الخميس، 10 أكتوبر 2024

الحرية بين عالمي الإنسان والحيوان

الحرية بين عالمي الإنسان والحيوان


الدكتور عزت السيد أحمد

هذه المقالة فصل من كتاب: الثورة ثورة ثورة في كل شيء

 

أحياناً كثيرةً يدفعني الفضول للمقارنة بَيْنَ الحريَّة في عالم الحيوان والحريَّة في عالم الإنسان. 

ودائماً أجد الحريَّة في عالم الحيوان مضبوطةً ومنظَّمَةً أكثر من عالم الإنسان حَتَّىٰ أجدني مندفعاً للقول من دون تردُّدٍ: يستحقُّ الحيوان الحريَّة، يستحقُّ الحيوان الحريَّة، يستحقُّ الحيوان الحرية.

طبعاً، من البداهة بمكان أن يوجد علىٰ الفور من يعترض بالقول: أنت تقول حريَّة مضبوطة، حريَّة منظَّمة، فكيف يمكن أن تكون حريَّة ومضبوطة، حريَّة ومنظَّمة؟ أليس هٰذا انتهاكاً لمفهوم الحريَّة؟

هنا هي المشكلة الحقيقيَّة في فهم الحريَّة.هل الحريَّة مطلقةٌ.أم الحريَّة مقيَّدةٌ؟

إذا كانت مقيَّدةً فكيف تكون حريَّةً؟

وإذا كانت مطلقةً فما مدى مطلقيَّتها؟

إذا قبلت بالمطلقيَّة من دون حدٍّ أو مدى فأنت تتحرك في الفراغ منعدم الجاذبيَّة، وإذا قلت بمدى للمطلقيَّة عدت للقيد!!

دعكم من هٰذا الكلام بهٰذه الطَّريقة إِنَّهُ سفسطة، بل سفسطةٌ عقيمةٌ، لا توصل إلىٰ نتيجةٍ ولن تؤدِّي إلاَّ إلىٰ إضاعة الوقت في ترف النِّقاش والسِّجال. نحن نريد أن نصل إلىٰ نتيجةٍ. من يعترض علىٰ أنَّ الحريَّة يجب أن تكون مقيَّدةً فهو غير جديرٍ بالكلام علىٰ الحريَّة. لا توجد حريَّةٌ مطلقةٌ لا نظريًّا ولا عمليًّا. بل لا يستطيع الإنسان أبداً أن يعيش حريَّةً مطلقةً. كلمة حريَّة مطلقة كلمة يجب أن يدرك من يستخدمها معناها قبل أن يستخدمها. ومن يتكلَّم بكلام أو عبارات لا يدرك معناها فكلامه غير مسؤولٍ، ولا يجوز أن يعتدَّ بكلامه أبداً.

لا أدري إن كان يتوهم الغربيون أنَّهُم يعيشون حريَةً مطلقةً، ولٰكنِّي متأكدٌ أنَّ كثيراً من الشَّرقيين يتوهَّمون أنَّ الشَّعب الغربيَّ يعيش حريَّةً مطلقةً. وهٰذا محض وهم لا أساس له من الصِّحَّة. الغربي يعيش حريَّة الحركة والعمل والانتخاب وأشياء أُخْرَىٰ غير قليلةٍ، ولۤكنَّهُ محدود في كلِّ شيءٍ بقانون يقول له قف، هٰذا ليس من حقِّك. أيسرها أنَّهُ في حين أنَّهُ يحقُّ له أن ينتحب من يشاء عندما يدعى إلىٰ الانتخاب فإنَّهُ لا يحقُّ له التَّرشح حيث شاء إلا ضمن شروط، هٰذه الشُّروط إذن قيدٌ علىٰ الحريَّة.

هٰذا مثال قريبٌ بسيطٌ إلىٰ الذِّهن سريعٌ، ولٰكنَّ الحدود والقيود علىٰ الحريَّة كثيرةٌ جدًّا في كلِّ مجالٍ ومكانٍ وميدانٍ. هٰذه القيود علىٰ الحريَّة ليست انتقاصاً من الحريَّة ولا انتقاصاً من قيمة الإنسان بالضَّرورة. هٰذه الضَّوابط هي الضَّرورة، مثلما الحريَّة ضرورةٌ فإنَّ الضَّوابط علىٰ الحريَّة ضرورةٌ أيضاً.

الإنسان بطبعه طامعٌ طامحٌ جامعٌ حرونٌ متمرِّدٌ يستطيع أن يمارس كلَّ ذۤلكَ معاً بطاقاته القصوى في أيِّ فرصةٍ تتاح له. ومن هنا تأتي ضرورة الضَّوابط كي لا يعتدي علىٰ حقوق الآخرين وكي لا يتعدى حدوده.

لنعد إلىٰ فضولنا في المقارنة مع عالم الحيوان. في تتبعنا العلميِّ لعالم الحيوان وجدنا بعض مظاهر الاستعراض وحب الظُّهور حسب مستوى فهمنا لعالم الحيوان بل إسقاطنا دلالاتنا عليه، وبمعاييرنا الإنسانيَّة... ولذۤلك لا نستطيع الجزم فيما إذا كانت كذۤلكَ فعلاً أم أنَّ لها في عالم الحيوان دلالاتٍ أُخْرَىٰ. ومع ذۤلكَ في إطار هٰذه الملاحظة أو التتبع وجدنا أيضاً هٰذه المظاهر محدودة في أوقات أو معطيات ظرفيَّةٍ محدَّدة تقترن غالباً في أوقات السِّفاد، تنتهي بعدها علىٰ الفور ولا يبقى لها أي أثر، وتعود إلىٰ حياتها الطبيعية.

ولكنَّنا وجدنا في الإنسان أنَّ حبَّ الاستعراض والظُّهور والزَّعامة عقدة متأصَّلة في النَّفس البشريَّة بالعام ورُبَّما بالمطلق. رُبَّما لأنَّهُ في يعيش ديمومة نشاط جنسيٍّ غير منقطةٍ ولا موسميَّةٍ مثل عالم الحيوان... تفسير فرويدي لا نهمله ولا نعوِّل عليه، وإنَّمَا من باب التَّداعي الدعابي.

تظلُّ هٰذه العقدة عند الإنسان تحت السَّيطرة حَتَّىٰ ينكشف الغطاء عن الإنسان فإنَّهُ يريك من عجائبه ما تشيب لهوله الولدان الرضيعة. نحن لا نكتشف حقيقةً خفيَّةً علىٰ الحكماء الفلاسفة والعلماء. لنرجع إلىٰ أدبيات الشُّعوب عبر آلاف السِّنين الماضية؛ حكمها، أمثالها، قصصها، أشعارها... سنجدها بارزة في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مجتمعٍ. ومن حكيم ما قالته العرب قول المتنبي:

والظلم من شيم النفوس فإن    تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

ارتفاع القيد، ارتفاع الغطاء هو انتفاء سلطةٍ فوقه، غياب السُّلطة التي تحكمه. القانون موجودٌ ويظلُّ موجوداً. القانون ليس أحكاماً مكتوبةً علىٰ ورقٍ أو جدرانٍ أو غيرها. القانون موجود في العقل، والكل يدرك القانون. إيمانويل كانت قال يوماً: «أمران يملآن عقلي غبطةً: السَّماء المرصَّعة بالنُّجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقيُّ في أعماقي». نحن لسنا بحاجةٍ إلىٰ أيِّ جهدٍ لندرك القوانين العامَّة المرتبطة بالحرية أو لنقل التي تحدِّد مدى الحريَّة.

إذن ليست المشكلة في وجود القانون وإنما في وجود سلطة تطبق القانون. وإذا كان فلاسفة التنوير اختلفوا في أيِّهِما الأولى القانون الجيِّدُ أم تطبيق القانون بالتَّساوي فإنِّي أميل إلىٰ تطبيق القانون بالتَّساوي ولو كان جائراً، لأنَّ الظُّلم في السَّوية عدلٌ في الرَّعيَّة كما تقول العرب. هٰذا لا يعني أنَّني مع القانون الجائر. ولٰكنَّني أعني أنَّني مع تطبيق القانون بالسَّويَّة علىٰ كلِّ الرَّعيَّة.

إذن الحريَّة في العالم الغربيِّ، ولا يعنيني مدى حدودها، محدودة بقوانين، وسلطة تطبق القوانين بصرامة، هي ليست صرامة مطلقةً ولۤكنَّهَا عامَّة إلىٰ أبعد الحدود.

كثيرون يظنُّون علىٰ سبيل المثال أنَّ الرَّئيس في العالم الغربي لا يترشح لأكثر من دورة أو دورتين عفَّةً وطهارةً ورقيًّا حضاريًّا. هٰذا وهمٌ لا أساس له من الصِّحَّة. لا تظنوا أنَّ الرَّئيس في العالم الغربيِّ لا يتمسَّك بالكرسيِّ... القانون الصَّارم وحده هو الذي يحول بَيْنَه وبَيْنَ التشَّبث بالكرسي بأظافره ولسانه وأسنانه. ولولا سلطة تطبيق القانون قاهرة لوجدنا الرَّئيس يظلُّ يترشَّح حَتَّىٰ (يسقط) في الانتخابات أو التابوت.

لا يوجد رئيسٌ في العالم إلا ويظلُّ يترشَّح للرِّئاسة طالما أنَّ القانون يسمح له بذۤلكَ. توجد استثناءات بالتأكيد، ولٰكنَّ الاستثناء لا يقاس به ولا إليه ولا عليه. بل يقولون الاستثناء يؤكِّد القاعدة.

ترى في عالم الحيوان كيف يكون الأمر؟

في تتبُّع العلماء لعالم الحيوان نجد الأمر ذاته تقريباً، ولٰكن وجدوا أيضاً أنَّ في عالم الحيوان قوانين صارمةً أكثر من صرامة قوانين البشر هي التي تحيل الزَّعيم إلىٰ التَّقاعد أو تقتله لتضع حدًّا لوجوده غير المجدي في قيادة جماعته الحيوانيَّة.

في عالم الحيوان يظلُّ القائد قائداً طالما أنَّهُ لا يوجد من هو أفضل منه لقيادة المجموعة الحيوانيَّة. فإذا ظهر من هو أفضل قرَّرت المجموعة الحيوانيَّة التَّخلُّص من القائد منتهي الصَّلاحيَّة.

في عودٍ إلىٰ عالم البشر، ما لم يكن هناك قوانين مطبَّقة بصرامةٍ، نجد أنَّ القائد الذي تنتهي صلاحيَّته يقوم هو ونظامه بإنهاء صلاحية الشَّعب ليكون من طبيعة قائده، غير غريب عنه مستواه في القدرات والكفاءات المهترئة المتهالكة. وإذا نادى الشَّعب بإسقاط القائد نادى القائد بإسقاط الشَّعب.

فقط الدُّول التي تحكمها قوانين ودساتير صارمةٌ لا تصل إلىٰ هٰذه النُّقطة، وإن كان يمكن أن تستخدم الطَّريقة ذاتها في أشياء أُخْرَىٰ تحت المزاعم ذاتها؛ أمن الوطن، أمن الأمة، المصالح العليا، وبعضها أمورٌ قد تقتضيها الضَّرورة وقد تقتضيها سياسة الدَّولة، وقد تكون غير ذۤلكَ.

إذن ثورتنا من أجل الحرية يجب أن تكون من أجل سيادة القانون. سيادة القانون هي الضامن للحرية والعدالة. 

لا قيمة للحرية من دون عدالة. وحَتَّىٰ لا يتنطع من يحتج علىٰ العكس أقول بثقة مسؤولة: لا يمكن أن توجد عدالة من دون حرية، لأنُّه لا يمكن منطقيًّا أن تكون عدالة ظالمة. تحقق العدالة يعني إحقاق الحقوق وما لم تحق الحقوق فليست عدالة.


رسالة من الدكتور عزت السيد أحمد

عقول رجال الدين سطحية أم مسطحة؟

أول من طرح فكرة “الفاتكيان الإسلامي”!!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق