الأربعاء، 3 يوليو 2024

زمن الاستضعاف.. والتحرر!

 زمن الاستضعاف.. والتحرر!

م.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


 نحن أمة في زمن استضعاف، وأولى ضرورياتنا مطلقا هي: التحرر!

هذا التحرر لا بد له من قيادة تجمع بين الذكاء والجسارة والصبر.. وقليل ما هم!

فإذا وُجِدت هذه القيادة ذات الكفاءة فاظفر بها واقبض عليها بيدك وأسنانك، ودعك من كل ترهات الديمقراطية والتداول وكل ما من شأنه أن ينزع الرجل الكفء من مكانه المناسب، ليضع فيه غيره!

فإذا لم يوجد هذا القائد الكفء، فالمجموعة قد تقوم مقام الشخص، تجتهد وتثابر وتحاول، وإن كان رأيي أن مجموعة ممن يجتهدون لا تبلغ شأن القائد الموهوب.

على أنه يجب أن أقول مع ذلك..

إن أخطر العناصر التي يمكن أن توجد في قيادة عمل إسلامي هم ثلاثة:

القانونيون والدبلوماسيون والأكاديميون.. ولما تأملتُ وجدت أنه قد يجمعهم جميعا وصف “التنظيميين”!

1- فأما أهل القانون، فالندرة النادرة جدا جدا من الإسلاميين (مثل حازم أبو إسماعيل وعصام سلطان) هم من يعرفون أن القانون في بلادنا إنما صنع لغرض السيطرة على الناس لا لغرض خدمتهم ولا إيفاء الحقوق لهم..

وأما بقية الإسلاميين فإن ما فيهم من الدين والاستقامة الأخلاقية والغفلة عن تناقض النظام المعاصر مع النظام الإسلامي يثمر أن يكونوا قانونيين دولتيين ومواطنين صالحين.. فيسلبهم القانون وسمته وظاهريته وحرفيته ما يجب أن يكون فيهم من الثورية والجرأة والتقاط الفرصة.

وقد يكون القانوني ثوريا على الورق وفي الكتب ولكنه في واقع الحياة ظاهري دولتي تنظيمي قح، وقد كان من أهم أسباب هلكة الإخوان في مصر أن كان في قيادتها مطلع الخمسينات: حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وحسن عشماوي وأمثالهم. مع أن كتب عبد القادر عودة فيها من الثورية ما هو حقا في باب الغلو والشطط، وله كلام سيئ في معاوية رضي الله عنه.

2- وأما الدبلوماسيون فكإخوانهم أهل القانون.. إلا أن قانونهم ليس هو القانون المحلي، بل هو القانون الدولي والبروتوكول والتقاليد والأعراف الدبلوماسية..

وأسوأ هؤلاء من كان متدرجا على هذه الصيغة: بيت ثري، جامعة مرموقة، التحق بالسفارة، تدرج في العمل الدبلوماسي، حتى وصل وزيرا للخارجية..

فهذه هي الدائرة المغلقة الجهنمية التي لا يمكن معها أن يدرك هذا الدبلوماسي كيف تدار المعارك، ولا كيف هي الأهوال والمحن التي تجري على الأرض!

وأقل هؤلاء سوءا من يكون وزيرا للخارجية بعد عمل في الأمن والمخابرات أو بعد عمل تنظيمي على الأرض.. فساعتها يحسن أن يُنْجِز.

(انتبه معي: إنما أتكلم الآن عن الشخصيات التي لا تصلح في موقع قيادة الحركة الإسلامية في الزمن الحاضر.. أما أنها تتولى ملفات قانونية أو دبلوماسية فهذا شأن آخر.. وأما أنها تصلح قيادة في غير زمن استضعاف فهذا أيضا شأن آخر.. هذا تنبيه مهم جدا!!)

3- وأما الأكاديميون فالغالب عليهم، لا سيما من لم تكن له خبرة بالحياة، أنهم يتعاملون مع قضايا الناس كما يتعاملون مع المسألة الهندسية الرياضية البحتة، بمن في ذلك المتخصصون في العلوم الإنسانية..

وذلك إن إحدى مشكلات هذه العلوم المعاصرة أنها ثمرة حضارة غربية مادية، وهي لذلك نزَّاعة إلى التنميط، وهي بما لها من نزعة مادية تدفع بالمعارف والعلوم الإنسانية إلى أن تكون علوما مادية يقترب فيها الإنسان من كونه شيئا خاضعا لقوانين ثابتة ومضطردة.

لذلك فالعلوم الإنسانية ذاتها حفية بالإحصاء والأرقام والنسب، وهذا في ذاته ليس عيبا ولا مشكلة، ولكني أتحدث الآن عن النزعة الكامنة وراءه..

ومن هنا فإن الذي عُجِن وخُلِط بعالم الأكاديميا، ومناهجها البحثية، وتشكل عقله في تصور المسائل والقضايا على هذا النحو، ندر أن يحسن تصور الأمور على طبيعتها في الواقع.. ولابن خلدون كلمة بديعة جدا جدا في مقدمته عن هذا الأمر، وكيف أن كثيرا من العلماء لا يفهمون السياسة وأحوال الناس ويشتبه عليهم ما لا يشتبه على الجاهل ذي الفطرة، إذا هم تكونت عقولهم على آلية إلحاق المسائل ضمن أصول كلية معروفة كائنة في عقولهم.

(انتبه معي مرة أخرى.. هذا تنبيه مهم جدا: إنما أتكلم الآن عن الشخصيات التي لا تصلح في موقع قيادة الحركة الإسلامية في الزمن الحاضر.. أما أنها تتولى ملفات قانونية أو دبلوماسية أو علمية فهذا شأن آخر.. وأما أنها تصلح قيادة في غير زمن استضعاف فهذا أيضا شأن آخر)

قلتُ في طليعة هذا المنشور، إن ما يجمع هذه الأصناف الثلاثة أنهم “تنطيميون”.. أي بالمعنى الإداري الإجرائي التنفيذي..

وبالتالي يندرج معنا في ذلك كل من كانت شخصيته شخصية “الموظف”.. فتلك الشخصية لها سمات عامة من أهمها: قلة المبادرة، المحافظة على سير العمل كما هو، التخوف من الفرص، النزوع إلى سحب الذرائع (أن يكون الورق سليما وموقفه القانوني لا غبار عليه)، ضعف الطموح إلا في مدارج الترقي الثابتة التقليدية المتاحة… إلخ!

إن كثرة الموظفين في بلد ما ليس شيئا حسنا، وإنما هو من ثمرات تضخم الدولة الحديثة وجهازها الإداري لفرض مزيد من التوغل والسيطرة على الناس، وهو أمر بدأ في الغرب ثم جاء إلى بلادنا في زمن الاحتلال.. والآن يأخذ الغرب في إنقاص عدد موظفيه لا لأنه تخلى عن منطق الدولة الحديثة والهيمنة بل لأنه اكتشف الآلات التي يمكنها أن تؤدي المهمة بكفاءة أعلى وتكاليف أقل.

أما في بلادنا نحن فالأمر أشد سوءا.. فقد تضخم الموظفون في تاريخنا مع أزمنة الاحتلال وجهازه الإداري، لتحقيق هذه الهيمنة والسيطرة والتغول والتغلغل للدولة على المجتمع، وهذه السوأة الأولى.

ولئن كان الغرب مستقلا وساعيا إلى مزيد من التفوق قد سار على نحو جعل الموظف عندهم أكثر تفتحا وإبداعا وأقل خوفا ومحافظة، فإن الأمر في بلادنا على العكس من ذلك.. فالطغيان والاستبداد والدولة العنيفة جعلت الموظفين عبيدا لا يجرؤون على التفكير والإبداع، لأنه قد ثبت بالتجربة أن المبادرين المبدعين قد يكونون أول الخاسرين في حال لم يحقق إبداعهم الهدف المطلوب أو لم يكن على هوى السلطة المتوحشة!!

فكان الموظفون في بلادنا أتعس حالا..

ثم هم ظلوا يتضخمون مع استمرار التخلف في استعمال بلادنا للآلات، حتى صار ذلك سمتا ونمطا اجتماعيا غالبا حتى في الشركات الخاصة والصغيرة وفي بقية المساحات المتفاعلة.

وهذا ما يجعل خرِّيج هذه البيئة غير صالح في الغالب لأن يكون قيادة في زمن استضعاف، مهمتها التحرر.. فكافة المطلوب في هذه القيادة مفقود في هذه الطبيعة الشخصية.

ستكون قد أخطأت قراءة المنشور وفهمه إذا ظننت أنني أنتقد هذه الأنواع من الناس.. على العكس، ليس انتقادا، بل ربما كان النظر إليهم وإلينا كضحايا أولى من النظر بأي اعتبار آخر.

ولكنني أقصد بكل وضوح، ما كنت نبهت عنه مرتين، وسأكرره للمرة الثالثة: إنما أتكلم الآن عن الشخصيات التي لا تصلح في موقع قيادة الحركة الإسلامية في الزمن الحاضر.. أما أنها تتولى ملفات قانونية أو دبلوماسية أو علمية فهذا شأن آخر.. وأما أنها تصلح قيادة في غير زمن استضعاف فهذا أيضا شأن آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق