الاثنين، 29 أكتوبر 2018

شنجول وسقوط الدولة العامرية



شنجول وسقوط الدولة العامرية

تولية عبد الرحمن المنصور المعروف بشنجول وانقلاب أهل الأندلس عليه وسقوط حكم بني عامر
د. راغب السرجاني 
من خَلْف ستار الخلافة الأموية ظلَّ الحاجب المنصور بن أبي عامر يحكم الأندلس ابتداءً من سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- سنة (392هـ= 1002م)، وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولَّى الحجابة منذ قُتل والده وحتى وفاته سنة (399هـ= 1009م) أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولِّي حُكم البلاد، فكان يُجاهد في بلاد النصارى كل عام مرَّة أو مرَّتين، كل هذا وهو -أيضًا- تحت غطاء الخلافة الأموية.

في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم (هشام المؤيد) قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، ومع ذلك فلم يطلب الحُكم، ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان قد تعوَّد على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.

عبد الرحمن شنجول

في سنة (399هـ= 1009م) توفي الحاجب المظفر، فتولَّى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور المشهور بعبد الرحمن شنجول[1]؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملَّكُون زمام الأمور في البلاد، وأخذ -أيضًا- يُدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فإضافة إلى أن أُمَّه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًّا ماجنًا فاسقًا، شَرَّابًا للخمر، فعَّالاً للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس في الأندلس [2].

وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قَبْلُ عند العامريين، وهو أنه أجبر الخليفة هشام المؤيد في أن يجعله وليًّا للعهد من بعده، وبذلك لن يُصبح الأمر من خَلْفِ ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولِّي والده محمد بن أبي عامر، أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجَّ بنو أمية لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي ردِّ فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر، الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور[3].

سقوط الدولة العامرية

ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلاَّ أن الشعب كان قد تعوَّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فلمَّا خرج شنجول على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، انتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يُغَيِّرُوا من الأمر، فذهبوا إلى هشام المؤيد في قصره وخلعوه بالقوَّة، وعَيَّنُوا مكانه رجلاً من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر (من أحفاد عبد الرحمن الناصر)، وما أن طار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول حتى بدأت الجموع التي معه تنفضُّ من حوله شيئًا فشيئًا، فلمَّا دخل إلى قُرْطُبَة كان الناس قد انفضوا عنه وانحازوا إلى محمد بن هشام الذي تلقَّب بـ«المهدي»، ثم ما لبث أن أرسل إليه المهدي جماعة قبضوا عليه وقتلوه وأرسلوا إليه برأسه[4].

وتقول بعض الروايات أنه التجأ إلى دَيْر فأعطاه أحد رهبانه طعامًا وشرابًا، ثم عثر عليه رجال بني أمية سكران، فأظهر الخوف والجزع، وادعى دخوله في طاعة المهدي، فلم يشفع له ذلك فقتلوه[5].

واشتعلت الثورات في الأندلس، فكأنَّ مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قُتِلَ عبد الرحمن بن المنصور انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقَسَّم.

[1] شنجول: هو لقب كانت أمه تدعوه به منذ صغره، باسم سنجول Sanchuelo، تذكراً منها لأبيها سانشو غرسيه ملك نافار الذي أهدى ابنته للمنصور بن أبي عامر فتزوجها واعتنقت الإسلام وحسن إسلامها.

[2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/38، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص66.

[3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص94، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.

[4] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص96، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.


[5] ابن عذاري: البيان 
 المغرب، 3/72.



   فتنة شنجول".. كيف بدت 
  الأندلس آخر أيام الخلافة ؟ 
كان الخليفة الحكَم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366هـ/961- 977م) آخر عظيم أموي في الأندلس على الحقيقة، وإن جاء بعده أمويون ضعفاء. لقد أنجب الحكمُ ولدين، هما عبد الرحمن الذي مات طفلاً، وهشام الذي اضطر الحكَم إلى إعلانه وليا للعرش قُبيل وفاته سنة 365هـ، حين نزل به مرض الموت منذ عام 364هـ، وما لبث المستنصر أن وفاته المنية سنة (366هـ/976هـ) عن عُمر ناهز الرابعة والستين عامًا.


الحاجب المنصور بن أبي عامر

كان هشام المؤيد بن المستنصر في الثانية عشرة من عمره حين ارتقى إلى سدة العرش، وكانت بجواره أمه صبح البشكنجية وصية على ولدها الخليفة القاصر، على أن القوة الحقيقية كانت بيد رجلين، الأول جعفر بن عثمان المصحفي الحاجب، وقائد الشرطة محمد بن أبي عامر الذي كان على صلة وثيقة بصبح حين كان وكيلا لأعمال وأملاك ولدها هشام الثاني المؤيّد. وإثر تنافس محموم بين الرجلين، تمكن محمد بن أبي عامر من استصدار مرسوم من الخليفة القاصر بمساعدة من أمه، يأمر فيه بعزل المصحفي وسجنه سنة 371هـ، وهو ما تم له، ثم أمر ابن أبي عامر بعدما استتب له الأمر، بإقصاء صبح حليفته السابقة، والحجر على ولدها هشام المؤيّد، ولُقب بالمنصور، ودُعي له على المنابر[1]، وبهذا أطلت الدولة العامرية برأسها في الأندلس، منذ تلك اللحظة ولمدة ربع قرن قادم بوصاية على الأمويين تشبه ما قام به البويهيون والسلاجقة في المشرق على بني العباس.
تمثال للحاجب المنصور بن أبي عامر الذي لم يهزم قط (327هـ/938م - 392هـ/1002) 


تمكّن المنصور من قيادة الأندلس ببراعة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، واتسعت غزواته وفتوحاته في الشمال، حتى إنه حين وفاته قد جمع غبار تلك المعارك التي بلغت أكثر من خمسين غزوة وأوصى أن تنثر على كفنه.

خلف المظفّرُ عبدُ الملك بن محمد بن أبي عامر أباه في الحجابة في رمضان سنة 392هـ، وهي بمثابة رئاسة الحكومة والدولة على الحقيقة مع وجود الخليفة الضعيف المحجور عليه هشام المؤيّد بن الحكم، الذي أقرّه على ما كان عليه والده المنصور، ولقد شابه المظفر عبد الملك أباه في اليقظة والذكاء والحنكة والمهارات السياسية والعسكرية، غير أنه كان أقل منه في المعرفة والعلم، وسار على درب والده في جهاد الإفرنج النصارى في شمال الأندلس، فغزاهم ست غزوات في عصره القصير كُتب له فيها الظفر والنصر، لكن باغته الموت وهو ما يزال شابًا في الرابعة والثلاثين من عمره في 16 صفر سنة (399هـ/ أكتوبر (تشرين الأول) 1008م)، وقد قيل إن أخاه عبد الرحمن هو الذي دسّ له السم حسدًا وغيرة[2].

شنجول يُوقد الفتنة!
كان عبد الرحمن الذي لقّب نفسه الناصرَ قد أطلق عليه أهل قُرطبة "شنجول"؛ ذلك أنه لم يكن أخا شقيقا للمظفر عبد الملك الذي كانت أمهم سلمة حرة، لكن عبد الرحمن كان حفيداً لسانشوغرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية حينما تزوجت المنصور قد اعتنقت الإسلام، وتسمّت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن "أشبه الناس بجده" النافاري الإسباني. وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، انحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجرًا كثير الاستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو[3].

"قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه"

لم يكن عبد الرحمن يجاهر بالعصيان، ويستهزئ بالشعارات المتبعة، ويحقر من أصحاب المكانة من الأشراف والأكابر، ويجاهر بالطغيان فقط، بل فوق ذلك أرهب الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- واضطره إلى إعلانه وليا للعهد في سابقة لم تحدث، يريد بذلك نزع الخلافة وانتقالها من بني أمية إلى بني عامر، وقد كان أبوه المنصور أشد منه قوة، وأكثر حنكة وذكاء، قد استمر في حكم الأندلس مع وجود هشام أكثر من ثلاثين عاما، ولم يجرؤ على هذه الخطوة لعواقبها الوخيمة في نفوس الشعب الأندلسي، لكن عبد الرحمن شنجول استصدر الأمر، وأعلنه على عامة الناس بقرطبة في (15 ربيع الأول 399هـ/نوفمبر 1008م)، بُعيد أيام قليلة على ارتقائه للحجابة ووفاة أخيه المظفر[4]!


رأت الأسرة الأموية في قرطبة أن عبد الرحمن بن المنصور العامري قد بلغ من الطيش مداه، فسعت سرًا إلى تأليب الناس، وصنع التحالفات ضده، وانتهزت فرصة خروجه لغزو الممالك المسيحية في الشمال، وكانت غزوة فاشلة بكل المقاييس لخروجها في الشتاء، وعدم الإعداد الجيد لها، وكونها مجرد دعاية لشنجول، حتى أعلن أحدهم وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر تزعّمه لحركة العصيان والانقلاب على الحاجب عبد الرحمن "شنجول"، وبالفعل نجح الأمير الأموي بمساعدة عامة الناس في حركته، فاحتل قصر الإمارة في قرطبة، وأذعن الحرس له، وتمكن من خلع قريبه الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- في (17 جمادى الآخرة سنة 399هـ/ 16 فبراير 1009م)، ولُقّب بالمهدي بالله، وعين ابن عم له وليا لعهده هو سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وقد عاث الناس في مدينة الزاهرة التي بناها المنصور العامري حتى استحالت خرابًا[5].


وصل الخبر إلى الحاجب عبد الرحمن العامري، فبادر إلى خلع نفسه من ولاية العهد والاكتفاء بالحجابة، وأرسل إلى أهل قرطبة بذلك بُغية التعاطف معه، لكن أحدًا لم يأبه له، وحاول أن يأخذ العهد على كبار رجال جيشه بنُصرته في المواجهة المرتقبة أمام الأمويين، لكنهم لم يفعلوا، وتخلوا عنه، حتى إن والي طُليطلة أحد أشد الموالين لأبيه المنصور لم يقف بجوار شنجول في هذه المحنة، وبدلاً من الفرار والتخفي، قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه، فما كاد يقترب من قرطبة حتى تمكن الجند الموالي للمهدي بالله الخليفة الجديد من القبض عليه وقتله[6].

خلافة المهدي الطائش
أحسّ المهدي بالقوة المفرطة بعد القضاء على خصومه، وكان كما يقول أديب الأندلس ومؤرخها، لسان الدين بن الخطيب "جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لا يدري في أي واد يهلك"[7]، لم يكن المهدي الأموي مثل سابقيه من الأمويين، مثل المستنصر وجده الأكبر الناصر، هؤلاء العظماء الذين حكموا الأندلس بالسياسة الثاقبة، وبالقوة واللين والذكاء، والنظر إلى تقديرات المواقف والعواقب.

حرّض المهدي على قتل البربر، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم (مواقع التواصل)

في تلك الأثناء، استغل المهدي وجود شبه بين موتى أحد النصارى في قرطبة وبين الخليفة المخلوع هشام المؤيّد بن المستنصر، فأعلن عن وفاته ليأمن عدم الانقلاب عليه، وبالفعل أقنع كبار القوم وعامة قرطبة بهذا الخبر.



حين رأى المهدي أن الأمور قد استقرت له، أطلق العنان لشهواته ومجونه، بصورة أفقدته تأييد أقرب المُقرَّبين له وهو ولي العهد سليمان بن هشام الأموي، الأمر الذي أخذ معه قرارًا بسجن ولي العهد وعددا من كبار الأسرة الأموية، وقرر تسريح سبعة آلاف جندي من الجيش، ثم إنه لم يكتف بهذه العداوات، فجرّ على نفسه عداوة أخرى أطم وأعظم حين أعلن عداوة البربر، وكان المهدي بالله يمقتهم أشد المقت لأنهم كانوا عضد المنصور ابن أبي عامر على الأمويين[8].



رأى بعض كبار الأسرة الأموية أن ما يفعله المهدي يضعهم جميعًا على المحك، ويُدخلهم في عداوة مباشرة مع طوائف وقبائل قرطبة وبقية الناس في الأندلس كافة، فقرر هشام بن سليمان والد ولي العهد أن يتحالف مع بقايا القادة العسكريين العامريين الصقالبة والبربر، فأرسلوا إلى المهدي بالله طالبين منه خلع نفسه عن العرش، والإفراج عن ولي العهد سليمان بن هشام، لكن محمد المهدي بالله لم يلتفت لهم، وحين وصل الطرفان إلى لحظة الصدام، كانت المواجهة التي لابد منها.

خرج محمد المهدي بالله في جموعه لمواجهة خصومه، ودار القتال بينهم على مدار يومين متواليين في قرطبة، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، فأُسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء الآخرين، فأصدر المهدي قراره بقتلهم جميعاً. وانهالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر (شوال 399هـ/يونيو 1009م). ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (Guadimellato) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرّض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أمانًا، ونادى بالكف عنهم[9].

المصادر
1محمد عبده حتاملة: مدخل لدراسة تاريخ الأندلس ص89
2ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 3/37
3محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/623.
4تاريخ ابن خلدون 6/148.
5المقّري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/426.
6ابن عذارى: البيان المُغرب 3/70.
7ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص109.
8محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/643.
9محمد عبد الله عنان: السابق 1/645.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق