أهلا وسهلا بك في جنين.. خواطر قلب المكان
قلت مرارًا إن الكتابة بالنسبة لي حالة إدمان جزئي، وأرى أنّ الأمر قد تغير في الفترة الماضية، وهو ليس شفاءً من الإدمان، بل هو زُهد في القلم وما يسطر، وشعور بأن الكاتب أصبح يصرخ في فلاة موحشة.
فإذا كانت مقاطعُ فيديو وبثٌّ مباشر على مدار الساعة، لا يحركان ضمائر تبدو غير موجودة أو نائمة، ولا يوقظان إحساس مَن كانوا يريدون من العالم التعاطف مع كلبة كُسرت رجلها، وهم يرون مذبحة مستمرّة في غزة دون أن يرفّ لهم جفن؛ فما عساه ينفع قلم بيد خمسيني فلسطيني أنهكه العجز؟!
ولا يقتصر الأمر على الزهد في الكتابة بل يتعدّاه إلى القراءة، وهذا مخالف للأمر القرآني "اقرأ" الذي جاء في افتتاح الكتاب العزيز، ولكن متابعة الأحداث والأخبار مشغلة، وما يترتب عليها من تبعات نفسية يباعد بين القارئ وخير جلسائه.
أضف إلى ذلك شعورًا بأن عشرات آلاف الصفحات التي قرأها المرء في شتى أبواب العلوم والمعارف، عُجَرها وبُجَرها، غثها وسمينها، لم تنفع ولم تفد قارئها حتى على المستوى الشخصي البحت، اللهم إلا شقاء المعرفة والعلم.
كل معاناة أو نقص أو خراب، أو حتى دم مسفوك في جنين، تجد من أهلها مقارنة فورية بالحال في غزة، وكي يسدّوا منافذ الشيطان وتأكيدًا على وحدة الحال يردفون: "حنا مش أحسن من أهل غزة"
أهلًا بكم في جنين
تردّدت كثيرًا وانتابني شعور بالخجل قبل أن أخط هذه الكلمات؛ ذلك أن العبارة السائدة هنا في جنين هي: "الله يعين أهل غزة.. إحنا ما صرلنا شيء بالنسبة لغزة"، أو ما شئت من عبارات تحمل الفكرة نفسها والمعنى ذاته؛ تقولها الأم لطفلها الذي لا تعجبه وجبة غداء قرينُه في غزة يشتهيها بل يحلم بها، ويقولها الأب وهو ينقد ولده مبلغًا فيستهين به، ونظيره في غزة يتمنّى ربعه ليبتاع به ما يسد رمقه.
ويقولها الناس حين تنقطع الكهرباء سويعات قليلة في هذا الحرّ، وهم قد علموا أن الخيام في مناطق النزوح في قطاع غزة هي أفران يكابد فيها النازحون المكلومون حرارة صيف قائظ، وتلسعهم حشرات يعرفون اسم بعضها والآخر (طارئ) عليهم، ولكي يطبخوا إذا توفر لهم شيء يؤكل، عليهم إيقاد نار باستخدام حطب يجمعونه لتزداد الحرارة التي تلفح أجسادهم المنهكة ضعف ما هي عليه!
فكل معاناة أو نقص أو خراب، أو حتى دم مسفوك في جنين، تجد من أهلها مقارنة فورية بالحال في غزة، وكي يسدّوا منافذ الشيطان وتأكيدًا على وحدة الحال يردفون: "حنا مش أحسن من أهل غزة".
نعم.. لم أدخل في الموضوع، وما زلت فيما يراه القارئ الذي ملّ الأخبار والقراءة مقدمة طويلة مملّة، يمكن اختصارها أو ليس لها داعٍ أصلًا. ولكن اعلم – هداك الله – أن هذه ليست مقدمة بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي جزء من مشهد لن تتمكن من إدراك ماهيته بوضوح إذا رأيت بعضًا وغاب عنك بعض آخر.
أهلًا وسهلًا بك في جنين، حيث لا تستطيع المشي على قدميك أو بالسيارة إلا بصعوبة بالغة، دونها الاتساخ بالغبار أو الطين أو مياه الصرف الصحي، وإذا لم تكن حاذقًا قد تسقط وتتعرض لكسر أو رضوض.. أنت ونصيبك. هذا إذا اخترت السير على قدميك، أما في السيارة فالحفر كفيلة بـ (تهذيب) الإطارات وخلخلة عظام الراكب، وليس الخبر كالمعاينة.
وهذه الطرق والشوارع لا تكفّ جرافات جيش الاحتلال الإسرائيلي الضخمة المصفحة (D9) عن حفرها وتجريفها؛ بهدف تخريبها وإخراجها عن صلاحية الاستخدام، مما يستتبع أيضًا تخريب شبكات المياه والمجاري والكهرباء والاتصالات. وعندما أنظر من نافذة منزلي – وهذه مغامرة حيث هناك قناصة – وأرقب ما تقوم به الجرافة في الشارع القريب، من حفر، أكاد أحسب أن بين سائق الجرافة والإسفلت أو بديل الإسفلت (الكركار) ثأرًا وعداوة شخصية .
وفور انسحاب الجرافات وقوات الاحتلال التي لا تكاد تغادر جنين حتى تعود إليها من جديد – خاصة أيام الخميس، بحيث صار الأمر مادة للتندّر هنا، بأن تكون العطلة يوم الخميس- تبدأ طواقم البلدية والأشغال العامة وشرکات مقاولات متطوعة بمحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه، بحيث تستطيع سيارة واحدة السير بصعوبة فوق الركام الذي خضع لتمهيد وإزاحات تفي بالغرض نوعًا ما.. لا بأس، أهلًا بك في جنين!
أهلًا بك في مخيم جنين؛ من أين تريد الدخول؟ عفوًا.. فليس كل مدخل للمخيم مفتوحًا، فشبان المقاومة (كتيبة جنين) يغلقون بعض المداخل، وأيضًا خرّب الاحتلال جميع المداخل بجرافاته، وتم إصلاح واحد منها جزئيًا
مخیم جنين مركز الضفة
جنين مدينة صغيرة في حضن مرج ابن عامر، ويلتصق بها مخيم اللاجئين الحامل لاسمها من الجهة الغربية، وعليه فإننا إذا نظرنا إلى جنين ضمن كل الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر، أو ضمن ما کان حوله مفاوضات طويلة – أي الضفة الغربية- فإن موقع جنين ليس المركز ولا الوسط، إنها شمال الضفة، وبالنسبة لفلسطين الانتدابية هي أقصى (شمال الوسط).
ومعروف أنّ مدن ومناطق الأطراف ليست المحددة للأهداف والسياسات، ولكن جنين عمومًا، ومخيمها خصوصًا، عكس ونقيض هذه النظرية؛ فمخيم جنين هو مركز الحدث، وبؤرة الصراع، ولولا حرب غزة لكان هو فقط في الواجهة.. وقد غاب مخيم جنين عن (الأخبار العاجلة) بضع سنين، ثم عاد بقوة وعنفوان، وأيضًا بدفع كُلَف باهظة من الدم والعمران .
أهلًا بك في مخيم جنين؛ من أين تريد الدخول؟ عفوًا.. فليس كل مدخل للمخيم مفتوحًا، فشبان المقاومة (كتيبة جنين) يغلقون بعض المداخل، وأيضًا خرّب الاحتلال جميع المداخل بجرافاته، وتم إصلاح واحد منها جزئيًا.
أهالي المخيم، ما حالهم؟ وكم عدد سكان المخيم؟ حسب إحصائيات عام 2023 قبل الحرب، كان العدد حوالي 12 ألف نسمة، ولكن هذا العدد تراجع كثيرًا، خاصة إذا تحدثنا عمن يبيتون ليلهم داخل المخيم. فنتيجة تدمير المرافق الحيوية والبنى التحتية والقصف، والتخريب الذي طال كثيرًا من المنازل خلال الاقتحامات المتكررة؛ قرّر كثير من سكان المخيم استئجار بيوت في مناطق قريبة أو بعيدة عن المخيم.. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة حاليًا، هناك عدد كبير لا يمكنهم الاستئجار، وإن كانوا يحبذونه.
أنت في المخيم، لا أعرف شعورك بالضبط، ولكن بالنسبة لي – وقد عشت في المخيم حتى قاربت الثلاثين عامًا، وبعدَ سكني غير بعيد عنه، ظلت أمي -رحمها الله- فيه حتى قبل بضع سنين، وأنا لم أتوقف عن التردد إليه يوميًا تقريبًا – فإني أشعر بالإحباط والكآبة اللذين لم أشعر بمثلهما يومًا، حينما أرى حجم الدمار، وحين أستعرض قائمة الشهداء منذ سنة 2021.
أهلًا بك في المخيم.. ولعلنا نكمل المشوار في قادم الأيام بعون الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق