الثلاثاء، 12 ديسمبر 2023

ما حكم النفير للجهاد في سبيل الله دون إذن الوالدين؟


ما حكم النفير للجهاد في سبيل الله دون إذن الوالدين؟
د. حاكم المطيري

ج/ عامة الفقهاء كمالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد يشترطون في الجهاد إذا كان فرض كفاية إذن الوالدين المسلمين، وقال الثوري وحتى الوالدين غير المسلمين لأن برهما واجب، ما لم يتعين الجهاد، فإذا أصبح فرض عين؛ فلا يشترط إذنهما، ومن ذلك: إذا هجم ودهم العدو على بلد مسلم، ولم يستطع أهلها دفعه؛ وجب على كل قادر على غوثهم ونصرتهم الدفع عنهم؛ فلا إذن للوالدين.

والصحيح: أن اشتراط إذن الوالدين المنصوص عليه في كتب الفقهاء ليس على إطلاقه، فإذا كان الوالد يمنع ولده من الجهاد لغير سبب مشروع فلا طاعة له؛ كالأب المنافق كما قال الإمام الشافعي: (أي الأبوين أسلم كان حقا على الولد ألا يغزو إلا بإذنه إلا أن يكون الولد يعلم من الوالد نفاقا؛ فلا يكون له عليه طاعة في الغزو)!

فلا يشترط إذن الوالد المنافق كما المشرك، وهو من يعرف ولده من حاله أنه يبغض الإسلام وأهله ولا يحب نصره!

وكذا إذا كان جهاد الابن لا يترتب عليه ضرر بالوالدين ولا عقوق لهما؛ فله الذهاب دون إذنهما، إذا السبب الذي لأجله اشترط الشارع إذنهما هو حاجتهما لرعاية ابنهما لهما؛ كما في حديث الصحابي الذي استأذن النبي ﷺ في الخروج في الجهاد؛ فقال له: “ألك أبوان؟ قال نعم، قال: ففيهما فجاهد”، وذلك برعايتهما وقضاء حوائجهما، وكما في الحديث: “كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت”..

وكما قال ابن حزم:

(ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم أذن الأبوان أم لم يأذنا؛ إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده، فلا يحل له ترك من يضيع منهما).

ولهذا نص الحنفية على ذلك حتى في السفر لطلب العلم (لا يباح له الخروج للتفقه بغير إذن والديه إذا كان يخاف الضيعة عليهما)، فاعتبروا هنا وصف الضيعة، فاعتبره ابن حزم حتى في جهاد الدفع الذي هو فرض عين!

فدل على أنه الوصف الذي يعلل به حكم المنع، فإذا كان الوالدان ليسا في حاجة ولدهما، ولا يتضرران من خروجه للجهاد، ولا يمنعانه عادة من السفر المباح، فالذي يظهر أنه لا يشترط إذنهما لخروجه لجهاد فرض الكفاية أيضا!

وأما تعليل الحكم بمراعاة شفقتهما عليه وعدم إدخال الحزن عليهما الذي ينافي برهما، فالصحيح أنه وصف غير ظاهر ولا منضبط وغير صالح للتعليل؛ إذ لا خلاف بين الفقهاء على أن للولد أن يستقل عن والديه -حين البلوغ والرشد- في حياته وزواجه وسكنه وعمله، وأن يضرب في الأرض في طلب الرزق، مع أن ذلك كله قد يدخل عليهما الحزن، وكذا التعليل بالخوف عليه، هو وصف غير ظاهر ولا منضبط، إذ قد يخاف بعض الوالدين على ولدهما حتى من خروجه في المباحات التي لا خطر فيها!

وهذا كله ما لم يصبح الجهاد فرضا على الأعيان، كما قال الإمام الكاساني:

(وكل سفر لا يشتد فيه الخطر يحل له أن يخرج إليه بغير إذنهما، إذا لم يضيعهما؛ لانعدام الضرر، ومن مشايخنا من رخص في سفر التعلم بغير إذنهما؛ لأنهما لا يتضرران بذلك بل ينتفعان به، فلا يلحقه سمة العقوق، هذا إذا لم يكن النفير عاما، فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد، فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه)، وقال ابن قدامة الحنبلي: (ومتى تعين الجهاد، فلا إذن لأبويه؛ لأنه صار فرض عين، فلم يعتبر إذنهما فيه، كالحج الواجب، وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركه؛ لأن تركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده، ونحو ذلك. وإن أراد سفرا غير واجب، فمنعاه منه، لم يجز له؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، “قال ارجع إليهما فأضحكهما”).

ما معنى كون الجهاد فرض عين في غزة وفلسطين ومن حولهم من المسلمين وكيف يقوم به كل قادر، مع وجود الحدود بين الدول؟

ج/ كون الجهاد فرض عين في بعض الحالات، كما إذا دخل العدو بلدا مسلما، هو أنه يجب على كل قادر من أهلها الجهاد بنفسه، أو ماله، أو بعمله، وجهده، ورأيه، وقوله، وأن يشارك فيه الجميع، كل بحسب ما ييسره الله له، وما يحسنه، وما يستطيعه، ومعلوم أن الجيوش فضلا عن غيرها مع تعين القتال في حق الجند عند اللقاء بالعدو، ففيهم من هو في الساقة، ومنهم من يحمل الجرحى، ومنهم من يعالجهم، ومنهم من يعد طعامهم، فكل هؤلاء يؤدون الفرض العيني.

‏وكذا من يدرب على القتال، ومن يشتغل في كل قطاع ومجال لتعزيز قدرة المجاهدين، فمن خلفهم في أهاليهم خيرا وقام على رعاية أولادهم وعجائزهم فقد شارك في الجهاد، كما قال النبي ﷺ (ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا).

‏وكذا من وراءهم من المسلمين إذا لم يستطع أهل البلد دفع العدو، صار الجهاد بحقهم فرض عين على من قرب منهم ومن استطاع الوصول إليهم دون مسافة قصر الصلاة، ثم على من وراءهم من أهل البلدان مسافة القصر، حتى يعم الجميع إلى أن يدفع الله العدو عنهم.

‏وليس الناس في القدرة على نجدتهم سواء، فيجب على الرؤساء وقادة الجيوش والجماعات الجهادية من نصرتهم وإغاثتهم ما لا يجب على العامة، ويجب على كل من تيسر له المسير إليهم، ما لا يجب على من تعذر عليه ذلك، ويجب على من قرب ما لا يجب على من بعد عنهم.

‏ومن المشاركة في الجهاد في البلد المحتل أو غيره من البلدان حولهم: تحريض الأمة عليه في المساجد والمدارس ومجامع الناس، وحث الشباب على إعداد العدة، والاستعداد، كما قال تعالى:﴿وحرض المؤمنين﴾. 

‏فالوجوب العيني كما هو شأن كل واجب منوط بالقدرة والاستطاعة وإجادة كل أحد فيما يحسنه فيه، كما قال النبي ﷺ لشاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه: (اهجهم وروح القدس معك).

‏فالشيخ يحرض في مسجده، والإعلامي في منصته، والكاتب بقلمه، والمفكر برأيه، فكل هؤلاء يشاركون في أداء فرض العين، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وفي الحديث: (كل ميسر لما خلق له).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق