الجمعة، 4 أكتوبر 2024

المرأة في طبقة الأشراف في الجاهلية بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم


المرأة في طبقة الأشراف في الجاهلية 

بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم


محمد خير موسى

مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب



إلى طبقتين رئيستين انقسم المجتمع الجاهليّ؛ الأشراف والعامة، وكل منهما كان بطبيعة الحال يشهد درجات داخله، وكان يظهر بوضوح جليّ البون الشاسع في حال الأسرة والمرأة في كلّ منهما.

فأما في طبقة الأشراف، فقد كان للأسرة تماسكها وقيمتها العالية، وللمرأة حضورها الفاعل داخل الأسرة وخارجها، وكان لها في أسرتها الصغيرة وعشيرتها الكبيرة القول المسموع والرأي النافذ، على أنّ الرجل هو رئيس الأسرة، لا تنازعه المرأة في ذلك ولا تفتئت عليه فيه، وكانت عنوان شرف العائلة الذي تُسل دونه السيوف، وتطير لأجله الرقاب، وتشتعل عند أذيته الحروب الطاحنة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك البسوس بنت منقذ التميمية، التي أشعلت بتحريضها وشعرها حربًا استمرت أربعين سنة، وسميت الحرب باسمها.

وكان الرجل من العرب إذا أراد أن يفتخر ويبرز مكانته في الناس بالكرم والشجاعة، فإنه يذكر المرأة ويسترضيها بشعره، ويفتخر بموقفه منها في قصائده، ومن ذلك قول عنترة مخاطبًا محبوبته عبلة:

هَلّا سـألتِ الخـيـل يا ابـنـة مالكٍ

إِن كنـتِ جـاـهلةً بما لم تعـلـمـي

يُخبِـركِ مَن شـهـد الوقـيـعة أَنَّني

أغشى الوغى وأعِفُّ عند المغنم

ومثل ذلك ما يقوله حاتم الطائي مخاطبًا زوجته معبرًا عن افتخاره بجوده وكرمه:

أَمـــاوِيُّ إنَّ الــمـــال غـــادٍ ورائــــحٌ

ويـبـقـى من الـمـال الأحـاديث والذِكر

أَمـــاوِيُّ إنّــــي لا أَقـــــول لـســــائـلٍ

إذا جــاء يــومـاً حَـــلَّ في مالـنا نَـزر

أَمـاوِيُّ مـا يُغــني الـثَـراءُ عَنِ الـفَـتى

إِذا حَشرَجَت نَفسٌ وَضاقَ بِها الصَّدرُ

وعنترة يخاطب أمّه زبيبة على الرغم من أنها أمةٌ مملوكة مفتخرًا:

تعَنِّــفــني زَبـيـبـةُ فـي الـمَــلام

عـلى الإقــدام في يــوم الزحـام

تـخـاف عـليَّ أن ألـقى حِـمـامي

بطعن الرمح أو ضربِ الحسـام

مـقـــالٌ لــيس يـقــبــلـه كــــرام

ولا يــرضى بــه غــيـر الـلـئـام

يـخـوض الشيخ في بحـر المنايا

ويـرجـع سـالماً والبحـر طـامـي

ويـأتي الـمـوتُ طـفـلاً في مُهـود

ويلــقى حـتــفـه قـبــل الـفــطــام

فـــلا تـــرضَ بـمـنــقـصــةٍ وذُلٍّ

وتـقـنـع بالـقـَـلـيـل مـن الـحـطـام

فـعـيـشُــك تحـت ظـلّ العزّ يوماً

ولا تحــت الــمَـذلَّــة ألــف عـام

بل كان في الجاهليات شاعرات لهن اسمهنّ وحضورهنّ الشعريّ، وفي المحافل الثقافية آنذاك، وإن لم يكنّ بمستوى حضور الرجل، لكن حضورهن كان لافتًا في طبقة الأشراف، التي تمثل نخبة المجتمع القليلة، ونسبته العددية الضئيلة آنذاك. ومن هؤلاء الشاعرات الخنساء، تُمَاضِر بنت عمرو بن الحارث السُّلَمِيَّة، التي اشتهرت برثاء أخيها صخر في الجاهلية، ولكنها أيضًا كانت شاعرة الفخر، فمن فخرها بأخيها ما تنقله من تصوير السباق بينه وبين أبيه:

جـارى أباه فأقــبـلا وَهُـمـا

يتـعـاوران مُـلاءة الـفـخــر

حتى إذا نَزَتِ القلوب وقـد

لَـزَّت هناك الـعُذرَ بالعُــذر

وعلا هـتـاف الناس أَيَّهـمـا

قال المُجيب هناك لا أدري

برزت صحيفةُ وجه والــده

ومضى على غُلوائه يجري

أَولـى فَـأَولــى أَن يُـسـاويَـهُ

لـولا جـلال الســنِّ والـكِـبـر

وَهُـمــا كأَنــهـما وقـد بـرزا

صقــران قد حطّا عَلى وَكر

ومن هؤلاء الشاعرات اللواتي برز اسمهنّ في الجاهلية الخنساء بنت زهير بن أبي سلمة وزرقاء اليمامة، وصفية الباهلية وليلى الأخيلية التي عاشت إلى عصر الأمويين، وغيرهن كثيرات، ومن الدلالة على كثرتهن ما يُروى عن الشاعر أبي نواس أنه قال: “ما نطقتُ بالشعر حتى حفظتُ لستين من شاعرات العرب، فما بالك بالشعراء؟”.

والشعراء هم الواجهة الفكرية والثقافية للمجتمع، وحضور الشاعرات فيه يدلل على أن المرأة في طبقة الأشراف كانت تنال حظوة فكرية خاصة.

وكان للمرأة في طبقة الأشراف هذه شخصيتها المالية المستقلة، فلها تجارتها، وهي تمارس البيع والشراء بنفسها، أو عن طريق التعامل مع الرجال استئجارًا أو شراكة، ولم تكن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التاجرة الوحيدة بمالها، بل عرفت مكة المكرمة العديد من التاجرات آنذاك.

وكانت المرأة في هذه الطبقة تأنف من الفاحشة وتأبى الزنا، ولا تعيش مع الرجل إلا بعقد زواج معلن يشهد عليه رجال العائلتين، وكانت ترى الفاحشة عارًا يلحق بها، ومما يدل على ذلك استهجان هند بنت عتبة حين أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها أثناء بيان بنود البيعة: “ولا تزنين”، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟! والمراد بالحرة هنا الشريفة ذات المكانة والأنفة والكرامة، وليست غير المملوكة، كما قد يتوهم البعض أن الفاحشة كانت في الجاهلية في الرقيق فحسب ولم تكن في الحرائر.

ولكن، هل كانت هذه السمات التي كانت تتمتع بها المرأة من طبقة الأشراف، التي تعد نسبتها ضئيلة في المجتمع في الجاهلية، هي حال المرأة في سائر المجتمع آنذاك؟ وهل كانت الصورة العامة للمرأة في الجاهلية وردية حقًا، كما يحاول شريحة من الكتّاب تصوير ذلك بالتركيز على جانب المرأة في طبقة الأشراف، وإغفال الصورة الكلية؟. 
هذا ما نراه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق