لماذا عاد الشغف الأمريكي بالملف الليبي فجأة؟
بعد قرابة عقد من العزوف الأمريكي عن الانخراط بقوة في الملف الليبي، بدأت واشنطن مؤخراً في وضع ليبيا ضمن أولوياتها في المنطقة، وهو ما انعكس على جداول زيارات المسؤولين الأمريكيين، مثل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الذي ناقش خلال زيارته إلى مصر، في سبتمبر الماضي، مستجدات الملف الليبي، وصولاً إلى زيارة مدير الـ"سي آي أيه" وليم بيرنز إلى ليبيا، في يناير الماضي، ودعم واشنطن لمبادرة المبعوث الأممي الجديد عبد الله باثيلي، لتنظيم انتخابات خلال العام الجاري، وذلك ضمن توجه أمريكي لإخراج قوات فاغنر الروسية من ليبيا، والعمل على تأمين إمدادات الطاقة الليبية إلى أوروبا كأحد بدائل الغاز الروسي. ويمثل ذلك الاهتمام الأمريكي مرحلة جديدة في سياسة واشنطن تجاه ليبيا، والتي اتسمت بالتقلب منذ عهد القذافي حتى الوقت الراهن.
من حصار القذافي إلى التفاهم معه
خلال أول 30 سنة من حكم القذافي، اتسمت العلاقات الأمريكية الليبية بالتوتر، على خلفية اتهام واشنطن للرئيس الليبي بدعم عدة جماعات مسلحة حول العالم من فلسطين إلى أيرلندا الشمالية، والوقوف خلف تفجير ملهى ليلي في برلين عام 1986، وهو ما تلاه قصف جوي أمريكي للعاصمة طرابلس، وتفجير طائرة مدنية أمريكية فوق الأجواء الاسكتلندية عام 1988، ما أسفر عن مقتل 270 شخصاً، وهو حادث نتج عنه اتهام أمريكا وبريطانيا لعنصرين من المخابرات الليبية بزرع عبوة ناسفة في الطائرة، وفرض عقوبات دولية من مجلس الأمن على ليبيا.
تحت ضغط العقوبات الاقتصادية ووصول معدل البطالة في ليبيا إلى 30% والتضخم إلى 50%، بحسب وليم بيرنز، مدير الـ"سي آي أيه" الحالي، ونائب وزير الخارجية الأمريكي، في مذكراته، وافق القذافي في عام 1999 على تسليم الشخصين المتهمين بتنفيذ حادث لوكيربي، وبدأ مفاوضات سرية مع المسؤولين الأمريكيين برعاية بريطانية. وعقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حكم العراق عام 2003، قرر القذافي التخلي طوعاً عن برامجه النووية، وتسليم أسلحته الكيميائية، ودفع تعويضات لضحايا لوكيربي بواقع 10 ملايين دولار لكل متوفى، كما سلم بيانات عناصر الجماعات المسلحة التي دعمها سابقاً في دول عديدة، وتعاون مع أمريكا في حربها على الإرهاب، وذلك مقابل حصوله على تعهد بعدم تغيير نظامه بالقوة، وبذلك فتح القذافي صفحة جديدة في علاقاته مع الغرب.
التدخل ضد نظام القذافي
بعد أيام قليلة من تنحي مبارك، تصاعدت الاحتجاجات في ليبيا، وسقطت بنغازي في يد الثوار، وأصبحت ليبيا بدلاً من مصر حاضرة على شاشات التلفزيون في البيت الأبيض، وفرضت نفسها على جدول أعمال رئيس الولايات المتحدة، بحسب "بين رودس"، نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في عهد أوباما.
وفي 22 فبراير/شباط 2011، ألقى القذافي خطابه الشهير الذي تعهد فيه بتطهير بيوت وشوارع وحارات ليبيا من الثوار، ففرضت واشنطن تجميداً على ممتلكات القذافي، وأرسل له أوباما رسائل يطلب منه خلالها مغادرة ليبيا لتجنب اندلاع حرب أهلية، لكن القذافي رفض. وبحسب بين رودس، فإن معظم مسؤولي الإدارة الأمريكية مثل روبرت غيتس، وزير الدفاع، وبايدن نائب الرئيس، لم يؤيدوا اتخاذ إجراء تجاه ليبيا، بحجة أنه لا توجد مصلحة وطنية حيوية لأمريكا على المحك، وأنه ليس لديهم أي فكرة إلى أين قد يؤدي التدخل العسكري، فيما أوضح قادة الجيش الأمريكي لأوباما أن ليبيا لا تمثل أولوية لديهم، وأنهم يخوضون حربين في العراق وأفغانستان، ولا يودون خوض حرب ثالثة في الوقت ذاته.
لكن عدداً من الدول العربية مثل الإمارات والأردن أبدت رغبتها في المشاركة ضمن حملة عسكرية ضد القذافي، وبحسب وليم بيرنز أرادت إدارة أوباما استعادة ثقة زعماء تلك الدول بعد التخلي عن مبارك، وهو ما تزامن مع مساعي الرئيس الفرنسي ساركوزي لإصدار قرار من مجلس الأمن، بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، ما منح الحملة العسكرية شرعية دولية.
بعد تواصل أوباما مع ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، قرر مجلس الأمن القومي الأمريكي، في 15 مارس/آذار، الشروع في عملية عسكرية محدودة، تعتمد على القصف الجوي للقضاء على الدفاعات الجوية للقذافي وقواته البرية، على أن يتولى الأوروبيون قيادة العملية بعد فترة وجيزة، وذلك لتهدئة مخاوف الجيش الأمريكي من الانخراط في مستنقع ليبي. وبحسب رودس، أراد أوباما عملية متعددة الأطراف بدون مشاركة قوات برية، وأهداف محدودة تتعلق بإنقاذ الأرواح، دون فرض حكم نظام جديد على الليبيين، لتجنب تكرار الفشل الأمريكي في بغداد وكابول.
قُتل القذافي في مدينة سرت، وبحسب بيرنز، فقد تكلف البنتاغون أقل من مليار دولار، وهو نصف ما أنفقه آنذاك في أفغانستان أسبوعياً، ونفذ الأوروبيون والعرب 90% من الغارات الجوية، وعاد إنتاج النفط لذروته، ولكن تعرضت جهود واشنطن لانتكاسة في عام 2012، مع مقتل السفير الأمريكي في ليبيا كريس ستيفنز رفقة 3 آخرين في بنغازي، فسحبت إدارة أوباما البعثة الأمريكية الدبلوماسية من طرابلس، وتراجعت رغبتها في الانخراط بشكل عميق في الملف الليبي، واقتصر الاهتمام على استهداف عناصر داعش والقاعدة على الأراضي الليبية بغارات جوية.
يقيّم وليم بيرنز الدور الأمريكي في ليبيا قائلاً: "ساعدنا في منع وقوع مجزرة، ولعبنا دوراً حاسماً في تدخل عسكري ناجح من الناحية التكتيكية، لكن أخطأنا في افتراضاتنا على المدى المتوسط؛ حيث بالغنا بشدة في تقدير قدرة البلاد على الصمود في مرحلة ما بعد القذافي، وقللنا من شراسة رد الفعل المعادي للثورة، بما في ذلك دور مصر وبعض أقرب شركائنا في الخليج. وكان هناك الكثير من التفكير بالتمني حول التزام أقرب حلفائنا الأوروبيين بالانخراط في ليبيا، وسوء تقدير لمدى صعوبة تجميع أي مظهر من مظاهر النظام السياسي في مجتمع جرّده القذافي من المؤسسات الحديثة، بعد أن فتت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لحمايته من الانقلابات، ومنع ظهور هيئات تشريعية أو أحزاب سياسية أو قضاء مستقل يمكن أن يتحدى سلطته".
من الجمود في عهد ترامب إلى النشاط في عهد بايدن
عقب الانسحاب في عهد أوباما، سادت الخلافات حول الانخراط في الملف الليبي داخل إدارة ترامب، فبحسب وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في مذكراته، أراد مستشار الأمن القومي جون بولتون دعم خليفة حفتر، ولم يوافق بومبيو على ذلك، ولكن مع اندلاع الحرب في أوكرانيا في عام 2022، وتوقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، وانتشار عناصر فاغنر في إفريقيا، وبالأخص في تشاد ومالي والسودان وإفريقيا الوسطى، بدأ الملف الليبي يحظى بأولوية لدى صناع القرار في واشنطن، بهدف تقويض النفوذ الروسي في ليبيا، وتأمين استمرار عمل حقول النفط وتصديره لأوروبا، وإنهاء حالة الصراع الداخلي التي سمحت لأطراف خارجية بالتلاعب في المشهد.
تحت ضغط العقوبات الاقتصادية ووصول معدل البطالة في ليبيا إلى 30% والتضخم إلى 50%، بحسب وليم بيرنز، مدير الـ"سي آي أيه" الحالي، ونائب وزير الخارجية الأمريكي، في مذكراته، وافق القذافي في عام 1999 على تسليم الشخصين المتهمين بتنفيذ حادث لوكيربي، وبدأ مفاوضات سرية مع المسؤولين الأمريكيين برعاية بريطانية. وعقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حكم العراق عام 2003، قرر القذافي التخلي طوعاً عن برامجه النووية، وتسليم أسلحته الكيميائية، ودفع تعويضات لضحايا لوكيربي بواقع 10 ملايين دولار لكل متوفى، كما سلم بيانات عناصر الجماعات المسلحة التي دعمها سابقاً في دول عديدة، وتعاون مع أمريكا في حربها على الإرهاب، وذلك مقابل حصوله على تعهد بعدم تغيير نظامه بالقوة، وبذلك فتح القذافي صفحة جديدة في علاقاته مع الغرب.
التدخل ضد نظام القذافي
بعد أيام قليلة من تنحي مبارك، تصاعدت الاحتجاجات في ليبيا، وسقطت بنغازي في يد الثوار، وأصبحت ليبيا بدلاً من مصر حاضرة على شاشات التلفزيون في البيت الأبيض، وفرضت نفسها على جدول أعمال رئيس الولايات المتحدة، بحسب "بين رودس"، نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في عهد أوباما.
وفي 22 فبراير/شباط 2011، ألقى القذافي خطابه الشهير الذي تعهد فيه بتطهير بيوت وشوارع وحارات ليبيا من الثوار، ففرضت واشنطن تجميداً على ممتلكات القذافي، وأرسل له أوباما رسائل يطلب منه خلالها مغادرة ليبيا لتجنب اندلاع حرب أهلية، لكن القذافي رفض. وبحسب بين رودس، فإن معظم مسؤولي الإدارة الأمريكية مثل روبرت غيتس، وزير الدفاع، وبايدن نائب الرئيس، لم يؤيدوا اتخاذ إجراء تجاه ليبيا، بحجة أنه لا توجد مصلحة وطنية حيوية لأمريكا على المحك، وأنه ليس لديهم أي فكرة إلى أين قد يؤدي التدخل العسكري، فيما أوضح قادة الجيش الأمريكي لأوباما أن ليبيا لا تمثل أولوية لديهم، وأنهم يخوضون حربين في العراق وأفغانستان، ولا يودون خوض حرب ثالثة في الوقت ذاته.
لكن عدداً من الدول العربية مثل الإمارات والأردن أبدت رغبتها في المشاركة ضمن حملة عسكرية ضد القذافي، وبحسب وليم بيرنز أرادت إدارة أوباما استعادة ثقة زعماء تلك الدول بعد التخلي عن مبارك، وهو ما تزامن مع مساعي الرئيس الفرنسي ساركوزي لإصدار قرار من مجلس الأمن، بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، ما منح الحملة العسكرية شرعية دولية.
بعد تواصل أوباما مع ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، قرر مجلس الأمن القومي الأمريكي، في 15 مارس/آذار، الشروع في عملية عسكرية محدودة، تعتمد على القصف الجوي للقضاء على الدفاعات الجوية للقذافي وقواته البرية، على أن يتولى الأوروبيون قيادة العملية بعد فترة وجيزة، وذلك لتهدئة مخاوف الجيش الأمريكي من الانخراط في مستنقع ليبي. وبحسب رودس، أراد أوباما عملية متعددة الأطراف بدون مشاركة قوات برية، وأهداف محدودة تتعلق بإنقاذ الأرواح، دون فرض حكم نظام جديد على الليبيين، لتجنب تكرار الفشل الأمريكي في بغداد وكابول.
قُتل القذافي في مدينة سرت، وبحسب بيرنز، فقد تكلف البنتاغون أقل من مليار دولار، وهو نصف ما أنفقه آنذاك في أفغانستان أسبوعياً، ونفذ الأوروبيون والعرب 90% من الغارات الجوية، وعاد إنتاج النفط لذروته، ولكن تعرضت جهود واشنطن لانتكاسة في عام 2012، مع مقتل السفير الأمريكي في ليبيا كريس ستيفنز رفقة 3 آخرين في بنغازي، فسحبت إدارة أوباما البعثة الأمريكية الدبلوماسية من طرابلس، وتراجعت رغبتها في الانخراط بشكل عميق في الملف الليبي، واقتصر الاهتمام على استهداف عناصر داعش والقاعدة على الأراضي الليبية بغارات جوية.
يقيّم وليم بيرنز الدور الأمريكي في ليبيا قائلاً: "ساعدنا في منع وقوع مجزرة، ولعبنا دوراً حاسماً في تدخل عسكري ناجح من الناحية التكتيكية، لكن أخطأنا في افتراضاتنا على المدى المتوسط؛ حيث بالغنا بشدة في تقدير قدرة البلاد على الصمود في مرحلة ما بعد القذافي، وقللنا من شراسة رد الفعل المعادي للثورة، بما في ذلك دور مصر وبعض أقرب شركائنا في الخليج. وكان هناك الكثير من التفكير بالتمني حول التزام أقرب حلفائنا الأوروبيين بالانخراط في ليبيا، وسوء تقدير لمدى صعوبة تجميع أي مظهر من مظاهر النظام السياسي في مجتمع جرّده القذافي من المؤسسات الحديثة، بعد أن فتت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لحمايته من الانقلابات، ومنع ظهور هيئات تشريعية أو أحزاب سياسية أو قضاء مستقل يمكن أن يتحدى سلطته".
من الجمود في عهد ترامب إلى النشاط في عهد بايدن
عقب الانسحاب في عهد أوباما، سادت الخلافات حول الانخراط في الملف الليبي داخل إدارة ترامب، فبحسب وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في مذكراته، أراد مستشار الأمن القومي جون بولتون دعم خليفة حفتر، ولم يوافق بومبيو على ذلك، ولكن مع اندلاع الحرب في أوكرانيا في عام 2022، وتوقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، وانتشار عناصر فاغنر في إفريقيا، وبالأخص في تشاد ومالي والسودان وإفريقيا الوسطى، بدأ الملف الليبي يحظى بأولوية لدى صناع القرار في واشنطن، بهدف تقويض النفوذ الروسي في ليبيا، وتأمين استمرار عمل حقول النفط وتصديره لأوروبا، وإنهاء حالة الصراع الداخلي التي سمحت لأطراف خارجية بالتلاعب في المشهد.
تحت ضغط العقوبات الاقتصادية ووصول معدل البطالة في ليبيا إلى 30% والتضخم إلى 50%، بحسب وليم بيرنز، مدير الـ"سي آي أيه" الحالي، ونائب وزير الخارجية الأمريكي، في مذكراته، وافق القذافي في عام 1999 على تسليم الشخصين المتهمين بتنفيذ حادث لوكيربي، وبدأ مفاوضات سرية مع المسؤولين الأمريكيين برعاية بريطانية. وعقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حكم العراق عام 2003، قرر القذافي التخلي طوعاً عن برامجه النووية، وتسليم أسلحته الكيميائية، ودفع تعويضات لضحايا لوكيربي بواقع 10 ملايين دولار لكل متوفى، كما سلم بيانات عناصر الجماعات المسلحة التي دعمها سابقاً في دول عديدة، وتعاون مع أمريكا في حربها على الإرهاب، وذلك مقابل حصوله على تعهد بعدم تغيير نظامه بالقوة، وبذلك فتح القذافي صفحة جديدة في علاقاته مع الغرب.
التدخل ضد نظام القذافي
بعد أيام قليلة من تنحي مبارك، تصاعدت الاحتجاجات في ليبيا، وسقطت بنغازي في يد الثوار، وأصبحت ليبيا بدلاً من مصر حاضرة على شاشات التلفزيون في البيت الأبيض، وفرضت نفسها على جدول أعمال رئيس الولايات المتحدة، بحسب "بين رودس"، نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في عهد أوباما.
وفي 22 فبراير/شباط 2011، ألقى القذافي خطابه الشهير الذي تعهد فيه بتطهير بيوت وشوارع وحارات ليبيا من الثوار، ففرضت واشنطن تجميداً على ممتلكات القذافي، وأرسل له أوباما رسائل يطلب منه خلالها مغادرة ليبيا لتجنب اندلاع حرب أهلية، لكن القذافي رفض. وبحسب بين رودس، فإن معظم مسؤولي الإدارة الأمريكية مثل روبرت غيتس، وزير الدفاع، وبايدن نائب الرئيس، لم يؤيدوا اتخاذ إجراء تجاه ليبيا، بحجة أنه لا توجد مصلحة وطنية حيوية لأمريكا على المحك، وأنه ليس لديهم أي فكرة إلى أين قد يؤدي التدخل العسكري، فيما أوضح قادة الجيش الأمريكي لأوباما أن ليبيا لا تمثل أولوية لديهم، وأنهم يخوضون حربين في العراق وأفغانستان، ولا يودون خوض حرب ثالثة في الوقت ذاته.
لكن عدداً من الدول العربية مثل الإمارات والأردن أبدت رغبتها في المشاركة ضمن حملة عسكرية ضد القذافي، وبحسب وليم بيرنز أرادت إدارة أوباما استعادة ثقة زعماء تلك الدول بعد التخلي عن مبارك، وهو ما تزامن مع مساعي الرئيس الفرنسي ساركوزي لإصدار قرار من مجلس الأمن، بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، ما منح الحملة العسكرية شرعية دولية.
بعد تواصل أوباما مع ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، قرر مجلس الأمن القومي الأمريكي، في 15 مارس/آذار، الشروع في عملية عسكرية محدودة، تعتمد على القصف الجوي للقضاء على الدفاعات الجوية للقذافي وقواته البرية، على أن يتولى الأوروبيون قيادة العملية بعد فترة وجيزة، وذلك لتهدئة مخاوف الجيش الأمريكي من الانخراط في مستنقع ليبي. وبحسب رودس، أراد أوباما عملية متعددة الأطراف بدون مشاركة قوات برية، وأهداف محدودة تتعلق بإنقاذ الأرواح، دون فرض حكم نظام جديد على الليبيين، لتجنب تكرار الفشل الأمريكي في بغداد وكابول.
قُتل القذافي في مدينة سرت، وبحسب بيرنز، فقد تكلف البنتاغون أقل من مليار دولار، وهو نصف ما أنفقه آنذاك في أفغانستان أسبوعياً، ونفذ الأوروبيون والعرب 90% من الغارات الجوية، وعاد إنتاج النفط لذروته، ولكن تعرضت جهود واشنطن لانتكاسة في عام 2012، مع مقتل السفير الأمريكي في ليبيا كريس ستيفنز رفقة 3 آخرين في بنغازي، فسحبت إدارة أوباما البعثة الأمريكية الدبلوماسية من طرابلس، وتراجعت رغبتها في الانخراط بشكل عميق في الملف الليبي، واقتصر الاهتمام على استهداف عناصر داعش والقاعدة على الأراضي الليبية بغارات جوية.
يقيّم وليم بيرنز الدور الأمريكي في ليبيا قائلاً: "ساعدنا في منع وقوع مجزرة، ولعبنا دوراً حاسماً في تدخل عسكري ناجح من الناحية التكتيكية، لكن أخطأنا في افتراضاتنا على المدى المتوسط؛ حيث بالغنا بشدة في تقدير قدرة البلاد على الصمود في مرحلة ما بعد القذافي، وقللنا من شراسة رد الفعل المعادي للثورة، بما في ذلك دور مصر وبعض أقرب شركائنا في الخليج. وكان هناك الكثير من التفكير بالتمني حول التزام أقرب حلفائنا الأوروبيين بالانخراط في ليبيا، وسوء تقدير لمدى صعوبة تجميع أي مظهر من مظاهر النظام السياسي في مجتمع جرّده القذافي من المؤسسات الحديثة، بعد أن فتت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لحمايته من الانقلابات، ومنع ظهور هيئات تشريعية أو أحزاب سياسية أو قضاء مستقل يمكن أن يتحدى سلطته".
من الجمود في عهد ترامب إلى النشاط في عهد بايدن
عقب الانسحاب في عهد أوباما، سادت الخلافات حول الانخراط في الملف الليبي داخل إدارة ترامب، فبحسب وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في مذكراته، أراد مستشار الأمن القومي جون بولتون دعم خليفة حفتر، ولم يوافق بومبيو على ذلك، ولكن مع اندلاع الحرب في أوكرانيا في عام 2022، وتوقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، وانتشار عناصر فاغنر في إفريقيا، وبالأخص في تشاد ومالي والسودان وإفريقيا الوسطى، بدأ الملف الليبي يحظى بأولوية لدى صناع القرار في واشنطن، بهدف تقويض النفوذ الروسي في ليبيا، وتأمين استمرار عمل حقول النفط وتصديره لأوروبا، وإنهاء حالة الصراع الداخلي التي سمحت لأطراف خارجية بالتلاعب في المشهد.
ولذا نجد، في سبتمبر الماضي ليزلي أوردمان، القائم بأعمال السفير الأمريكي في ليبيا، يجتمع مع رئيس الوزراء المكلف من البرلمان باشاغا، لحثه على تجنب تصعيد العنف في طرابلس، ثم في يناير من العام الجاري زار وليم بيرنز طرابلس للاجتماع مع رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، كذلك زار بيرنز الرجمة للاجتماع مع حفتر، كما اجتمع قائد القوات الجوية الأمريكية في القيادة الإفريقية "أفريقوم"، الجنرال جون دي لامونتاني، مع حفتر، ثم حضر وفد أمريكي رفيع المستوى اجتماعات لجنة "5 زائد 5″، المعنية بوقف إطلاق النار وإخراج القوات الأجنبية من ليبيا، وهي خطوات تتزامن مع التقارب التركي مع الإمارات ومصر، ما يشير إلى توجه أمريكي بإعادة ترتيب المشهد الليبي، وحث الحلفاء الإقليميين على التفاهم فيما بينهم، وإيجاد صيغة لتشكيل حكومة جديدة تُنهي حالة الصراع المستمرة منذ نحو عقد، وهو مسعى تكتنفه معوقات عديدة، ترتبط بمصالح الفرقاء الليبيين المتضاربة، والخلافات الشخصية والجهوية التي أسهمت في ديمومة النزاع وتشظّي المكونات المختلفة بشكل متكرر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق