الهجرة والإقلاع الحضاري
في كتابه الشهير (التغيير العالمي نحو بشرية أكثر إنسانية) قال (إيدموند. ج. بورن): “إن أعدادًا متزايدة من الأفراد المهتمين تعلو أصواتهم بقناعة جماعية مفادها أن العالم لا يحتاج سوى نظرة جديدة للمستقبل، تعتمد على نظام قيمي جديد”، هذه الصيحة التي تبدو -برغم ما فيها من إبهام- معبرة عن رغبة إنسانية عارمة في التغيير، سبقتها صيحة أكثر وضوحًا للمفكر الألماني المسلم مراد هوفمان، نصها: “يتوقع كثير من المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم… فليس الإسلام بديلًا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربي، بل هو البديل”، فهل ستتحقق النبوءات الكثيرة التي تبشر بتحول حضاري قادم يُسلّم الراية للأمة الإسلامية؟ وهل جاء “طوفان الأقصى” بترتيب رباني ليدق المسمار الأخير في نعش الحضارة المعاصرة؟ وهل ستكون الهجرة بقيمها ومعانيها ملهمة وباعثة نحو التغيير الكبير؟
الهجرة بجانبيها باعثة وملهمة
وما من شك في أن الهجرة تُعدّ الحدث الأبرز في مسيرة الأمة الإسلامية، حيث كانت الجسر الذي عبر عليه الرعيل الأول من حال الضعف والاقتهار إلى حال العزّ والاقتدار، ولا يزال هذا الحدث الفذّ ملهمًا وباعثًا، فكيف يمكن أن نوظّفه لإحياء الأمة وبعثها من جديد؟ حتى تنتقل من حال التبعية والاستبداد إلى حال الاستقلال والرشاد؟ هذا هو السؤال الأجدى من بين الأسئلة التي تطرح نفسها على بساط الذكرى السنوية، فأما الهجرة الحسية فقد انقضى شطر منها بالفتح: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وبقي شطر آخر يتجدد كلما تجدد للأمة تمكين: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»، وحكمها الوجوب عند المالكية ومن وافقهم كالظاهرية والإباضية، والاستحباب عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة ومن وافقهم كالزيدية، والخلاصة المتفق عليها عند أهل الإسلام أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مشروعة على الدوام.
أمّا الهجرة المعنوية -وهي بلا شك مستلهمة من حادث الهجرة-، فهي الأكثر دوامًا ومقامًا واستقرارًا واستمرارًا، إنها الهجرة إلى الله ورسوله، الهجرة إلى الله بالتوبة، وإلى رسول الله بالاقتداء والاهتداء، إنها الهجرة المطّردة بهجر مواطن السوء ومظانّ الرذيلة ومواضع الفتنة ومجامع التقصير والتفريط والتضييع، إنها الهجرة الدائمة الدائبة من الضعف والهوان إلى القوة والعزّ والتمكين، ومن التبعية المهينة إلى الاستقلال العزيز، ومن العبودية العقيمة إلى الحرية الكريمة، ومن الخنوع والانبطاح إلى النضال والكفاح، ومن أغوار الجهل إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن العَيّ والقعود إلى الطموح والمواثبة والمغالبة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن اتباع كل ناعق إلى اتباع الهدى بوسطيته وربانيته وحنيفيته السمحة، هذه هي الهجرة التي ننتظرها ونستدعيها ونسعى إليها، وإن كنا لا نفرط في الأخرى إذا جاء وقتها وحلّ زمانها.
الهجرة والمقصد الأسنى
لا تثريب على من قصد بهجرته الفرار بدينه من الفتن، ولا حتى على من تغيَّا بها إحراز نفسه وماله وولده من الطغاة المجرمين، لأن هذا حقّ قرره القرآن لكل إنسان: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، لكن بالنسبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته لم تكن هذه الغايات إلا تالية للغاية الأمّ وتابعة لها، أما الغاية الأمّ من الهجرة فهي التمكين لدين الله عزّ وجل، بالدعوة والبيان ثم بالدولة والسِّنان، تلك هي الغاية الحقيقية والمحورية، وقد كان كلّ واحد من الصحابة الأوائل قادرًا على أن يجرّد سيفه فلا يضعه حتى يقضي الله بينه وبين من رام إخراجه من بلده، فلم يدفعهم إلى الهجرة إلى الحبشة أولًا ثم إلى يثرب ثانيًا ضعف عن المقاومة، ولا زهد في الوطن والدار، وإنما كانوا أصحاب قضية كبيرة ورسالة عظيمة، هي التي دفعتهم لأن يتجشموا عناء الهجرة وآلام مفارقة الأوطان، وأن يكفُّوا عن المواجهة المسلحة مع الجاهلية في وقت مبكر، لتولد الرسالة بما تحمله من حقّ في جوّ يناسب الميلاد ويلائم الانطلاقة الأولى، وهذه هي التضحية الكبرى المخلصة التي قام عليها بنيان الإسلام ثم البنيان الحضاريّ لأمة الإسلام، وهذا هو الرشد الكبير والنضج الحركيّ العالي الذي يُعدّ الشرط الأول والأكبر للوثوب النهضويّ والإقلاع الحضاريّ.
قاعدة متوازنة لانطلاقة متّزنة
أَلَمْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على يقين من عناية الله به في رحلته ومن حمايته له في ظَعْنه وإقامته؟ فلماذا يعتني بالترتيب والتدبير ويدقق في رسم الخطة وإحكامها؟ إنه التوازن العميق الوثيق، التوازن بين التوكل على الله واستمداد العون والنصر منه وبين السعي الدؤوب والإعداد الجاد، كم نحن بحاجة إلى مثل هذا التوازن، بل وإلى مكوناته أيضًا، كم نحن بحاجة إلى ديمومة المعادلة بشقيها وتكرارها، فما أحوجنا إلى التوكل والاعتماد والاستناد، ذلك الذي يقوي الضعيف ويجرئ الخائف ويدفع المتردد دفعًا صوب المواجهة، فإذا بالمعادلة تنقلب، ليصبح الغالب ببطشه وإرهابه مغلوبًا مدحورًا، ويغدو المغلوب المستضعف غالبًا ظاهرًا على عدوه، وما أحوجنا كذلك إلى أن نخرق حاجز السكون والصمت، وندلف إلى ساحات التدافع بفكر ووعي وفهم، وعمل وكفاح ونضال، ومصابرة ومثابرة، ومواثبة ومغالبة، تلكم هي دروس الهجرة الواعدة.
شرطية صارمة
وبما أن الهجرة كانت منصة الإقلاع الحضاريّ الكبير للأمة في عهدها الأول، فإن انطلاقة الأمة في عصرنا إلى آفاق حضارة إسلامية إنسانية رشيدة سوف تقوم على تلك الدروس التي قررتها ووثّقتها الهجرة المباركة، ولقد قيل لمن حدثتهم نفوسهم بالقعود في مكة إيثارًا للأهل والرحم والأرض والمال: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ}، فإذا كنا ننشد المعالي ونروم الانطلاق إلى التمكين فيجب أن تكون متطلبات هذا الدين العظيم أحب إلينا وأولى من كل متطلبات الدنيا، وها هي الأمة قد أيقظتها الضربات المتوالية، وها هو الجيل يستفيق اليوم على صيحة “طوفان الأقصى”، ليتخذ من الهجرة زادًا يمضي به في الطريق إلى الأقصى، وإلى ما بعد الأقصى من النصر والعزّ والاستقرار والاستخلاف في الأرض، والله غالب على أمره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق