الخميس، 10 أكتوبر 2024

كيف تعرف إنك فهمان أو غير فهمان


كيف تعرف إنك فهمان أو غير فهمان




الدكتور عزت السيد أحمد

 

لا تكتفي بأسطر من هٰذا الفصل أو بضع فقرات وتابع إلىٰ الآخر، لأنَّ قيامك بذۤلكَ هو أوَّل معايير حشر نفسك في صفِّ الذين يفهمون الفهم فهماً خاطئاً فما هم بفهمانين ويتفهمنون علىٰ أساس أنَّهُم أهل فهم. هٰذا السُّلوك هو أوَّل المعايير وروداً في الكلام لا أولها أهميَّة ولا أولوليَّة ولا خطورة. وحَتَّىٰ لا نعود إلىٰ هٰذا البند أو السُّلوك دعونا نسحبه عرضيًّا أو أفقيًّا لنعمِّمه علىٰ ما هو مثله في المبدأ ولنقل: من مثل هٰذا السُّلوك الوثب والتواثب وقطع كلام المتكلم من قبل أن يتمَّ الفكرة بزعم أنَّك فهمت ماذا يريد أن يقول وهو لم يكمل فكرته ولم تتضح أبداً بعد.

موضوع هٰذا الفصل هو في الأصل النَّظر في السُّؤال المهم جدًّا وهو: كيف تفهم أنك تفهم أولا تفهم؟ وهٰذا العنوان، وليس الموضوع، في حقيقة الأمر هو التفافة صغيرة علىٰ الفكرة الأساسية وهي علاقة الغباء بأنماط ظن المرء أو اعتقاده أَنَّهُ يفهم وهو في الحقيقة لا يفهم.

إن الفكرة المهمة التي يجب إبرازها بداية هي أنَّ عدم الفهم لا يساوي الغباء. إذا كنت لا تفهم مسألة فهٰذا لا يعني أنك غبي ولا بحال من الأحوال. ما من أحد من الخلق يفهم كل شيء. كل إنسان تفوته أشياء كثيرة وأشياء وأشياء لا يفهمها لأَنَّهُ لا يريد أن يفهمها مثلاً أو لأَنَّهَا صعبة الفهم، أو لأَنَّهُ لا يحتاج إلىٰ متابعتها أو غير ذٰلك... وليس في ذٰلك أي عيب أو خلل أو حرج أو قلة فهم أو غباء... تلكم هي طبيعة الإنسان؛ أي إنسان. فيجب أن تضع في ذهنك بداية أني لا أساوي بَيْنَ الغباء وعدم الفهم بالمطلق أو الخصوص أي عدم فهم مسألة أو فكرة أو موضوع.

إنَّ الموضوع الذي أتناوله ادعاء من لا يفهم أَنَّهُ يفهم وربَّمَا إصراره علىٰ أَنَّهُ يفهم فيما هو لا يفهم وأحوال ذٰلك وأنوعه أو مؤشِّراته، ولننظر من ثَمَّ في علاقة ذٰلك بالغباء.

والآن، لنبدأ من جديد:

هل سألت نفسك يوماً إن كنت تفهم أم تظن أنك تفهم أم لا تفهم؟

هل خطر في بالك أن تدخل في سجال مع ضميرك لتحاكم نفسك علىٰ مَدَىٰ مصداقية فهمك وصوابه، وتعرف من ثمَّ إن كنت فهماناً حقًّا أم تتوهم أنَّك تفهم؟

المؤشِّر الأول: عقلي هو الأكمل

الحقيقة المرَّة القاسية التي لا يريد أن يعترف بها أحد هي أنَّ كلَّ فرد يظنُّ أنَّهُ يفهم ورُبَّما أكثر من غيره بل رُبَّما تصل النَّرجسيَّة المرضيَّة ببعضهم أن يَرَىٰ نفسه، وَهْماً، هو الأفهم. وتلك مسألة وجدنا حلها في التراث القديم ولا ندري مصدر هٰذه الفكرة التَّفسيرية علىٰ ما فيها من دقَّةٍ مدهشةٍ عجيبةٍ مختصرةٍ اختصاراً بليغاً.

تقول الحكاية إِنَّهُ عندما وزَّع اللهُ عزَّ وجل الأرزاق علىٰ البشر ما رضي أحد؛ كلٌّ قال: أستحقُّ أكثر. وعندما وزَّع اللهُ العقول علىٰ النَّاس رضيت كلُّ النَّاس، فما قال أحد أستحقُّ أكثر. كلُّ واحدٍ رضي بعقله وقال هٰذا هو الكمال. حَتَّىٰ المجنون تجده راضياً بعقله مسروراً به، غير راغب في الزيادة فيه بل مقتنعاً أنَّهُ لا مزيد فوقه، مقتنعاً بأنه الأكمل.

إذن آفة ظن المرء أنَّهُ يفهم مسألة هي مسألة بحكم الفطرية فما فطر الله البشر علىٰ باطل أبداً. بحكم الفطرية أي إنَّهَا لها سرٌّ في الجبلة البشرية رُبَّما لا ندريه وليس هٰذا شأننا الآن. وإنما  الذي يعنينا أنَّهَا آفة مستشرية لدىٰ البشر جميعاً ولا تحدثوني عن الاستثناء، فلا بُدَّ من الاستثناءات, وأظلُّ أكرِّر لا تحدثوني عن الاستثناء لأنَّهُ دائماً يتواثب الأكثرون ليدحضوا القاعدة بالاستثناء. يتركون كلَّ العموم الْمُعْمِي ويلوذون باستثناء ليجادلوا في دحض القانون العام.

مما هو بحكم البداهات وليس من البداهات أنَّ أكثر النَّاس علماً هو أكثر تواضعاً، وكلَّما ارتفع مستوىٰ علم المرء وفهمه ازداد تواضعه. أي قل استعراضه الفهم والفهمنة. هٰذا لا يمنع من وجود بعض منهم يستعرض الفهم والفهمنة، وفي هٰذا الحال فليس هٰذا الأمر بالعيب فهو حقٌّ بمعنًىٰ من المعاني، إِنَّهُ عالم وفاهم فهو لا يدعي ويتألىٰ ولا يأتي بما هو خلاف حاله.

المشكلة فيمن لا يفهم ويحسب أَنَّهُ يفهم بل ويزعم أَنَّهُ يفهم. ثُمَّ ما أدراك ما قد يلي ذٰلك وما قد ينجم عنه. هٰذا السُّلوك بحد ذاته لا يصنف علميًّا ضمن في فئة الغباء، قد يجدون له ألف تخريجة وتخريجة تفسيرية وتبريرية من علم النفس ومن القانونين الاجتماعية والأخلاقية ولٰكنَّهُ مؤشِّر صميمي علىٰ الغباء مهما كانت التفسيرات والتبريرات له. بعد فرز الناس إلىٰ أذكياء وأغبياء قد يكون مثل هٰذا السُّلوك صادراً عمَّن هم في تصنيف اللاأغبياء. هٰذا محتمل بل وكثير الحدوث بالنِّسبة لا بالعدد فقط. ولٰكنَّ كون الشَّخص الصَّادر عنه مثل هٰذا السُّلوك، أي اعتقاد الفهم مع عدم الفهم مع الإصرار علىٰ الفهم وزعمه، ليس مصنفاً ضمن الأغبياء فإنَّ ذٰلك لا يمنع أَنَّهُ سلوك غبيٌّ، ولٰكنَّهُ غباء مقنَّع، وأنَّ صاحبه وهو في مثل هٰذا الحال إنَّمَا هو غبي في هٰذا الحال.

المؤشِّر الثاني: البناء على الاستثناء

المجادلة السَّابقة بهٰذه الطَّريقة، أي البناء علىٰ الاستثناء في دحض القانون العام، هي الباب الثاني أو المؤشِّر الثَّاني لعدم الفهم، ولن أمانع في أن تقول الغباء. إنَّ من يمسك بشذرة عابرة في الكلام ويجعلها محور الكلام أو معادلاً له أو معبراً عنه فإِنَّهُ غالباً وغالباً ما يكون غير فهمان، وأكرِّر غير فهمانٍ ولن أقول غبيًّا وإن تساوىٰ صوريًّا لا منطقيًّا عدم الفهم مع الغباء.

لماذا غالباً وليس دائماً؟

غالباً لأنَّ المقصود هنا هو حَسَنُ النية وخيِّرُها. أمَّا سيء النِّيَّة خبيث الطَّويَّة فإنَّهُ يعرف ماذا يفعل، ويعرف أنَّهُ يأتي إلىٰ الشَّذرة العابرة التافهة ويتجاهل سائر الحقائق في الكلام أو البحث أو المقال أو الموضوع... ويجعل هٰذا الاستثناء أو الشَّذرة العابرة التَّافهة هي محور الجدال، وهي معادل الكلام والموضوع، لأنُّهُ يريد التَّضليل وتمييع الموضوع وتضييعه وتشتيت الأفهام وحرفها عن فهم حقيقة الطَّرح أو الموضوع.

وتحضر هنا قصة اليهود مع البقرة. كان الموضوع في الأصل ذبح بقرة لمعرفة مرتكب جريمة قتل. أيُّ بقرة يأتون بها ستكون مقبولة. ولٰكنَّهُم تركوا الجريمة وتركوا معرفة القاتل وراحوا يجادلون ساعات في شكل البقرة ولونها وولها وعرضها ووزنها وعلاماتها المميزة وتاريخها... فهل كان ذٰلك دهاء أم ذكاء أم غباء؟!

يحسبونه دهاء ويفرحون بهذا الدهاء ولٰكنَّهُ محض الغباء. ولذٰلك قلت من قبل هم في الأصل لا يصنفون في فئة الغباء ولٰكنَّ هٰذا السُّلوك في حاله وأشكاله غباء محض. ولمثل ذٰلك قال حكيم يوماً: «الغبي هو من يستغبي غيره».

الحقيقة أنَّ كثيراً من البشر يدخلونك في دوامة من الحيرة والشك في أحاديثهم ومناقشاتهم عندما يصعقون محادثهم أو مناقشهم بتركهم جواهر الموضوع الواضحة والإمساك بشاردة عابرة من الكلام وتحويلها إلىٰ بؤرة يعترضون من خلالها أو يطعنون من خلالها أو ربَّمَا برغبة نسف الموضوع كله من خلالها... وفي هٰذا الأمر كثير جدَّا من الأمثلة والشَّواهد بالكاد تجد من لم يمر بهذه التَّجربة، حَتَّىٰ الذين نشتكي منهم من هٰذه البلاهة أنفسهم يشتكون من قيام غيرهم معهم بها. سأذهب إلىٰ شاهد هو الأكثر اشتهاراً وانتشاراً، وهو مثال أخلاقي، إِنَّهُ الصديق الذي يتركك أو يطعن فيك لمجرد خطأ بسيط ترتكبه بحقه عن غير قصد بعد مئات المواقف الحسنة معه. يتجاهل كل مواقفك وسلوكاتك الإيجابية معه وينصب لك المشنقة لخطأ غير مقصود أو ربَّمَا أساء فهمه.

أعرفت أيُّهَا الحسنُ النِّيَّة الآن لماذا أنت لا تفهم عندما تفعل هٰذا الفعل؟

أنْ تفعل أحد هٰذين الفعلين فلست بالفهمان مهما علت بك الرُّتبُ وبلغت من المكانات... ومهما نلت من الشَّهادات وكثرت فيك الشَّهادت، ومهما حشوت في رأسك من المعارف والعلوم. كثرة المعارف والعلوم التي تختزنها ليست دليلاً علىٰ فهمك بحالٍ من الأحوال. سلوكك هو الذي يحدِّد أنَّك فهمان أو لا. اكتفيت بوصف فاعل ذٰلك بأنَّهُ غير فهمان. وهٰذا أقلُّ التَّقدير وأحسن التَّوصيف، وإلا فالغباء به لائق أيضاً.

في هٰذه الإطار آتي بشاهدٍ خاتمٍ للمؤشِّر أو الباب الثاني وفاتحاً للباب الثالث.

مع أنَّ فعله وفاعليته في الثَّورة تفوق مئات آلاف كبار المساهمين في الثَّورة فقد كان شبه أميٍّ. كان يقول لي دائماً: «أعلم أَنَّهُ عندما تنتصر الثَّورة فإنَّ سقف ما يمكن أن أناله شوفير عند مسؤول... فأنا لا أحمل أيَّ شهادة غير شهادة السِّواقة... ومع ذٰلك لن أتراجع عن الثورة مهما كانت تضحياتي».

عد إلىٰ الشَّاهد والكلام واقرأه جيِّداً.

أسأل الله أن يتقبل الشَّاهد شهيداً.

في الوقت ذاته كان هناك ثورجيون حقيقيون، وبعضٌ متطفِّلون علىٰ الثَّورة، وبعضٌ ركبوا موجة الثورة... لا يحملون أيَّ شهادات حَتَّىٰ رُبَّما شهادة السواقة... ناهيك إذن عمَّن يحمل البكالوريا أو الإجازة الجامعيَّة... فإِنَّهُم كانوا يحلمون بل ويخطِّطون ليكونوا رؤساء الجمهورية بعد انتصار الثَّورة!!! وما تناطحت وتحاربت وتعارضت فصائل الثورة إلا لأنَّ قائد كلِّ فصيلٍ كانت عينه علىٰ القصر الجمهوري بعد إسقاط النِّظام... ولا أخوض في تفاصيل ذٰلكَ فليس هٰذا من شأننا هنا.

المؤشِّر الثالث: فقد السقف

المؤشِّر الثَّالث إِلىٰ أنّ الإنسان لا يفهم، وأكرر: مهما بلغ من المعارف ونال من الشهادات، هو: أن لا يعرف سقفه ولا عتبته. من لا يعرف سقفه، ولن يعرف عتبته بالضَّرورة، لا يمكن أن يعد من الفهمانين. عدم معرفة السَّقف تعني، إلىٰ حدٍّ ما، بالتَّعبير الشَّائع عدم معرفة المرء حدوده. فمن لا يعرف سقفه سيتصرف بالضَّرورة تصرفات الحمقىٰ. عدم القدرة علىٰ تحديد المسافات والفواصل والحدود يؤدِّي بالضَّرورة إلىٰ نتائج كارثيَّة علىٰ المستوىٰ الشَّخصي لصاحب السُّلوك، وعلىٰ المستوىٰ الجمعيِّ إن كان صاحب السُّلوك ذا سلطة علىٰ جماعة تقدر بقدرها. والنَّتائج الكارثيَّة التي وردت لا تعود بالضَّرورة علىٰ صاحب السُّلوك وإنَّمَا تعود علىٰ غيره وغالباً ما تعود بضررها علىٰ غيره.

جميل أن نتذكر هنا قول الشَّاعر الأندلسي ابن رشيق:

مِمَّا يُزّهِّدُني فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ          تَلْقِيْبُ مُعْتَمِدٍ فِيْها وَمُعْتَضِدِ

أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ فِيْ غَيْرِ مَوْضِعِها        كَالهرِّ يَحْكِي انْتِفَاخاً صَوْلَة الأسدِ

إنَّ عدم معرفة المرء سقفه تندرج في باب الكوميديا السوداء، وكذٰلك مثله أكثر مؤشِّرات عدم الفهم أو الغباء المبطن. الأملة والشواهد علىٰ ذٰلك موجودة بوفرة طاغية في سائر ميادين الحياة ومن مختلف مستويات الأشخاص؛ من الأمي الجاهل ومن البسيط إلىٰ أعلىٰ درجات الشهادات العلمية ومختلف مراتب المسؤولية، وبالكاد تجد من لا يروي لك صدمة تلقاها من هٰذا أو ذاك من باب عدم إدراك المرء سقفه.

ولكني سأعرض شاهداً من عالم الحيوان. كان الحمار والصقر متجاورين في الجلوس في الطائرة. ما كادت الطائرة تعتلي الجو حَتَّىٰ ضغط الصقر علىٰ الجرس فهرعت إليه المضيفة وسألته عما يريد. فقال: «لاشيء»، فقالت متعجبة: «ولماذا قرعت الجرس إذن؟». فقال الصقر: «فذلكة».

بعد قليل عاد الصقر وقرع الجرس. فهرعت المضيفة من جديد وسألته عما يريد. فقال: «لا شيء... فذلكة». أراد الحمار أن يتفذلك مثل الصقر فقرع الجرس، فهرعت المضيفة إليه وسألته عما يريد، فقال: «لا شيء... فذلكة».

فتحت المضيفة باب الطائرة وألقت بالحمار والصقر من الطائرة. فرد الصقر جناحية وراح يطير، بَيْنَما الحمار هوى... وراح يصرخ مستنجداً. فقال له الصقر: «أيها الحمار... إذا كنت لا تعرف التحليق فلماذا تتفذلك؟!».

خذ هٰذا الشاهد وضع من شئت بدل الحمار وبدل الصقر. ستجد الكثير من الأشخاص الذين تنطبق عليهم الحال. وما هٰذا إلا وجه من أوجه عدم معرفة المرء سقف. ثَمَّةَ العديد من الوجوه الأُخْرَىٰ المماثلة في المبدأ المتخالفة أو المتباينة في الصورة. كم من جاهل يتأستذ، وكم منهم من يتأستذ علىٰ الأساتذة؟!

لا أطيل ي الشواهد والأمثلة فإنَّ فيما فات ما يكفي للبيب أن يملأ الفراغات بالأشخاص غير القلة الذين يعرفهم أو سمع عنهم.

أمَّا أن يكون سقفه الحقيقي أعَلىٰ مما يظن فذٰلكَ يكون في حالين أولهما تواضع الشَّخص وزهده، وثانيهما عدم معرفته، وعدم معرفته أمرٌ لا يستقيم مع المنطق بحالٍ من الأحوال، ومع عدم استقامته مع المنطق فإِنَّهُ غير ممتنعٍ.

المؤشِّر الرابع: ترصد الزلات

المؤشِّر الرَّابع الدَّال عَلىٰ أنَّك غير فهمان، يعني لست من أهل الفهم بصيغة أُخْرَىٰ، هو أنَّك عندما تقرأ لأحدٍ أو خصمٍ غالباً أو تستمع إِلىٰ إليه أو إِلىٰ ما يعادل ذٰلك فإنَّك تقتصر عَلىٰ ترصد الأخطاء والعثرات. تترك الحديث والكلام كلُّه يمرُّ من أمام عقلك من دون أن تدرك منه شيئاً وتركِّز عَلىٰ أخطاء ترقب هٰذا الآخر أن يخطئ.

هٰذا المؤشِّر شبيه بالمؤشِّر الثاني في الآلية إلىٰ حدٍّ ما، ولٰكنَّ الهدف مختلف هنا والمادة مختلفة وحَتَّىٰ النيَّة مختلفة وبينة القصد. من يفعل ذٰلك أو هٰذا أحدهما أو كليهما فهو قطعاً غير فهمان أو من غير أهل الفهم بدقيق العبارة وبعيداً عن المداهنة؛ لا هو سيفهم ما يقرأ أو يسمع، ولا هو يريد أن يفهم، ولا هو بالأساس فهمان ولا حَتَّىٰ من أهل الفهم.

أمَّا الأولىٰ والثانية فهي نتيجة منطقيَّة للعقليَّة التَّهميشيَّة التي تهمل بل لا تريد أن تدرك الحقائق التي يأتي بها الطَّرف الآخر في الكتابة أو الكلام... وتقتصر عَلىٰ ترقب الخطأ للإمساك به والبناء عليه. قد يمسك هٰذا المترصد أخطاء وما هٰذا بالمستبعد فما من أحد معصوم عن الخطأ. ولٰكنَّهُ في كثير من الأحيان يتوهم أَنَّهُ أمسك خطأ أو زلة وما هي كذٰلك. إِنَّهُ لأَنَّهُ ينوي لي أو كسر خصمه فإِنَّهُ سيلوي عنق الكلام المسموع أو المقروء بما ينسجم مع نيته ومقصده فيتوهم الخطأ في هٰذه الفكرة أو الجملة أو تلك أو يختلقه باللاشعور اختلاقاً، لأَنَّهُ علىٰ غير استعداد لتقبل انتصار الخصم عليه أو لتقبل أَنَّهُ خصمه ليس علىٰ خطأ وباطل. هٰذه القناعة توقعه هو في الزلل والخطأ عندما يقوم لا شعوره بتحريف المسموع أو المقروء ليتعامل معه علىٰ أن خطأ أو نقص أو باطل.

من البداهة بمكان أنَّك عندما تفعل ذٰلك فإنَّك لن تفهم الموضوع شكلاً ومضموناً، ومن ثَمَّ فإنكَّ عندما تلتقط الخطأ فإنَّك في الأغلب تظنُّ خطأً أنَّك أمسكت خطأً، فيما قد لا يكون كَذٰلكَ كما أشرت قبل قليل... قد يكون ولٰكن في الأغلب لن يكون كَذٰلكَ لأَنَّك ستكون قد انتزعته من السِّياق أو فهمته في غير سياقه وأكرهته أن يلين ويلتوي ليلبي متطلبات عقلك الباطن.

وأن تجهل ماذا فعلت وما أخذت وماذا تركت وماذا فهمت وماذا لم تفهم فهٰذا يعني أنك لست من أهل الفهم... لست من أهل الفهم بقرار شخصي منك أنت شخصيًّا وليس بالطبيعة الولادية. ولذٰلك قلت من قبل إنَّ هٰذه المؤشِّرات مؤشِّرات عدم الفهم الذي يعادل الغباء عمليًّا ولٰكن لن نسميه الغباء لأنَّ الغباء طبيعة، بيولوجيا، فيزيولوجيا... قل ما شئت في ذٰلك، المهم أَنَّهُ خارج الإرادة بمعنىٰ أو بآخر. أما هٰذه المؤشِّرات فهي التي تدل علىٰ الأغبياء بقراراتهم الشخصية وإراداتهم هم وليس بسبب خارج الإرداة.

بطبيعة الحال، فإنَّ هٰذا المؤشِّر والمؤشِّرات السَّابقة وحَتَّىٰ اللاحقة هي أحد أبرز عوامل وأسباب نشأة الجدالات العقيمة. وكن علىٰ يقين بأن الذين لا يفهمون ومن هم في حكم الأغبياء ومن لا يعرفون الحق ولا الحقيقة ولا يؤمنون بالحق ولا الحقيقة هم مبعث الجدالات العقيمة. لأنَّ  الذي الفهمان الواثق لا مشكلة لديه في عرض بياناته وأحكامه وتقويماته، ومن يؤمن بالحق والحقيقة لا مانع لديه من الاعتراف بالخطأ إن اكتشف أَنَّهُ علىٰ باطل... وهٰذه سمة التَّفكير السَّوي؛ عقليًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا.

المؤشِّر الخامس: الإدراك المثقوب

في المؤشِّر الرَّابع انصبَّ الكلام علىٰ عقلية ترقب الخطأ وانعدام إرادة الفهم أو المتابعة إلا بقصد ترقب الأخطاء وتصيد العثرات. المؤشِّر الخامس قريب في المبدأ مختلف في الجوهر. إِنَّهُ عدم إدراكك أنك كنت لا تفهم ما يقال. وفي الوقت ذاته مثله: عدم إدراكك أنك لم تكن تتابع ما يقال أو ما تقرأ. ومع ذٰلك تتنطع لتلقي بدلوك فيما كان.

انتبه جيداً هنا. من الطبيعي أن يسمع أو يقرأ أيُّ شخص كلاماً ولا يفهمه وقد يكون ذكيًّا. ومن الطبيعي أن تسمع كلاماً أو تقرأ متناً وتشرد ولا تتابع أو لا تركز ويفوتك الكثير من المضمون في أثناء ذٰلك. ولٰكن هنا، وقبل الخطوة التالية، أن تتنطع لتدلي برأيك واعتراضك وموقفك من دون فهم فهٰذا أمر معيب ومحرج لك. أمَّا أن لا تدرك أنك كنت لا تفهم ما تسمع أو ما تقرأ، ولا تدرك أنك لم تكن تتابع ما تسمع أو تقرأ فتلكم مصيبة مختلفة. تلكم مؤشِّر علىٰ انعدام الفهم.

لهٰذا المؤشِّر أشكال متعددة في حقيقة الأمر. أكثر المؤشِّرات تكاد تكون محصورة في شكلين أو ثلاث إلا أنَّ هٰذا المؤشِّر له تجليات عدة.

يعدُّ ابن سينا في طليعة العبقريات البشريَّة وفق علماء نفس الإبداع. ألمع العبقريات البشريَّة قرأ كتاباً ثلاثاً وثلاثين مرَّة ولم يفهم شيئاً منه. ولم يجد من غضاضة في الاعتراف بذلك. لم يكن عدم فهمه الكتاب طعناً في ذكائه وعبقريته، ولا تقليلاً منها. لقد أدرك ووعىٰ وعرف واعترف.

إذن: عدم الفهم ليس هو العيب، وعدم الانتباه ليس هو العيب. العيب في عدم إدراكك أنك ما فهمت، أو أنك لم تكن تفهم.

ظللت، مثلاً، ساعتين أشرح لطلاب الدراسات العليا مقطعاً من فلسفة ديكارت. ولأنَّ المحاضرة السَّابقة لهٰذه المحاضرة كانت عن المثاليَّة، ولتماثل بعض الأفكار والمفاهيم، وجدتني مضطراً كلَّ بضع دقائق أن أذكرهم بوجوب عدم الخلط وعدم الظَّن بأنَّ ديكارت مثاليٌّ, ثُمَّ أقول: هٰذا لا يعني أنَّ ديكارت مثاليٌّ، أنا لا أقول إن ديكارت مثالي، ديكارت ليس مثاليًّا، أنا لا أعني أنّ ديكارت مثالي... وهكذا بمختلف الطُّرق كلما اقتضىٰ الأمر. وعندما فرغت من المحاضرة وقف طالب، صار دكتوراً، وقال لي:

ـ «دكتور، إذا كان ديكارت مثاليًّا كما تقول...».

لم أصدق ما سمعت. فقاطعته وقلت له:

ـ «ابدأ السُّؤال من جديد من فضلك».

فكرَّر قائلاً العبارة ذاتها:

ـ «دكتور، إذا كان ديكارت مثاليًّا كما تقول...».

ضحك الطلاب أكثرهم حَتَّىٰ القهقهة.

المؤشِّر السادس: الغيرة الغبية

انظر الآن إلىٰ تكامل المؤشِّرات مع بعضها بعضاً. يتَّسم أهل الباطل عموماً بالغيرة من أصحاب الحق والحقد عليهم. تماماً مثل غيرة المخفقين والفاشلين من الناجحين والمتفوقين، تماماً في المبدأ والصورة وحَتَّىٰ البنية. ولذٰلك تجدهم صمًّا عمياً بكماً في فهم هٰذا الآخر الناجح أو الفهمان أو صاحب الحق. هم لا يريدون فهمه أصلاً، ولذٰلك لا يستمعون له، ولا يقرأون له ولا عنه. كل ما يفعلونه أَنَّهُم يفترون عليه وينسبون له الافتراءات زوراً ويريدون محاسبته ومحاكمته علىٰ ما هم ينسبونه إليه زوراً.

هٰؤلاء لا يقرأون للخصوم، ولا يستمعون لهم عندما يتكلَّمون، ويحكمون علىٰ كتاباتهم من دون قراءة، بنون الافتراضات بل ويضعون الافتراءات عن قصد وعمد ويحاكمون الخصوم أو الآخرين عليها من دون أي قراءة أو استماع لكلامهم. وهٰذا أمر يعرفونه بوضوح تام ويكذب من يقول منهم إِنَّهُ لا يعرف هٰذا السُّلوك، أو لا يمارسه. وهٰذا السُّلوك أو الفعل دليل علىٰ أَنَّهُم علىٰ باطل وعلىٰ أَنَّهُم ليسوا من أهل الفهم، يعني أغبياء بالإرداة الشخصية.

لماذا أغبياء بالإرادة الشخصية؟

لأَنَّهُم يحرمون أنفسهم فهم الحقيقة والإيمان بالحقيقة. يحرمون أنفسهم أن يفهموا الحقيقة كما هي. وكم من مفكر أو فيلسوف أو إنسان ما وقف علىٰ حافة السَّبعين أو الثَّمانين وهو ينظر إلىٰ الخلف وقال: لقد فهمت متأخرًّا. ولٰكنَّ أكثرهم تأخذهم العزَّة في أنفسهم فلا يعترفون، ويندفعون إلىٰ الأمام أكثر كي لا يروا أو لا يعترفوا بأنَّهَم أغبياء بقرار شخصيٍّ منهم لا من غيرهم.

هنا عن الغيرة الغبية وما تفعله وعلاقتها بالغباء. إلا أنَّ الأعجب من ذٰلك في هٰذا السياق هو غيرة تضع العقل في ارتباك وحيرة. إنَّهَا غيرة الأب وغليانه من نجاح ابنه وتفوقه عليه. أمر يكاد لا يصدقه عقل. ومثله غيرة الأستاذ من نجاح تلميذه أو تفوقه عليه. ذلكم أيضاً مما يدهش العقل في لا أخلاقيته ولا منطقيته. والأمر ليس بالسهل ووجوده ليس بالقليل. كان عادل العوا الأستاذ الوحيد بَيْنَ أساتذتي في قسم الفلسفة الذي يفرح ويبتهج عندما يرىٰ تألق أحد تلاميذه في القسم. كان بعضهم «يغبُّ» علىٰ قلبه عندما يرىٰ طالباً متألقاً أو يعلم أن أحد تلاميذه نشر مقالاً أو بحثاً... وليس كلُّ ما يعرف يقال إلا إذا اقتضىٰ الحال.

المؤشِّر السابع: فوضى الفهم

شاعت في فترة الثمانيات أدروجة «موضة» الأدب الغامض والفكر الغامض. تقرأ فلا تفهم ليس لأنك عاجز عن الفهم بل لأنَّ النَّصَّ يتخبَّط بالأخطاء اللغويَّة والأسلوبيَّة والدَّلاليَّة. هو في الحقيقة ليس غموضاً ولا صعوبةً. إِنَّهُ تخبيض وتلبيص وتفعيص وتعفيص لا علاقة له بالأدب ولا بالفكر بحال من الأحوال. ولٰكنَّهُم حوله إلىٰ فلسفة في التَّعبير وأنشأوا له النَّظريات والمنظِّرون ووصل الأمر إلىٰ اتهام من لا يفهم هٰذه النصوص بالجهل وربَّمَا التخلف، حَتَّىٰ صرت تجد كبار المثقفين لا يتجرؤون علىٰ انتقاد هٰذه السخافات والسفاهات، وقل منهم من لا يشيد فيها وعمقها الفلسفي بغموضها المبهر العجيب...

للحق وجه واحد وللباطل كل الأوجه الأُخْرَىٰ. تلك بداهة والبداهة فوق الطعن ولا يطعن في البداهة إلا سفيه أحمق. أحمد أكل التفاحة. إذا أردت أن تقول الحق فليس أمامك إلا جواب واحد هو: أحمد أكل التفاحة. وإذا أردت أن تكذب، أو تفتري، أو تقول الباطل، أو لا تقول الحق فأمامك مليون مليون احتمال وأكثر بمثلها أو ضعفيها وكلها ليست الحق.

عندما يكون كلامك بلا معنًىٰ وعاجزاً عن التَّعبير عن الفكرة فهٰذا إما لأنك لا تفهمها فلن تعرف كيف تشرحها إذا لم تكن تفهمها، أو لأنك لا تريد أن تشرحها، ولكنك تزعم أنَّك تشرحها إذن فأنت كاذب، أنت لا تفهمها. وإذا كنت لا تريد أن تشرحها فلماذا تقدِّم علىٰ ذٰلك بالكذب وليست مضطراً ولا مجبوراً؟!

علىٰ أيِّ حالٍ، هٰذا مدخلٌ ونوعٌ من أنواع المؤشِّر السَّابع علىٰ اللافهم أو الغباء الإرادي وهو فوضىٰ الفهم، ولا مانع عدي من أن تقول الفهم الفوضوي. الفوضىٰ ضدَّ التَّنظيم وعكس التنظيم. والفهم نظام وتنظيم وتصنيف وتبويب وترتيب. ولا يمكن أن يكون الفهم فوضىٰ ولا يمكن أن تكون الفوضىٰ فهماً. نعم هناك فوضىٰ إرادية استثنائية، ولٰكنَّهَا استثنائيَّة، أي محدودة، يمكن أن تكون مفيدة وضرورة ضمن شروطها الخاصة. ولٰكنَّ الفهم نظام وتنظيم قطعاً. والغباء فوضىٰ وانعدام تنظيم. وانعدام الفهم فوضىٰ وانعدام تنظيم أيضاً.

لأبدأ معك من الأصغر والأكثر بساطة: عندما لا تجيد تنظيم أشياءك القليلة أو الكثيرة، أي لا تحسن تصنيفها وترتيبها فأنت تفتقر إلىٰ الذكاء قطعاً. ومدىٰ فوضويتك في الافتقار إلىٰ القدرة التَّنظيميَّة هو يقاربك ويباعدك عن الغباء وعن الذَّكاء في الوقت ذاته. ولا أطيل الشَّرح والتفصيل بمكانك أن تقص وتفصِّل كما شئت، وبإمكانك أن تصل إلىٰ الحيز الذي تستحقه علىٰ سلمي الذكاء والغباء.

وعلىٰ أيِّ حالٍ فإنَّ الافتقار إلىٰ القدر التَّنظيميَّة ليس فطرة، إِنَّهُ غباء بقرار شخصيٍّ، غباء إرادي. أعني لا يلومن أحد الفطرة والموهبة ويلقي تبعات عجزه علىٰ غير إرادته وقراراه. القدرة التنظيمية وفوضىٰ الفهم والتفكير مسألة شخصيَّة وقرارات شخصية. هي ليست قرارات بمعنىٰ القرارات وإنَّمَا هي إرادة أو قل إذا شئت انعدام إرادة التطوير والتَّنمية الشخصيَّة، والركون إلىٰ الاستهتار واللامبالاة والفوضىٰ. وفوق ذٰلك يطلع علينا أحدهم أو بعضهم بنظريات تجميل الفوضىٰ وتحويلها إلىٰ فنٍّ أو مدرسة جماليَّة أو فلسفة.

صحيح أنَّ في الفوضىٰ جمال ما، وليست الفوضىٰ جمالاً علىٰ أيِّ حالٍ، وإنَّمَا في الفوضىٰ أحياناً أو استثنائيًّا جمال. ولٰكنَّهُ الاستثناء من جهة، والخصوصيَّة السَّببيَّة من جهة ثانية. فلا يخلطن أحد بَيْنَ الاستثناء والعام. وقد كان ثاني مؤشِّرات انعدام الفهم التي تحدثت عنها هنا هو البناء علىٰ الاستثناء. ضرب من البلاهة أن تأخذ الاستثناء وتبني عليه لتدحض به القانون.

المؤشِّر الثامن: الذاكرة المثقوبة

إلىٰ جانب الإدراك المثقوب هناك الذاكرة المثقوبة بوصفها مؤشِّراً من مؤشِّرات الغباء أو انعدام الفهم الموازي للغباء. وفي الحالين كليهما غالباً ما يكون ذٰلك إراديًّا، قراراً شخصيًّات لا دخل لأيِّ سببٍ أو عاملٍ خارجيٍّ فيه من أيِّ نوع.

تمظهرات هٰذه الذَّاكرة المثقوبة الدالة علىٰ الغباء كثيرة. وأرجو الانتباه هنا إلىٰ أني لا أتحدث عن النِّسيان، ولا أتحدث عن عدم التَّذكُّر. كلُّ النَّاس معرضة للنِّسيان. كلُّ الناس معرضة لعدم التذكر، وقد يكون ذٰلك مرات ومرات. لا عيب في ذٰلك ما لم يكن حالة مرضية، وإذا كان حالة مرضية فيزيولوجية، بيولوجية، فهٰذا ليس من شأننا.

من أبرز وأشهر تجليات الذاكرة المثقوبة غبائيًّا أن تساوي بَيْنَ فهمك الموضوعَ قبل انكشافه لك وبَيْنَ جهلك به عندما كان مستغلقاً عليك ولا تفهم منه شيئاً. وتزعم بعد انكشافه أنَّك كنت تعرف ذٰلك كذٰلك. وتدرك أو لا تدرك أنَّك كنت عكس ذٰلك. إذا فعلت ذٰلك فهٰذا مؤشِّر انعدام فهم ومؤشِّر غباء بالتأكيد واليقين.

أصلاً قليلون ونادرون الذين يقرأون المستقبل من خلال الواقع. ومن ثَمَّ فليس من العار ولا العيب ولا الخلل ولا الخطأ أن تكون أكثر الناس غير قادرة علىٰ استقراء المستقبل القريب أو البعيد في إطار حدث أو أحداث ما... ومن ثَمَّ أيضاً ليس ثَمَّةَ ما يستدعي أن تزعم المزاعم وتتوهَّم أنَّك كنت مثل الفلاسفة والعظماء تعرف حقيقة الأمر قبل انكشافه.

ثَمَّةَ حقيقة معروفة بمعنىٰ أو بآخر منذ قديم الأزمان وهي أنَّ الفتنة (الحدث الغامض) إذا أقبلت أدركها العلماء والحكماء وأنكروها وحذروا منها وحاربوها. وإذا أدبرت، أي إذا انكشفت، أبصرها العوام وراحوا يبيضون فيها تنظيراً وفهمنة.

كثيراً ما ذكرت لنا كتب التَّاريخ عن الألباء الذين استشرفوا المستقبل، الفتنة القادمة، من خلال قرائن يدركونها هم ولا يدركها غيرهم، وحذروا منها ولٰكنَّ أحداً لم يصغي لهم ولم يستجب فكانت الكارثة. ولَعَلَّ من أشهرها في التراث العربي تحذير دريد بن الصمة الذي قال مما قال في ذٰلك:

أَمَرْتُهُـــمُ أَمْــــرِيْ بِـمُنْعَرَجِ الِّلوَىٰ

فَلَمْ يَسْتَبِيْنُوا الرُّشْدَ إلاَّ ضُحَىٰ الغَدِ

الاستشراف أمرُ النُّبهاء من العلماء والفلاسفة والحكماء وأضرابهم وليس هو شأننا هنا، وإنَّمَا شأننا شأن البلهاء الذين لا يصدقونهم من جهة، ولا أقول إن في هٰذا بلاهة ولا غباء، وإنَّمَا يزيدون في ذٰلك أَنَّهُ عندما تولي الفتنة يزعمون أَنَّهُم كانوا يدركونها ويفهمونها ويعرفون كل، وبعضهم تفيض به الحال فيزعم واهماً أَنَّهُ شمَّر ونبَّه وحذَّر وعبس وبسر وشذر ومذر من هٰذا الخطر.

ولا أكثر في الأمثلة والشَّواهد فهي أكثر من أن تُحصىٰ. وهٰذا السُّلوك أو النَّمط التَّفكيري دليل غباء لا دليل ذكاء. لا يريد المرء الاعتراف بجهله فيوقع نفسه في بئر الغباء. يعزُّ علىٰ المرء أن يعرف أن غيره كان يعرف الحقيقة وهو لا يعرفها فيدفعه عقله الباطن الغبي إلىٰ عدم تذكُّر جهله والالتفاف عليه بتوهم أَنَّهُ كان يعرف.

إذن يجب أن نتذكر ختاماً هنا أنَّ النِّسيان ليس مشكلة، وحَتَّىٰ التوهم ذاته ليس دائماً مشكلة. ولٰكنَّ هٰذه الالتفافة التفافة غبيَّة ومؤشِّر علىٰ غباء ولا مانع من أن تقول إِنَّهُ الغباء الإرادي.

المؤشِّر التاسع: المنطق الرافضي

من الضَّروري أن أبيِّن هنا بدايةً أنِّي لا أقصد الرَّوافض في هٰذا المؤشِّر ولا بحال من الأحوال. أنا أتحدت عن  العقل الرَّافضي، والمنطق الرَّافضي، وسينطبق علىٰ العقيدة الرَّافضيَّة أو لا ينطبق عليها بقدر ما يكون تفكيرهم منطبقاً مع طبيعة هٰذا المنطق. وقبل أن أتابع أيضاً أتابع فأقول: إنَّ المنطق الرَّافضي أو العقليَّة الرَّافضيَّة ليست مخصوصةً بقومٍ معينين دون سواهم أبداً، بل لا أستطيع الجزم فيما إذا كانت العقلية الرَّافضيَّة عقليَّة جمعيَّة أم لا. فهي في حقيقة الأمر عقليَّة فرديَّة ومنطق فرديٌّ. قد يتوافق عليها جماعة من بنية أيديولوجية واحدة وليس ذٰلك شرطاً. ستجد من تنطبق عليهم خصائص هٰذه العقليَّة أو المنطق ينتمون إلىٰ مختلف الأديان والعقائد والمذاهب...

وقد سميته بالعقل الرَّافضي أو المنطق الرَّافضي لدأبه علىٰ دوام الرفض وتكراره وخاصة رفض الحق والصَّواب، ولذٰلك لم أسمه بالعقل الرَّافض أو المنطق الرَّافض لأن هٰذا حال قد يقلُّ الرَّفض فيه وقد يكثر، وإنَّمَا يعبر عن موقف أصواباً كان خطأ. بَيْنَما إلحاق ياء السبة إليه ليغدو العقل أو المنطق الرَّافضي يفيد الدَّيمومة، والتِّكراريَّة، واحترافيَّة رفض كل الحجج المقدمة لتبيان الأمر وإثباته مهما كانت.

طالما أنَّ هناك حجج وأدلَّة وإثباتات فإنَّ الأمر يتعلَّق بحقٍّ وصوابٍ إذ لا يمكن إثبات الباطل إلا بباطلٍ مثله فلا يكون في ذٰلك إثباتاً ولا دليلاً وبرهاناً إلا سفسطة واحتيالاً. وطالما أنَّ الأمر كذٰلك فإنَّ العقل الرَّافضي ومنطق الرَّافضي يقوم علىٰ رفض الحق ورفض الصَّواب مهما كانت الأدلَّة علىٰ ذٰلك والحجج والإثباتات والبراهين.

قد يقول قائل: هٰذا محال. أيعقل أن يظلَّ أحد يرفض الأدلة والحجج والإثباتات والبراهين إلىٰ ما لا نهاية؟ لا بُدَّ أن يقتنع.

هٰذا غير صحيح. انظر إلىٰ تاريخ رسل الله تَعَالىٰ بماذا يختلف تعامل الكفرة معهم عن هٰذا المبدأ؟

قد يقول قائل: ذٰلك زمان وهٰذا زمان. وهٰذا الاعتراض أيضاً واه ولا قيمة لها لسببين.

الأول منهما علىٰ افتراض تجاوز الزمان لسبب ما نقبله جدلاً فإنَّ ما يحدث في هٰذه الأيام لا يختلف أبداً عما مضىٰ في استمرار رفض الحجة والإثبات والدليل والإصرار علىٰ الباطل ورفض الصواب والحق. وقد عشنا وما زلنا نعيش الكثير مثل ذٰلك. فإذا كتنت لا تشاهده ولا تدركه فأعد النظر في مفاهيمك وثقافتك وقناعتك وحَتَّىٰ عقيدتك.

الثاني أن المعترض يحسب وهماً أن أناس هٰذا الزمان أكثر ذكاء أو إدراكاً أو وعياً أو فهما أو غير ذٰلك مما يشبهه، الأمر الذي يجعلهم أقرب إلىٰ المنطق. وهٰذا وهم محض. وعلىٰ افتراض قبوله فالواقع يكذبه. وفي الوقت ذاته فإنَّ حجج رسل الله تَعَالىٰ وأنبيائه وأدلتهم وإثباتاتهم أقوىٰ بملايين المرات من حججنا وأدلتنا وإثباتاتنا اليوم. الرسل كانوا يقدِّمون معجزات لا يستطيعها أحد من البشر لا في أزمانهم ولا في أزماننا. أفمن اعترضوا علىٰ المعجزات وكذبوها أقل حصولاً علىٰ الإثباتات التامة الإقناع من أهل هٰذا الزمان؟! أبداً.

انظر كيف وصف الله تَعَالىٰ هٰذه الفئة وأصحاب هٰذا المؤشِّر من الغباء الإرادي. قال تَعَالىٰ:

«وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفْجِيرًا

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ قَبِيلًا

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ

أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ

وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُ...»([1]).

بعد جدال وعرض أدلة وحجج وإثباتات قالوا لن نؤمن لك، لن نصدقك حَتَّىٰ تفعل كذا أو كذا... وختموها بأنك حَتَّىٰ ولو فعلت كل هٰذه المعجزات فلن نصدقك.

قد يقول قائل هٰؤلاء الكفار فما علاقتهم بالأغبياء. قلت بداية هٰذا المؤشِّر هو ليس مرتبطاً بمذهب أو دين أو عقيدة أو كفر هو عقليَّة، نمط تفكير فردي غالباً وقد يكون جامعاً لقوم أو جامعة. وهٰذا النَّمط من التفكير، وهٰذا المنطق التَّعاملي هو مؤشِّر انعدام فهم إرادي، ومؤشِّر غباء إرادي. ماذا تقول عن شخص يقول لك إِنَّهُ لا يريد أن يفهمك ولا يقبل حَتَّىٰ ولو كنت علىٰ تمام تمام التمام من الصَّواب والحقِّ؟! أيمكن أن يكون إلا غبيًّا غباءً إراديًّا؟ أيمكن أن يكون إلا عدم الفهم بقرارٍ شخصيٍّ إراديٍّ؟!

هو عديم الفهم وغبيٌّ بقراره ومحض وعيه وإراداته مهما كانت عقيدته وأيديولوجيته ومذهبه وفلسفته ودينه ومدىٰ إيمانه زيادة أو نقصاً.

المؤشِّر العاشر: رفض الاعتراف بالخطأ

رفض أو عدم الاعتراف بالغلط أو الخطأ وحده من دون تفاصيل أو شروحات، ومن دون تحديد أعداد أو كميات مسألة مريبة ومثيرة للشك. أن يفعل المرء ذٰلك مرة واحدة وحسب أمر مريب وغير مقبول.

ومع ذٰلك لنكن متساهلين متسامحين واسعي الصَّدر. لنقل إنَّ المرء في بعض الأحيان يسهو، يشرد، وينسى، لا يستوعب المشكلة... وغير ذٰلك مما في هٰذا السِّياق، فلا يعترف بخطئه أو غلطه لسبب من هٰذه الأسباب، وقل أيضاً أحيانا يركبه العناد أو الكبر أو الغرور لسبب أو لآخر فيركب العناد رأسه ولا يعترف بالخطأ أو الغلط مع كوننا لا ندري إن كان في قرارة نفسه يدرك ذٰلك أم لا يدركه، ولن يعنينا ذٰلك طالما هو أمر طارئ أو استثنائي.

إذن، عدم الاعتراف بالغلط أمرٌ عاديٌّ قد يقع فيه أيُّ إنسان ولا نقصد هٰذا الأمر بطبيعة الحال مع تأكيدي أَنَّهُ أمر غير مقبول وأمر مريب حَتَّىٰ ول كان لمرة واحدة، ولٰكنَّنا من باب إحسان الظن وتلطيف الأجزاء نلتمس الأعذار من علم النفس السُّلوكي... ولٰكن أن يكون عدم الاعتراف بالغلط أو الخطأ عادة مستشرية وسجية ملازمة لكل خطأ وسلوك فتلكم هي المصيبة، وذلك هو المؤشِّر علىٰ أنمَّ هٰذا السُّلوك سلوك غبي. وبالتأكيد من باب الغباء الإرادي؟

والسَّفاهة الأشدُّ من ذٰلك والمصيبة الأكبر مما سبق في السِّياق ذاته هي قيامه باتِّهام الآخرين بعدم الاعتراف بالغلط... الأمر هنا يتجاوز الغباء الرغبوي أو الإرادي إلىٰ السَّفاهة. وهٰذا حكم ودلالة هٰذا السُّلوك مهما كانت التَّفسيرات النفسي «السيكولوجية» له؛ إسقاط، هرب، تضليل، حيل دفاعية، حيل هجومية... كل هٰذه التَّسويغات لا تخرج صاحب هٰذا السُّلوك من دائرة الغباء. وكذٰلك الأمر فيما سبق كله من مؤشِّرات، ذٰلك أننا لن نعدم من المحللين النفسيين من سيحاول تقديم تفسيرات أو تسويغات لتلك السُّلوكات. قد تكون التَّفسيرات النَّفسيَّة صحيحة ولا أعترض عليها، ولٰكنَّهَا مع صحتها لا تخرج صاحب السُّلوك من بئر الغباء الذي نزل إليه بإرادته.

بعضهم ينقلب علىٰ نفسه فيما بعد فيكون حاله تقريباً مشابها لما في مؤشِّر الذاكرة المثقوبة، إِنَّهُ ينسىٰ موقفه أو خطأه ويحمل الموقف الجديد ويتبناه ويزعم أنَّ هٰذا موقفه طوال حياته... منذ زمن بعيد... والأشد سفاهة من ذٰلك أن يأتي إلىٰ من كشف له خطأه ويعامله علىٰ أَنَّهُ هو صاحب الخطأ ويشرح له أو يعلمه هٰذا الأمر أو الفكرة أو...

تخيل علىٰ المثال شخصاً يحمل فهماً خاطئاً للسِّياسة الأمريكيَّة تجاه أمر ما. فتشرح له وتوضح وتحاول إقناعه بالموقف الحقيقي، فيأبي ولا يقبل ولا يقتنع ويجادلك بتخريفاته حَتَّىٰ يطقق قلبك. وبعد يوم أو يومين أو أكثر يأتي متبنياً موقفك وفهمك، ويعاملك علىٰ أنَّ هٰذا ليس موقفك ولا فهمك، وأن فهمك هو فهمه الخاطئ السابق، وفوق ذٰلك يشرح لك ويريد إقناعك بموقفك وقناعتك علىٰ أَنَّهَا موقفه وقناعته وعلىٰ أنك لا تفهمها ولا تقبلها!!!

عدم الاعتراف بالغلط بهذه الطَّريقة هو سلوك فردي محضي. تجده في أي مكان وأي مستوىٰ من مستويات البشر وأنواع الوظائف والحرف والمهن. وربَّمَا ما من إنسان إلا تلقىٰ الصَّدمات الصَّاعقة من شخص أو أكثر من هؤلاء الأشخاص. والأطرف من ذٰلك ستجد منهم أنفسهم من يشتكي من غيره في هٰذا الشَّأن توهماً وزعماً كما قلت قبل قليل، أو حقيقة بالفعل من أشخاص مماثلين لهم. ولٰكنَّهُم يرون عيوب غيرهم ولا يدركون عيوبهم.

المؤشر الحادي عشر: التفكير الخطي

التَّفكير الخطِّي أو ما أسمِّيه تفكير القرود تشبيهاً لسبب سأذكره، هو مؤشِّر من مؤشِّرات الغباء الملتبس بَيْنَ الإرادي واللاإرادي وإن رجحت فيه الإراديَّة. كان هٰذا المؤشِّر موضوع حديثي في فصلين من كتابي فلسفة أخلاق التَّخلف([2]) بوصفة من سمات المجتمع المتخلِّف. التَّخلُّف أفرديًّا كان أم جمعيًّا يعني نوعاً من انحسار التَّفكير وانعدامه، يعني امتداديًّا الغباء.

هٰذا المؤشِّر من مؤشِّرات الغباء الإرادي من أكثرها طرافة وربَّمَا غرابة ولذٰلك تبدو شواهده وأمثلته ضرباً من النُّكت بقصد الإضحاك. والأمثلة في هٰذا الباب كثيرة وأكثرها تبدو حقائق لا اختلاقات. وعلىٰ افتراض كونها اختلاقات فهي معبِّرة في الحقيقة تمام التَّعبير عن حقيقة التَّفكير الخطِّي أو تفكير القرود. سأبدأ بالأمثلة والشَّواهد، وستكون البداية مع سبب تسميتي التَّفكيرَ الخطيَّ بتفكير القرود.

يُروىٰ أنَّ أحد كبار المسؤولين السُّوريين يوماً ما ذهب إِلىٰ فرنسا في زيارة رسميَّةٍ، وهناك كانت له زيارة إِلىٰ حديقة الحيوانات بباريس.

فيما هو والوفد المرافق له يجولون في الحديقة مرُّوا بقفص القرود، وما إن رأتهم القرود يسيرون وهٰذا المسؤول بَيْنَهم حَتَّىٰ هاجت وماجت وراحت تخبط بقضبان القفص...

استغرب الجميع ذٰلك فتوقَّفوا. ولاحظوا أَنَّهُم كلما همُّوا بالابتعاد عنهم عادت القرود إِلىٰ الهيجان من جديد، فما كان منهم إلا أنَّ جاؤوا بالمختص بالقرود ليجلو لهم الحدث. فدخل إليهم وخرج بعد قليل وقال:

ـ غاضبون ومستنفرون...

ـ نعلم ذٰلك، ولٰكن لماذا؟

قال المختص بالقرود: يقولون لماذا الظُّلم... إمَّا أن نكون كلُّنا في القفص أو كلُّنا خارج القفص... ذٰلك (وأشار إِلىٰ المسؤول السوري) لماذا يسير معكم وليس معنا في القفص؟!...

القرود ظنَّت أنَّ ما تشابه في الشَّكل متشابهٌ في الجوهر. كلُّ ما يشبه قرط الموز موز، كلُّ شيء كروي بطيخ... كلُّ قصير وأسمر قرد...

ما أسهل أن تقيس النَّاس كلَّهم بمسطرةٍ واحدةٍ، وما أكثر البشر الذين يمارسون هٰذا التَّفكير الخطي؛ تفكير الذي تعلم أن َّكلَّ من يقف عَلىٰ رجلين فهو إنسان فلَّما رأى القرد قال عنه: هٰذا إنسان، ورأىٰ الدَّجاج فقال هٰذا إنسان، ورأىٰ الكنغر فقال هٰذا إنسان... وحين وقف الفيل عَلىٰ رجليه فجأة صرخ مندهشاً وقال: لقد تحول الفيل إِلىٰ إنسان، لقد تحوَّل الفيل إِلىٰ إنسان...

إنَّ من يضع النَّاس كلَّهم في سلَّةٍ واحدةٍ من ناحية الذَّكاء أو الأخلاق أو القدرة أو الإيمان... فإنَّهُ أقلُّ ذكاء من القرود، وأقلُّ تفكيراً من القرود... أعني أَنَّهُ في فئة الأغبياء

التَّفكير الخطِّي أو تفكير القرود هو بنية تفكير، بنية إدارة حياة الإنسان كلِّها، أي منطق حياته، أي يؤثِّر في سلوكاته وأفعاله ومواقفه كلها... أي هو علَّة علل لا علَّة واحدة. وهو في حقيقة الأمر غباء إرادي أكثر مما هو غباء ولاديٌّ أو بيولوجيٌّ أو فيزيولوجيٌّ، لأَنَّهُ لا يوجد ما يمنع هٰذا المرء من أن يفكر منطقيًّا.

التَّفكير الخطِّي هٰذا أو تفكير القرود ليس بالظَّاهرة الجديدة بطبيعة الحال، وقد ضرب لنا قدماء الإغريق مثلاً بديعاً عليها فيما اشتهر باسم سرير بروكست. بروكست هٰذا كما تروي الأساطير الإغريقيَّة قاطع طريق. كان في الأصل حدَّاداً. وقاطع الطَّريق هٰذا كان مولعاً بالقياس؛ قياس الأطوال وليس القياس المنطقيِّ. كان يجرِّد النَّاس من أمتعتهم ثُمَّ ثيابهم، ثُمَّ يمدِّدهم عَلىٰ سرير من حديدٍ، فمن كان أطول من السَّرير قصَّ بروكست له رجليه حَتَّىٰ يتساوىٰ مع طول السَّرير، ومن كان أقصر من السَّرير كان بروكست يشدُّ رأسه ورجليه بحبالٍ حَتَّىٰ يتساوى طول جسمه مع طول السَّرير!!

قد يباغتنا المحللون النَّفسيون بمحاولة تقديم تفسير لهٰذا السُّلوك بأنَّهُ سادي وشادي وبادي. علىٰ افتراض صحَّة التَّفسير سيظلُّ هٰذا السُّلوك مؤشِّراً علىٰ الغباء والبلاهة أيضاً. وهو في المبدأ صورة من صور التَّفكير الخطيِّ أو تفكير القرود. وعلىٰ أيِّ حالٍ هو تفكير الأغبياء.

وإذا كان الشَّاهدان متباعدان في الصُّورة إلا أنَّ المبدأ واحد، وثَمَّةَ العشرات وربَّمَا المئات من الشَّواهد الحية، الواقعية التي تبدو كلها أَنَّهَا نكت وطرائف. أكتفي بما ذكرت منها ولا أطيل.

المؤشر الثاني عشر: التفكير الإسقاطي

التَّفكير الإسقاطي أو العقل الإسقاطي هو المؤشِّر الثَّاني عشر علىٰ غباء صاحبه. يجب أن ننتبه ونميِّز بدية بَيْنَ الإسقاط بوصفه إحدىٰ بنىٰ أو آليَّات العقل النَّفسيَّة الدِّفاعيَّة وبَيْنَ التَّفكير الإسقاطي بوصفه آليَّة تفكيرٍ تجعلنا نصف عقلَ صاحبها بالعقل الإسقاطي.

كلُّ عقلٍ أو كلُّ إنسانٍ في حقيقة الأمر لديه هٰذه الحيلة الدِّفاعيَّة النَّفسيَّة عن الذَّات المسمَّاة بالإسقاط. وهي قيام العقل أو المرء بالمعنىٰ الأكثر دقَّة بإسقاط ما في النَّفس علىٰ الآخرين من نقص أو خللٍ أو رغبات أو غير ذٰلك. يبدو جليًّا أنَّ الآليَّة آليَّة مرضيَّة وليست نمط تفكيرٍ سويٍّ بحالٍ من الأحوال. ولذٰلك لا عجب أن تعلم أَنَّهَا تكثر عند الأطفال الصِّغار أكثر من الكبار، وأنَّ النَّضج الانفعاليَّ والعاطفيَّ والمعرفيَّ يقللُّ من لجوء المرء إلىٰ هٰذه الحيلة الدِّفاعيَّة، وكلَّما زادت الثِّقة في النَّفس أكثر زاد انحسار اللجوء إلىٰ هٰذه الحيلة الدِّفاعيَّة... إنَّهَا حيلة دفاعيَّة كما يسمِّيها علماء النَّفس([3])، ومن ثَمَّ فهي تعبيرٌ عن الدِّفاع عن خللٍ، ومن ثَمَّ فإنَّ مَن قلَّ خلله أو انعدم انعدمت حاجته إلىٰ الحيل الدِّفاعيَّة، وأيضاً الواثق في نفسه وعلمه ومعرفته فهو بغير حاجة إلىٰ أيِّ نمط من أنماط الحيل.

إذن مع تمييزنا بَيْنَ الإسقاط بوصفه آليَّه نفسيَّه دفاعيَّة يمارسها الإنسان لا شعوريًّا لدىٰ وقوعه في غلط أو نقص أو خلل أو رغبة أو غير ذٰلك... وبَيْنَ ما سيأتي من التَّفكير الإسقاطي فإنَّ الإسقاط بوصفه آليَّة نفسيَّة لا يعدو أن يكون ضرباً من الغباء أو الغباء الإرادي. فما بالك إذا تعدَّىٰ الأمر إلىٰ أن يكون نمط التَّكفير الشَّخصي نمطاً إسقاطيًّا؟!

إذا كان ثَمَّةَ شكٌّ في أنَّ الإسقاط بوصفه آليَّة نفسيَّة ضرباً من الغباء فمن المحال أنَّ يكون ثَمَّةَ شكٌّ في أنَّ التَّفكير الإسقاطيَّ مؤشِّر غباء بامتياز.

لا يختلف التَّفكير الإسقاطي أو العقل الإسقاطي من جهة المبدأ والشكل والممارسة عن الإسقاط بوصفه آليَّة دفاعيَّة، إِنَّهُ ذاته مع فارقٍ واحدٍ هو أنَّ التَّفكير الإسقاطي بنية تفكيريَّة وعادة عند الإنسان وليس ملجأ أو ملاذاً اضطراريًّا في الملمات من عثرات أو أخطاء أو رغبات يصعب التعبير عنها...

للتَّفكير الإسقاطي أو العقل الإسقاطي تجليات عدَّة أبسطها هو الصُّورة المعتبرة للإسقاط بوصفه حيلة دفاعيَّة، أي إسقاط العيب أو النقص أو الخلل علىٰ آخر أو الآخرين للتَّنصل من العيب أو الخطأ أو لتحويله إلىٰ أمرٍ عاديٍّ يشترك فيه مع غيره، وبعضهم يزيد بأن لا يرىٰ العوار في نفسه وإنَّمَا يسقطه علىٰ الآخرين اقتناصاً لفرصة... أو ادعاءً أي افتراءً بمعنًىٰ من المعاني.

قد تشرح لأحدٍ مسألةً يجهلها، وبالتَّأكيد يجهلها، ثُمَّ لا تلبث بعد حين أن تجده يشرحها لك علىٰ أنَّك لا تعرفها ولا تفهمها. إلىٰ هنا الأمر غير عادي وقد سبق الكلام فيه. ولٰكن أن يقول لك علىٰ سبيل المثال: لقد شرحت/ قلت لك ذٰلك من قبل، ألم أشرح لك ذٰلك من قبل؟ ألم أوضح لك ذٰلك من قبل؟ فهنا المصيبة. وفي سياق الأمر ذاته قد يكون التَّصرُّف من قبيل آخر، فأنت تشرح له وتوضح، وهو يجعل ولا يعلم أو لا يفهم... ثُمَّ يتَّضح الأمر عن طريق خبر تلفزيوني أو ما شابه ذٰلك... فيأتيك ليقول لك: ألم أقل لك هٰذا من قبل؟ الغباء ذاته من مدخلٍ مختلف.

الإسقاط هنا غالباً ما يكون محدَّد الجهة والهدف وليس عامًّا كما هو الحال في الحيلة الدِّفاعيَّة. إِنَّهُ يشبه الثَّأر الشَّخصي ولٰكنَّ بغباءٍ محض. هو غباء وليس مسألة ذاكرة ونسيان وتذكُّر. نحن نبعد مسألة التَّذكُّر والنِّسيان من الحسبان فلا نعدها من هٰذا القبيل لأنَّنا نتحدث عن عقلية ولا نتحدَّث عن هفوة أو زلة ونسيان يكون مرة أو اثنيتن أو ثلاث... نحن نتحدَّث عن نمط تفكير يغلب علىٰ الشَّخص ولا يكون دائماً بطبيعة الحال.

المؤشر الثالث عشر: غيمة جحا

المؤشر الثالث عشر والأخير الذي سأتحدَّث عليه هوما أسميه غيمة حجا. لا حاجة للتعريف بجحا، ولٰكنَّ من الضَّروري التَّذكير بقصة غيمة جحا التي بالكاد تجد من يجهلها. حصل جحا علىٰ مبلغ من المال أو كنز وأراد أن يخفيه فابتعد عن المدينة إلىٰ الفلا وراح يبحث عن علامة يستدل بها للعودة إلىٰ الخبيئة متَىٰ شاء فما وجد غير غيمة صغيرة في السَّماء بطبيعة الحال وعين سمتها وحفر تحتها وطمر الخبيئة ومضى.

أخذ بعد أيام صحبه ليدفع لهم النقود وراح يبحث عن الغيمة فلا يجدها. فسألوه: أين النقود؟ قال: لا أجد الغيمة!! قالوا: وما علاقة الغيمة بالنقود؟! قال: أخفيت النقود تحت الغيمة.

دعك من مصداقيَّة هٰذه الحكاية وانظر في آلية التَّفكير، طريقة التَّفكير. آليَّة التَّفكير هٰذه موجودة بكثرة لدىٰ كثير من الأشخاص علىٰ الرَّغمِ مما تبدو عليه من انعدام إمكانيَّة الوجود. قد تكون قصة جحا اختلاقيَّة لا وجود لها ولٰكن الواقع يقطع بوجود كثير من الأشخاص يفكِّرون بهٰذه الطَّريقة من التَّفكير حَتَّىٰ في الممارسة ذاتها.

المسألة فيما يجب أن تضع في اعتبارك ليست مسألة إخفاء تحت غيمة أو شجرة أو غير ذٰلك. نحن نتحدَّث عن آليَّة تفكير. سأقرِّب لك هٰذا المؤشر بمثال آخر هو نكتة في حقيقة الأمر. في ليلة من الليالي شاهد رجلٌ صديقه يسير في الطَّريق جيئة وذهاباً فسأله: «ما بك؟ ماذا تفعل؟». فقال له: «تعال ساعدني تعال... لقد فقدت محفظتي ونقودي فابحث معي عنها». فسأله صديقه: «ألا تذكر أين فقدتها بالضبط». قال: «بلى، لقد فقدتها في الشَّارع الذي خلف تلك البنايات». فقال له: «ولماذا تبحث هنا؟!!». فأجاب: «هناك عتمة لا يوجد ضوء، فقلت أبحث هنا فالنور موجود والبحث أسهل».

أيهما الغبي هنا؟

أحدهما بالضَّرورة وقد يكون الاثنان. فإذا كان الباحث جاداً فهو تطبيق عملي حرفي لغيمة جحا. وإن كان مازحاً فكلامه ردُّ فعل علىٰ السُّؤال الغبي الذي طرحه صديقه: أين فقدت المحفظة؟ لو كان يتذكر أين فقدها لوجدها بطبعة الحال ولما بحث... لاستقرَّ الأمر به علىٰ مكان فقدها. كثيرون يسألون مثل هٰذا السُّؤال الذي ينطوي علىٰ غباء تلقائي:

يفقد أحدهم شيئاً فيسألونه: أنت أين وضعتها آخر مرَّة؟! كيف يكون ذٰلك وآخر مرَّة هي التي تم الفقد فيها؟!

ـ هل أنت نائم؟ إذا كنت نائماً فلا ترد، وإذا لم تكن نائماً أريد أن أسألك سؤالاً.

علىٰ أيِّ حال، هٰذا أمر آخر غير أمر غيمة جحا. أمثلة غيمة جحا تتمثل غالباً في غباء الاتجاهات والعلامات والإشارات. لا أقصد جهل الأماكن والاتجاهات وإنَّمَا أقصد الغباء في استخدامها والتَّعامل معها من قبل غير الأغبياء الطَّبيعيين.

 

خاتمة

من المؤكد أنَّ هٰذه المؤشِّرات ليست هي كل مؤشِّرات الغباء الإرادي. ولٰكنَّهَا، أي المؤشِّرات السَّابقة حسب رأيي، هي أبرز وأكبر مؤشِّرات الغباء الإرادي. الغباء الإرادي الذي سميته اللافهم، وأكثرها تعبيراً عن حقيقة الغباء الإرادي وأكثرها تمثيلاً له، وأكثرها أهميَّةً وحضوراً في هٰذا الشَّأن. ربَّمَا توجد مؤشِّرات أُخْرَىٰ بل من المؤكد غالباً أَنَّهُ توجد مؤشِّرات أُخْرَىٰ، لو وجدت ما هو بقيمة وقوَّة هٰذه المؤشِّرات لذكرته ولن أقول تركته. فإن وجد فقد فاتني الانتباه له، إلا اللهم إذا كان لي حديث عليه من زاوية أُخْرَىٰ في هٰذا الكتاب، فتلكم ستكون مسألة أُخْرَىٰ.

علىٰ أيِّ حال، فإنَّ كلُّ واحد من هٰذه المؤشِّرات السَّابقة، التي تم الحديث عليها، يكفي وحده علىٰ نحوٍ مستقلٍّ ومنفصلٍ ليكون صاحبهُ عديمَ الفهم غبيًّا بالإرادة. ولذٰلك لم أقم بترتيب هٰذه المؤشرات علىٰ أي أساس تصنيفي أو تراتبي أو تتابعي أو اشتراطي.

لا تنتظر أن تجتمع هٰذه المؤشرات كلها في امرئٍ لوصفه بالغبي الإرادي، يكفي وجود واحدٍ منها عنده ليحقَّ لك أن تمنح نفسك صلاحيَّة وصفه بالغبيِّ الإراديِّ. علىٰ أَنَّهُ من الضَّروري الانتباه إلىٰ خصوصية بعض المؤشِّرات من جهة بعض شروطها التي تتيح لك نعت صاحبها بالغبي الإرادي، فبعض المؤشرات موقوفة علىٰ شروط وليست مطلقة.



([1])  ـ القرآن الكريم ـ سورة الإسراء ـ الآيات من 90 إلىٰ 93.

([2])  ـ الدكتور عزت ا لسيد أحمد: فلسفة أخلاق التخلف ـ دار فن وعلم ـ طرابلس ـ 2018م.

([3])  ـ يمكن مراجعة كتب علم النفس العام لمزيد من التفاصيل، ومنها علىٰ سبيل المثال: الدكتور أحمد عزت راجح: أصول علم النفس ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة ـ 1982م.                                                                               المصدر موقع الدكتور عزت السيد أحمد





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق