الجمعة، 12 أكتوبر 2018

مع الأستاذ سيد قطب "محطات تاريخية ووقفات نقدية" (1) تعريف ولقاء

مع الأستاذ سيد قطب "محطات تاريخية ووقفات نقدية" (1) تعريف ولقاء



د. يوسف القرضاوى
2/10/2018
كان سيد قطب من أبناء دار العلوم ومن زملاء حسن البنا ، أو بعده بقليل ، وإن لم يحدث بينهما تعارف في أثناء الدراسة ، ولكنه انتبه إليه حين كان في أمريكا ورأى بعينه احتفال الأمريكيين وفرحتهم بمقتله .

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه " أحداث صنعت التاريخ " أن سيد قطب كتب مقالا في جريدة الأهرام القاهرية اليومية يدعو فيه الناس دعوة صريحة إلى العري التام ، وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم .. وأن الأستاذ محمودا كتب مقالا في الرد عليه ، وعرضه على الأستاذ البنا فأشار عليه ألا ينشره حتى تموت الفكرة في مهدها ، فقد يؤدي الرد عليه إلى إحيائها والأخذ والرد في شأنها وهذا في صالحها .

وهو أمر مستغرب من مثل الأستاذ سيد قطب الذي لم يعرف عنه طوال حياته مثل هذا التوجه إلى الإباحية ، وهو ابن دار العلوم ، وابن الصعيد ، ولكنا لا نملك أن نكذب الأستاذ محمودا ولا سيما أنه أشرك معه الإمام البنا .

كان سيد قطب شاعرا رومانسيا محسوبا على جماعة "أبولو" وكان أديبا مرموقا محسوبا على مدرسة العقاد التي تخاصم مدرسة الرافعي ، وكان ناقدا أديبا يملك حاسة نقدية عميقة ، كما كان له أصوله النظرية في النقد ، ضمنها كتابه المعرف "أصول النقد الأدبي"

وقد تجلت قدرته النقدية الموهوبة والمكتسبة في كتابيه الرائعين ، "التصوير الفني في القرآن" و " مشاهد القيامة في القرآن " اللذين لم ينسج فيهما على منوال أحد قبله ، وأبدع فيهما غاية الإبداع .

ويُعَدُّ بهذا من رواد النقد الأدبي الإسلامي ، ولكن كتابه الجديد "العدالة الاجتماعية في الإسلام" كان نقلة نوعية لسيد قطب من أديب مسلم إلى داعية إسلامي ومفكر إسلامي .

وقد سبقه في جانب العدالة الاجتماعية الإسلامية رجال ، أبرزهم الشيخ محمد الغزالي ، الذي صدر له كتابان في هذا المجال : "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" و "الإسلام والمناهج الاشتراكية" كما نُشر له مجموعة مقالات جُمعت بعد ذلك في كتاب "الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين" .

ولقد قرأ سيد قطب هذا كله وغيره وذكره في مراجع الطبعة الأولى من "العدالة" ولكنه أحسن حين وظفه توظيفا حسنا ، ووضعه بطريقة منهجية تخاطب النخب المثقفة بأسلوب العصر .

ولقد سررنا نحن شباب الدعوة بظهور كتاب سيد قطب وما يحمله من توجه جديد لهذا الأديب الكبير نحو الرسالة الإسلامية والفكرة الإسلامية .

وقد سار سيد قطب في هذا الدرب المضيئ وأصدر أكثر من كتاب في الاتجاه نفسه ، منها كتاب " معركة الإسلام والرأسمالية " و كتاب " السلام العالمي والإسلام" وغدا يكتب في عدد من الصحف التي تعد من صحف المعارضة ، بعضها إسلامي مثل صحيفة "الدعوة" للإخوان ، وبعضها إن لم يكن إسلاميا خالصا فهو يحمل رائحة إسلامية مثل صحيفة "الاشتراكية" لحزب العمل الاشتراكي (مصرالفتاة من قبل) وصحيفة اللواء للحزب الوطني ، ولكنه كان يكتب تحت راية الإسلام وفي سبيل نصرته وبعث أمته ، وقد جمع هذه المقالات التي كتبت في تلك الفترة في كتاب بعنوان "دراسات إسلامية".

كما أنشأ سيد قطب مع مجموعة من المفكرين الثائرين مجلة "الفكر الجديد" كان الإعلان فيها وهو شعارها : ( تحرير أقلام قوية مؤمنة بحق الشعوب في الحياة . يشترك في تحريره : سيد قطب ) .

كما كان يدعى لإلقاء محاضرات في بعض الكليات وغيرها ، ومنها محاضرة ألقاها في كلية الآداب بجامعة عين شمس أوائل قيام ثورة يوليو شهدتها مع عدد من طلاب كلية أصول الدين التي كانت قريبة جدا من كلية الآداب حيث تقع قبالتها في شبرا ، وقد قدمه عميد الكلية الأستاذ الدكتور مهدي علام تقديما أشاد فيه بنبوغ المحاضر منذ كان طالبا وكانت المحاضرة عن "الثورة في الإسلام" وأن الإسلام ثورة في عالم التصور وفي عالم الشعور وفي عالم الواقع .

وكان الأستاذ سيد أول ما قامت الثورة قريبا من رجالها ومن جمال عبد الناصر بخاصة ، حتى إنهم في أول الأمر حينما أرادوا أن ينشئوا "هيئة التحرير" لتكون حزب الجيش أو الثورة كان توجههم أن يُحملوا سيد قطب مسئولية أمانتها العامة ، ولكن يبدو أن فكره لم يتفق مع أفكارهم واتجاهه لم ينسجم مع اتجاههم فكان فراق بينه وبينهم والتفاصيل في ذلك عند شقيقه الأستاذ محمد قطب حفظه الله .

وفي هذه الفترة اقترب الأستاذ سيد قطب من جماعة الإخوان وإن لم ينضم إليهم بصورة رسمية ، وكان يصحب الأستاذ الهضيبي">الهضيبي المرشد العام للإخوان في بعض رحلاته إلى الأقاليم .

وأذكر أنه زارنا في منطقة المحلة الكبرى بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية وتحدث في هذا الحفل الكبير الأستاذ الهضيبي">الهضيبي والأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان ، والفقير إليه تعالى ، وكان الأستاذ سيد قطب مستمعا فقط .

وأذكر أن الأستاذ سيد رحمه الله قال للأستاذ عابدين بعد أن سمع كلمته الضافية في المناسبة : لماذا لا تكتب هذا الكلام يا أستاذ عابدين ؟ إن الكلمة المكتوبة لها أهميتها فهي أخلد وأبقى من الكلمة المسموعة ، وكان كثير من الإخوان يلقون كلمات نيرة وقيِّمة في هذه المناسبات ولكنها لا تكتب .

وبعد ذلك اندمج سيد قطب في الإخوان وأصبح رئيسا لقسم نشر الدعوة ورئيسا لتحرير مجلتهم الأسبوعية وسيأتي الحديث عن هذا الطور في حينه ثم الطور الذي يليه : طور "معالم في الطريق" وما تلاه وما صاحبه من كتب عبرت عن "فكر المحنة" التي ابتلي بها الإخوان ودعوة الإسلام بصفة عامة ، وما كان لها من أثر على تفكير الشهيد رحمه الله وسيأتي الحديث عن ذلك في حينه ] [1]


  لقاء مع "سيد قطب :

تحدثت عن الأستاذ سيد قطب في المرحلة السابقة باعتباره الكاتب الإسلامي المرموق، صاحب القلم السيال، والأسلوب الرفيع، والذي دخل الساحة الإسلامية بقوة، بكتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وما بعده، واقترب من الإخوان، وإن لم يصبح واحدا منهم.

واليوم أتحدث عن سيد قطب بعد أن اندمج في الإخوان، وأصبح واحدا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة (قسم نشر الدعوة) في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان.

وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصا شباب الدعاة المرجوين أمثالك.
قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوة في نشر الدعوة بطريقة علمية.

قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يقدَّم أحد الإخوان الدعاة ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة مثل الإخوان.

لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرا، يلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يتفق معه عليه، ويحضر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علما وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نعم الرأي هذا.

قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟

قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله.

قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله.

قلت: وهو موعد مناسب لي، وأسأل الله التوفيق.

ولكن الأمور تغيرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون.

وكانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردا به. أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنت مشغولا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأن بإضاعة الأزهر يضيع خير كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديما قالوا:

يا أيها العلماء يا ملح البلد * ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟

ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطولة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجعني تشجيعا سرني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة، وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها.

إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبين مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حرفت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية.

ولم يقدر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أسلم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراة في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخالشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان، ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال..
] [2]

----------
هوامش :
[1] : ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، للإمام يوسف القرضاوي ، (1/ 428 – 431) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2006م
[2] ابن القرية والكتاب ، (2/ 57 -60) ط 1 ، دار الشروق ، القاهرة / 2004م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق