلوني، والاهتمام المستمر من جانب الأجهزة الأمنية الفرنسية بدعم الدكتاتوريات في شمال إفريقيا، لكنَّ هؤلاء ليسوا مُنقِذين، والجيران الأقرب إلى الديار، مثل الجزائر، ليسوا راضين عن تحولات الأحداث في تونس.

وبعد كارثة ليبيا، بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين –ومجموعة فاغنر- مشغولين بغزو أوكرانيا. وما من أحدٍ واضح يمكن أن يهرع سعيِّد لطلب المساعدة منه. من ناحية أخرى، هنالك غياب تام للمشاركة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد ارتضيا مجدداً وبالقدر نفسه من الكارثية بـ"القيادة من الخلف".

وتونس بلد صغير لا يهم.

وبدلاً من أن تكون منارة للتغيير السلمي في الشرق الأوسط، أصبحت تونس جاذبةً لليمين المتطرف. فأشاد إريك زمور، القيادي الفرنسي اليميني المتطرف، بإعلان سعيِّد بشأن الهجرة: "تريد تونس اتخاذ إجراء عاجل لحماية شعبها. ماذا ننتظر لمحاربة هذا (الإحلال العظيم)؟".

إنَّ رئاسة سعيِّد هي حادث سيارة بالتصوير البطيء. وقد أصبحت الديمقراطية بتونس في خطر بعد مرور 10 سنوات.

السؤال الوحيد الآن هو ما إذا كان التونسيون سيدَعون أنفسهم يكونون عبيداً من جديد لطاغية يجلس في قصر قرطاج. هنالك أمل إذا ما اتحدوا. لكنَّ ذلك لا يزال موضع تساؤل كبير. 

 المصدر: موقع Middle East Eye البريطاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق