“غزة المصرية”.. هل تصبح جزيرة الوراق شرارة التحرير لمصر كلها؟
كاتبة صحفية وباحثة سياسية
في صباح السادس عشر من يوليو/ تموز 2017 استيقظ أهالي جزيرة الوراق المصرية، بمحافظة الجيزة، على أصوات صراخ نساء وأطفال يواجهون آلات الحفر العملاقة، التي تسعى لهدم منازلهم فوق رؤوسهم، وتصدح مكبرات الصوت في مآذن المساجد باستغاثات تطالب الجميع بالدفاع عن الجزيرة ضد هجوم قوات الأمن عليهم.
فقد قامت جحافل من أفراد الجيش والشرطة باقتحام الجزيرة النيلية، وشرعوا في هدم عدد من المنازل، واشتبكوا مع المواطنين الذين رفضوا ترك بيوتهم، وطاردوهم في الشوارع والحقول، وأطلقوا عليهم الرصاص الحي والرصاص المطاطي، وقنابل الغاز، فارتقى أحد أفراد الجزيرة شهيدا، كما أصيب واعتقل العشرات في محاولة لإجبار أهلها على تسليم أراضيهم وبيوتهم، تنفيذا لقرار حكومي بإخلاء الجزيرة، وتسليمها لشركة إماراتية من أجل بناء مشروع استثماري سياحي فيها.
وبعد اشتباكات دامية، استبسل فيها الأهالي للدفاع عن أراضيهم ومنازلهم، اضطرت قوات الأمن للانسحاب، وتم إرجاء عملية الإخلاء خشية اتساع رقعة الصدامات، وتحوّلها لأحداث شغب موسعة، وذلك في ظل حالة الاحتقان والغضب لدى الشارع المصري من سوء الأحوال الاقتصادية، والارتفاعات الكبيرة في الأسعار، وتردي كافة الخدمات التي تقدمها الدولة.
وردا على اتهامات النظام المصري لأهالي الجزيرة، بأنهم اعتدوا على الأملاك العامة، نشر المحامي الحقوقي “خالد علي” في الـ17 من يوليو/ تموز 2017 على صفحته في الـ”فيس بوك” مستندات ملكية خاصة، وشهادات وفاة، تثبت حق أهالي جزيرة الوراق في منازلهم وأرضهم.
حيث أوضح أن مساحة الجزيرة الإجمالية تبلغ 1850 فدانا، منها 1810 أفدنة ملكيات خاصة، و40 فداناً فقط تملكها الحكومة، وأشار إلى نزاع سابق في بداية عام 2000 لنزع ملكية المواطنين بالجزيرة، إلا أن مجلس الدولة أصدر حكماً بوقف وإلغاء قرارات نزع الملكية، لافتا إلى صدور قرار من رئيس مجلس الوزراء الأسبق، عاطف عبيد، حمل رقم 848 لسنة 2001، بعدم جواز إخلاء أي مبنى مقام في جزيرتي الدهب والوراق، أو التعرض لحائزي الأراضي الزراعية فيهما.
وقد نشر المحامي عددا من المستندات تشمل شهادة وفاة لسيدة وُلِدت في الجزيرة منذ مائة عام، وعقود بيع مشهرة منذ عامي 1905 و1923 ميلادية، وعقدا مشهرا بتاريخ 1313 هجرية، ورخصة مبان صادرة في عام 1994.. وجميعها من أوراق ثبوت الملكية للأهالي، التي تدحض تماما ادعاءات النظام المصري.
وقد انتقد المحامي الحقوقي ذلك الهجوم الوحشي لقوات الأمن على الجزيرة، ومحاصرته لها بمنع المعدّيات (قوارب نهرية) من العمل، حيث وصف أوضاعهم، بأنها شبيهة بالعالقين على حدود الدول المحتلة”. وأضاف مستنكراً: “مُنع المرضى من الذهاب إلى المستشفيات، والطلبة من الذهاب إلى امتحانات الدور الثاني، والمحامون من الذهاب إلى المحاكم، والموظفون والحرفيون من الذهاب إلى أشغالهم”، وختم بقوله: “أي عبث هذا الذي نحياه؟ وأي سلطة غاشمة تلك التي تقرر حصار مواطنيها على هذا النحو المجنون؟!”.
وانتقدت منظمات حقوقية ذلك الحصار المفروض على الجزيرة، عقب انسحاب قوات الأمن منها، وأشارت إلى محاولات السلطة تجويع السكان، حيث توقف المخبز الخاص بالجزيرة عن العمل لفترة من الوقت، بسبب عدم حصوله على حصة الدقيق اليومية من وزارة التموين، قبل أن تسمح شرطة المسطحات المائية بتشغيل معدّيات الجزيرة مرة أخرى، مع تمركز للشرطة النهرية بالقرب منها.
إلا أن عمليات الاقتحام، وحملات الاعتقالات تكررت خلال أعوام 2018 و2019 و2022 و2023، وأصدِرَت أحكام بالسجن بحق كثيرين، لمدد تتراوح بين خمسة أعوام و25 عاما، والتهم هي: التجمهر واستعمال القوة والعنف وعرقلة تنفيذ قرارات الدولة. كما تم غلق المستشفى الوحيد الموجود في الجزيرة، ومكتب البريد الحكومي فيها، إمعانا في التنكيل بساكنيها.
وكانت تخرج المقاطع المصورة لأهالي الجزيرة، عقب كل اقتحام لها، يعلنون فيها تمسكهم بأرضهم، ورفضهم التام التخلي عنها، ويتظاهرون مرددين هتافات: “مش خارجين، مش خارجين، إحنا فيها ميتين”، و”هي بلدنا مش تكية، مش هنسيبها (نتركها) للحرامية”، و”جوا مصر من الوراق، مش في سورية ولا العراق”.. وغيرها من العبارات الغاضبة، التي يعلنون فيها سخطهم على النظام العسكري مثل: “يسقط يسقط حكم العسكر”، و”إرحل يا سيسي”.
وقد أكد مركز “الأرض” لحقوق الإنسان أن التعدي على سكان جزيرة الوراق يعدّ تعدياً على حقوقهم في الملكية والأمان والسكن، بالمخالفة الصريحة لمواد الدستور المصري، وبأنه قد مورس ضدهم الإخلاء القسري (الإبعاد غير الطوعي للأشخاص من ديارهم وأرضهم)، الذي يُعدّ بموجب القانون الدولي انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وأن الأهالي مازالوا يقاومون رغم بطش السلطات المصرية بهم.
وتُعد جزيرة الوراق هي الأكبر في نهر النيل، ويقترب عدد سكانها من 200 ألف مواطن، يشغلون قرابة 6 آلاف منزل، وتحتل الجزيرة موقعاً فريدا على نهر النيل، حيث تمثّل حلقة الوصل بين محافظات القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية)، كما تعتبر من أهم المناطق الزراعية، إذ تشغل الأراضي المزروعة فيها أكثر من نصف مساحتها، وتنتج أجود أنواع المحاصيل، ويعمل معظم سكانها بالزراعة والصيد.
وتعد الوراق ومعها جزر نيلية أخرى محميات طبيعية وفقاً لقرار رئيس الوزراء رقم 1969 لسنة 1998، أي لا يجوز تجريف أراضيها شديدة الخصوبة، ولا الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، إلا أن رئيس الوزراء المصري السابق شريف إسماعيل، أصدر قراراً مفاجئاً يوم 19 يونيو/ حزيران 2017، باستبعاد 17 جزيرة وعلى رأسها الوراق من هذا القرار، وذلك لصالح شركة “آر إس بي” الإماراتية للتخطيط المعماري، والتي تم التعاقد معها عام 2013 بالشراكة مع اللجنة الهندسية للقوات المسلحة، وأسند لهما مسؤولية تطوير الجزيرة، وإقامة مشروع سياحي استثماري على أراضيها.
وفي أبريل/ نيسان 2019 أصدر السيسي قرارا جمهوريا بنقل تبعية الجزيرة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، تمهيدا لنزع ملكيات الأهالي فيها. وفي يوليو/ تموز 2022، كشفت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية عن تغيير اسم الجزيرة من “الوراق” إلى “مدينة حورس”، ونشرت، عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل، صورا لتصميمات المشروع الاستثماري، الذي قيل إنه يهدف إلى تحويل الجزيرة إلى مركز تجاري بمعايير عالمية تبلغ مساحته 1516 فدانا، أي ما يعادل 6,35 كلم مربع، بتكلفة إجمالية للمشروع تبلغ 17.5 مليار جنيه، ويشتمل على مناطق استثمارية وتجارية، ومنطقة إسكان متميزة، إلى جانب حديقة مركزية، ومارينا، ومراكز أعمال ومراكز تجارية، فضلا عن إنشاء قاعة للمؤتمرات، وفنادق 7 نجوم، ومهبط لطائرات الهليكوبتر.
وبنهاية عام 2022، أبلغ وزير الإسكان “عاصم الجزار” رئيس الوزراء “مصطفى مدبولي”، بأن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، قد استحوذت على 888 فداناً، ما يشكل نسبة 71% من إجمالي مساحة الجزيرة، وأن عدد المنازل التي انتقلت أو يجري نقل ملكيتها بلغ نحو 2458 منزلاً، فضلاً عن الاستيلاء على أراضي الأوقاف بالكامل.
وبالرغم من هذا كله، فقد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة العديد من المقاطع المصورة لأهالي جزيرة الوراق، وهم يواجهون قوات الشرطة المصرية، ويرفضون تعدياتهم على أملاكهم بحجة حصر الأراضي وتسجيلها، ومشاهد أخرى لتظاهرات يعلنون فيها رفضهم للحكم العسكري، ويطالبون السيسي بالرحيل، مع التأكيد مجددا على تمسكهم بأرضهم، واستعدادهم للموت عليها، دون التنازل عن شبر واحد منها، وكأننا نرى تكرارا لنموذج قطاع غزة في صراعه مع المحتل الإسرائيلي.
فالممارسات الغاشمة والباطشة ذاتها تنتهجها قوات النظام العسكري المصري، من اقتحامات وقتل وإصابات واعتقالات، واعتداء على الممتلكات ومصادرتها، وحصار أصحابها والتضييق عليهم والتنكيل بهم.. وفي المقابل نرى شجاعة وصمود ووحدة أهالي الجزيرة في الدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم.
وفي الوقت الذي يُحكِم فيه السيسي ونظامه الأمني قبضته الحديدية الغاشمة على مصر كلها، ولا نكاد نرى تظاهرة تخرج من هنا أو هناك، تتحدى ذلك القمع غير المسبوق ومصادرة الحقوق والحريات، نجد جزيرة الوراق مستمرة ومثابرة ومجتمعة على نضالها ضد بطش النظام، ومتمسكة لآخر نفس في صدور أبنائها بحقهم في منازلهم وأرضهم، ما يجعلنا نتساءل، وكُلُّنا أمل: هل تصبح الوراق هي الشرارة لثورة قادمة، تطيح بالنظام المستبد، وتحرر مصر كلها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق