لماذا يسبب جمال خاشقجي الرعب لنظام بن سلمان؟
لم يكن استهداف خاشقجي -والذي ترجح أغلب المصادر مقتله- حدثا عابرا في سجل الحرب السعودية على أي صوت معارض بالداخل والخارج، فالداخل أحكم بن سلمان عليه قبضته الحديدية سائرا على نهج أسلافه، وأما من لاذ بمأمنه في الخارج فخيار التصفية والاغتيال والاختطاف كان ولازال منهجا أمنيا سعوديا، يعالج التقرير تاريخ من الاغتيالات والتصفيات التي قامت بها السلطة السعودية بحق معارضيها في الخارج، والتي كانت قصصهم لا تقل بشاعة عن قصة خاشقجي
نص التقرير
لا أحد يعرف كيف مات "محمد المفرح" إلى اليوم، فقبل أربعة أعوام من وفاته الغامضة أواخر عام 2014، برز اسم رجل الأعمال السعودي لأول مرة، في 11 (فبراير/شباط) عام 2011، ضمن قائمة قصيرة مكونة من عشرة من الأكاديميين والناشطين الذين تقدموا(1) بطلب لتأسيس أول حزب سياسي رسمي في دولة لم تعرف السياسة الحزبية على مدار تاريخها، مستلهمين في طلبهم روح الثورات العربية التي اجتاحت الجوار السعودي للتو، ومعلنين في بيانهم التأسيسي للحزب الذي سموه "حزب الأمة" جملة مطالب جريئة، شملت المصالحة بين الحكومة والتيارات السياسية في الداخل والخارج، وإعلان العفو العام وإطلاق سراح كافة سجناء الرأي ودعاة الإصلاح والمعارضين السياسيين، وفي نهاية المطاف إلغاء نظام الملكية المطلقة وتأسيس نظام شعبي دستوري، فيما جاء الرد السعودي على هذه التحركات والمطالب على المستوى النمطي والمتوقع وبما يليق تماما بما يعرفه الجميع عن النظام الحاكم في المملكة.
فبعد أسبوع واحد فقط من طلبهم الرسمي المقدم لدى الديوان الملكي، وتحديدا في السابع عشر من فبراير/شباط، تم اعتقال(2) 6 من الأعضاء العشرة المؤسسين لـ "حزب الأمة" واحتجازهم، ولم يتم الإفراج عنهم بشكل مشروط إلا بعد أن وقعوا على عريضة تتضمن التعهد بعدم المشاركة في أي نشاط معاد للحكومة. أما "المفرح"، فقد غادر لتركيا في وقت مبكر فرارا من الملاحقة الأمنية الملكية، وأقام هناك لعدة سنوات اتهم خلالها الحكومة السعودية في أكثر من مناسبة بمحاولة اختطافه أو اغتياله، قبل أن يَصدر عفو عام بحقه، وفي الوقت الذي أشيع فيه أنه كان يرتب عودته إلى السعودية، أصيب المفرح بمرض غامض ولقي حتفه على إثره بعد شهر واحد قضاه في مشفى بإسطنبول، حيث تم نقل جثته بطائرة خاصة تابعة لوزارة الداخلية السعودية إلى جدة، في أجواء من الشبهات خالطتها اتهامات صريحة من أحزاب الأمة الخليجية للاستخبارات السعودية باغتيال المفرح عن طريق السم.
على مدار السنوات التالية خفت الجدل عن قضية "المفرح" تماما وانزوت عن دائرة الضوء، غير أن تغريدة(3) للصحفي السعودي المقرب من الديوان الملكي، ومدير مكتب قناة العربية السعودية السابق "خالد المفرحي" قد أعادت ذلك الجدل إلى الواجهة من جديد، بعدما ربط "المفرحي" بين الوفاة الغامضة للمفرح، وبين الاختفاء الغامض للصحافي السعودي المرموق "جمال خاشقجي" أعقاب توجهه للقنصلية السعودية في إسطنبول لإنجاز معاملات أوراق زواجه الرسمية، جدل احتدم بشكل أكبر بعد الأنباء التي سربتها مصادر أمنية تركية حول احتمال أن يكون "خاشقجي"، الصحفي الذي تبني مواقف معارضة للنظام السعودي في الفترة الأخيرة، قد قُتل داخل قنصلية بلاده.
كانت تغريدة "المفرحي" تحمل فيما يبدو اتهاما مبطنا لتركيا، أو لخصوم السعودية بشكل عام، باستهداف المعارضين السعوديين لمحاولة تشويه صورة المملكة، مستغلا حقيقة أن كلا من "المفرح" و"خاشقجي" قد لقيا مصيرهما الغامض داخل الأراضي التركية، لكن "المفرحي" غفل فيما يبدو عن العديد من أوجه التشابه الأخرى التي تدين بلاط بلاده الملكي بشكل صريح، فكلا الرجلين -المفرح وخاشقجي- كان معارضا صريحا للنظام السعودي، كما أن كلا الرجلين كانا يجولان في أيامهما الأخيرة حاملين مخاوف من أن يتم استهدافهما من قبل العائلة المالكة، مخاوف لم يجد "خاشقجي" غضاضة في أن يبوح بها لزملائه الصحفيين الأجانب، كـ "روبن رايت" في نيويوركر، لتسارع الأخيرة بالتصريح بها(4) عنه أعقاب اختفائه الغامض.
لكن المفارقة الكبرى التي تغافل عنها "المفرحي"، وغيره من جوقة الصحافيين المسبحين بحمد النظام السعودي والتابعين له، أن تركيا لم تكن البقعة الوحيدة على الأرض التي شهدت حوادث اختفاء واعتداءات غامضة على المعارضين السعوديين، وبخاصة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فمن كندا إلى سويسرا وألمانيا وفرنسا مرورا بتركيا ووصولا إلى المغرب، حولت الأجهزة الأمنية السعودية أجواء وأراضي الدول إلى ساحات قمع كبرى لمطاردة معارضيها وتهديدهم بكافة السبل الممكنة، بدءا من التهديدات اللفظية، ومرورا بالاعتداءات البدنية، وانتهاء بالاختطافات الممنهجة، وربما القتل، وهي سياسة لا يستطيع ولي العهد "محمد بن سلمان" أن يزعم أنه صاحب الفضل فيها، فهي سياسة تعود جذورها لعقود سالفة من السياسات السعودية التي نادرا ما أظهرت أي قدر من التسامح مع المعارضة السياسية سواء في داخل حدودها أو في خارجها.
أرامكو.. حيث بدأ كل شيء
تاريخيا، ظل الاستياء من السلطة السعودية مكتوما تحت السطح في المملكة، ونادرا ما تمت ترجمته لممارسات ظاهرة، وكانت احتجاجات العمال السعوديين في "أرامكو"، والتي بدأت في الأربعينيات واستمرت خلال الخمسينيات، أولى إرهاصات التمرد على تحالف المال والسلطة بين الملوك السعوديين وبين الوافدين الأميركيين الذين قدموا للتنقيب عن النفط في مملكة الصحراء.
ففي الأعوام الأولى لتأسيسها، وضعت أرامكو أسس نظام فصل عنصري فريد(5) ميز بين الموظفين الأميركيين الذين أقاموا في حي سكني فاخر تم تأسيسه خصيصا لهم في الظهران، وبين الآلاف من السعوديين، ولاحقا من العرب، الذين أقاموا في تجمعات سكنية رديئة، مع نظام عبودية مُقنَّع حرمهم من حقوقهم في رواتب كافية وسكن ملائم وحتى في الطعام الكافي، ما أدى إلى نشوب موجات متتالية من الاضطرابات كانت الحكومة السعودية تتدخل لقمعها مرة تلو الأخرى بطلب من "أرامكو" الأميركية.
في تلك الظروف ظهر الشاب "ناصر السعيد الشمري"(6)، ابن إمارة حائل الشمالية، ساعيا لأول مرة لتنظيم عمال "أرامكو" ضمن اتحاد عمالي يطالب بحقوقهم، ما أثمر في نهاية المطاف عن احتجاجات عام 1953 الضخمة، التي اشترك فيها أكثر من 20 ألفا من عمال الشركة، وتدخلت الحكومة السعودية لقمعها معتقلة أكثر من ألف من المحتجين بمن فيهم "ناصر" نفسه، من تم فصله من أرامكو وإعادته لمنطقة حائل، ولكن ناصر عاد إلى دائرة الضوء مجددا بعد أن طلب منه أمير حائل "عبد العزيز بن مساعد الجلوي" أن يلقي خطابا في حفل لاستقبال الملك "سعود" في المدرسة الابتدائية في المحافظة، على أن يكون الخطاب ممجدا للملك، ولكن ناصر استغل الخطاب ليوجه انتقادات حادة لـ "سعود" حول حقوق العمال السعوديين في "أرامكو"، وللمطالبة بالإفراج عن العمال المعتقلين، بل إنه رفع سقف مطالبه إلى ذروته بالدعوة لإجراء انتخابات ووضع دستور للبلاد.
استشعر "سعود بن عبد العزيز" حجم الخطر الذي يمثله "الشمري" في مسقط رأسه، فقرر على الفور إعادته من جديد لأرامكو، حيث انضم لطلائع العمال الذين نظموا موجة احتجاجية جديدة عام 1956، منددين بما وصفوه بأنه "احتلال أميركي" لبلادهم، ومنادين بسقوط اتفاقية قاعدة الظهران الجوية الأميركية، وعلى الفور استشعر النظام الملكي الخطر مجددا، وأصدر أمرا باعتقال قيادات العمال ما دفع "الشمري" للهرب إلى دمشق.
في تلك الفترة، كانت سوريا على وشك اللحاق بقاطرة القومية الناصرية في القاهرة، توجه تكلل بوحدة رسمية بين سوريا ومصر عام 1958، فانتقل بعدها "الشمري" للقاهرة حيث تعرف على الرئيس المصري "جمال عبد الناصر"، وقرر تأسيس تنظيم علماني قومي معارض باسم "اتحاد شعب الجزيرة العربية"، وأعلن عن رغبته في الإطاحة بالنظام السعودي باستخدام "العمل المسلح"، ومع منتصف الستينيات بدأ التنظيم في شن هجماته داخل السعودية، وأبرزها تفجير خط أنابيب "التابلاين"، ومقر إقامة القوات الأميركية في فندق زهرة الشرق في العاصمة، ومحاولة تفجير وزارة الدفاع في قلب الرياض أيضا، تحركات رد عليها النظام السعودي بالقبض على 17 شخصا من أعضاء التنظيم من السعوديين واليمنيين وإعدامهم بشكل علني عام 1979.
وقبل نهاية العام نفسه، وتحديدا في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، وقعت الحادثة الأبرز في التاريخ السعودي الحديث، حين اقتحم "جهيمان العتيبي" وأتباعه الحرم المكي داعين لمبايعة المهدي المنتظر، وهو ما أدى إلى تفاقم ذعر النظام السعودي تجاه جميع أشكال المعارضة، وفي تلك الأجواء تم استدعاء "الشمري" بشكل غامض لإجراء مقابلة مع صحافي فرنسي في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تم اختطافه واصطحابه ونقله إلى المطار ليستقل طائرة سعودية، ولتنقطع أخباره تماما منذ السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول لعام 1979 وحتى لحظتنا هذه، مع شائعات أنه قد تم إلقاؤه من فوق متن الطائرة إلى قاع البحر أو فوق صحراء الربع الخالي السعودية.
لم يكن اختطاف "الشمري" الغامض المثبت، وقتله إن صح، إشارة بالغة الوضوح على أن الحكومة السعودية قررت وضع ثقلها في حرب مقدسة عابرة للحدود ضد كافة أشكال المعارضة السياسية لآل سعود، فرغم انزواء التهديد القادم من التيارات القومية مع رحيل نظام ناصر الناصري والتقارب بين القاهرة والرياض مطلع الثمانينيات، فإن الحقبة ذاتها شهدت ظهور شكل جديد من أشكال المعارضة السياسية السعودية في صورة الشيوخ والأساتذة والطلاب المستقلين عن المؤسسة الدينية التقليدية، إضافة إلى المجاهدين من الأفغان العرب، الذين عادوا للتو من أفغانستان، مشكلين تيارا دينيا جديدا عبر عن نفسه فجأة مع حرب الخليج عامي 1990 و1991، حين وطأت القوات الأميركية أرض بلاد الحرمين لأول مرة.
كانت استعانة العائلة المالكة بالأميركيين لحماية المملكة ضربة قاصمة لشرعية آل سعود الدينية، تفجر(7) على إثرها النقد السياسي بشكل علني داخل السعودية، ولم يكن هذه المرة داخل تجمعات "أرامكو" المنعزلة فقط، وإنما في جميع مراكز البلاد، نقد تبلور في صورة عرائض موثقة مثل العريضة المدنية ومذكرة النصيحة التي شملت مطالبات ببرلمان وقضاء مستقلين وتقاسم عادل للثروة النفطية، ورغم أن "الإسلاميين" هم من قادوا موجة المعارضة هذه المرة، فإن نطاقها شمل جميع أطياف المجتمع السعودي، وقد طالت تلك الموجة من المعارضة حملة قمع أمنية أصابت أغلب الشيوخ المؤثرين وقتها مثل "سلمان العودة" و"سفر الحوالي"، ما أدى إلى اندلاع التظاهرات في "بريدة"، معقل دعم العائلة الحاكمة، مظاهرات قمعها النظام كالعادة، بلا هوادة.
المملكة المتعصبة
بخلاف التصور الشعبي السائد، لا تعد المملكة العربية السعودية دولة متجانسة طائفيا أو حتى أيديولوجيا، ويشمل(8) التدين الإسلامي في السعودية وحده مجموعة متنوعة من الممارسات والمدارس المختلفة، بين "الوهابية" المحافظة المتحالفة مع السلطة، والدعوة السنية الداعية إلى الإصلاح، والأقلية الشيعية في الشرق، والتجمعات الصوفية في جميع أنحاء المملكة، وحتى الحركات السلفية الثورية الداعية للإطاحة بـ "النظام الاستبدادي السعودي" كما تسميه، وتنويعاتها الأكثر تشددا التي شنت حربا مسلحة داخلية ضد المملكة في أكثر من مناسبة، أبرزها الحرب التي شنها "تنظيم القاعدة" في المملكة خلال النصف الأول من العقد الماضي.
كانت إستراتيجية النظام السعودي طويلة الأمد من أجل البقاء تتمثل في استخدام التنويعات المختلفة داخل المجتمع السعودي وتوظيفها في مواجهة بعضها البعض، مثل استخدام رجال الدين الرسميين في مواجهة رجال الدين الشعبيين، وتوظيف التدين السني لتحجيم طموحات الشيعة، وحتى في الشق الاجتماعي تم تحجيم تحركات النساء من خلال الولاية غير المقيدة للرجال، وفي قطاع الاقتصاد تم تصعيد نخبة من رجال الأعمال والبيروقراطيين، واستخدمت الثروة النفطية في وأد الحركة العمالية السعودية في مهدها، وكان الهاجس الأكبر لدى النظام السعودي هو إمكانية حدوث تقارب عابر للتنويعات المناطقية والطائفية والأيديولوجية، وحتى الجنسية والاقتصادية، على قاعدة مطالبات عامة ومظالم أساسية قد تخلخل الحكم تماما.
حدث ذلك لوهلة إبان حرب الخليج الثانية، حيث فشلت الإصلاحات الشكلية للملك "فهد"، بما في ذلك تعيين مجلس استشاري غير تشريعي ومنح صلاحيات أكبر لحكام المحافظات، في تهدئة السخط الشعبي، ونجحت طبقة رجال الدين البديلة في توحيد المجتمع على قاعدة أيديولوجية مختلفة عن تلك القاعدة الموالية للسلطة، لذا قمع النظام الملكي رجال الدين الجدد، الذين تجمعوا ضمن ما صار يُعرف بـ "تيار الصحوة"، بشكل وحشي.
لاحقا، ومع اندلاع الربيع العربي وتزايد حالة انعدام الأمان السياسي لدى الملكيات الخليجية، دفع ذلك الرياض إلى إقرار العديد من القوانين والإجراءات التقييدية، حيث وسّعت من ولايات قوانين "مكافحة الإرهاب" عام 2014، وأنشأت محكمة جزائية مختصة تابعة لوزارة الداخلية، وقد استخدمت المملكة هذه القوانين في استهداف النشطاء والمعارضين، وكان الناشط والمحامي "وليد أبو خير" هو أول ناشط تمت إدانته بموجب هذه القوانين الموسعة في نفس عام إقرارها، حيث أُدين بالسجن لمدة 15 عاما وحُظر بعدها من السفر لمدة 15 عاما في 2014 بعد أن تحدث عن حقوق الإنسان ووقّع عريضة تنتقد الحكومة السعودية.
خلق(9) الربيع العربي مناخا أقل تسامحا مع المعارضة في بلد لم يكن يتسامح مع أي قدر منها على أي حال، مناخ يبدو أنه تعزز سريعا مع صعود طبقة جديدة إلى الحكم في المملكة، مع تولي الملك "سلمان" للعرش والصعود السريع لنجله "محمد بن سلمان" مطلع عام 2015، حيث شرع الأمير الشاب في بناء شبكات جديدة من السلطة والمحسوبية مستغلا سيطرته المطلقة على الأجنحة الخمسة الرئيسة في النظام الملكي، وهي وزارات الدفاع والداخلية والحرس الوطني، إضافة إلى الديوان الملكي والهيئات الاقتصادية، وفي طريقه لتثبيت حكمه القوي، شن ابن سلمان سلسلة غير مسبوقة من التوقيفات السياسية تحت ذرائع متنوعة.
كان صعود ابن سلمان إلى خط وراثة العرش، على خلاف التوازنات التقليدية في العائلة المالكة، مؤذنا بظهور نوع جديد من المعارضة السياسية هذه المرة داخل العائلة الحاكمة نفسها، ورغم أن الانشقاقات داخل العائلة كانت أمرا معهودا منذ نهاية الخمسينيات، حين تمرد الأمراء الأحرار بقيادة الأمير "طلال بن عبد العزيز" على السلطة في المملكة مطالبين بإنشاء حكم دستوري وخرجوا من المملكة إلى لبنان ثم مصر، رغم ذلك فإن العائلة المالكة نجحت في احتواء الخلافات اللاحقة بين أعضائها داخليا، وهي خلافات بدا أنها ستخرج عن السيطرة مع تصعيد "ابن سلمان" وظهور عدد من الأمراء الشباب الذين تمردوا على السلطة الجديدة، بما في ذلك عريضة أصدرها أميران مجهولان عام 2015 طالبت "عقلاء الأسرة الحاكمة" -حد تعبيرهما- بالتدخل لعزل الملك "سلمان" ونجله.
ومع تزايد هواجس النظام الجديد من صدع محتمل داخل الأسرة الحاكمة يمكن أن تستغله الفئات المعارضة في تجميع نفسها على قاعدة واحدة، قرر النظام الجديد في السعودية شن الحرب ضد الجميع في وقت واحد منقلبا على سياسته التقليدية في موازنة الفئات ضد بعضها البعض، ففي الوقت الذي تم فيه تقليص سلطة رجال الدين الحكوميين من خلال التلاعب بتشكيل مجلس كبار العلماء وتقليص سلطات المطاوعة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تم قمع رجال الدين المستقلين والأكاديميين عبر حملة توقيفات موسعة في سبتمبر/أيلول للعام الماضي، وهي توقيفات شملت 70 مثقفا وأكاديميا وشخصية إسلامية مثل الداعية "سلمان العودة" والاقتصادي "عصام الزامل" وغيرهما، حيث وجهت لهم تهم "العمل ضد الدولة والإخلال بأمنها واستقرارها".
ومع تطبيق المملكة لخطة تقشف أثّرت على معيشة الطبقات المتوسطة وهزّت أنشطة رجال الأعمال والتجار المتوسطين، امتدت يد "ابن سلمان" الباطشة في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي أيضا لتصل إلى نخبة أمراء العائلة الحاكمة ورجال الأعمال الرئيسين في البلاد، والذين تم احتجاز العشرات منهم بشكل مفاجئ في فندق "ريتز كارلتون" في قلب العاصمة السعودية، حيث أُجبروا على التنازل عن قدر كبير من أموالهم مقابل حرياتهم في حملة مزعومة لمكافحة الفساد.
وفي الوقت الذي أغضب فيه "ابن سلمان" رجال المملكة المحافظين بمنح المرأة حق قيادة السيارة والتوسع في أنشطة الترفيه، فإن شن حملة اعتقالات في صفوف الناشطات من النساء شملت "لجين الهذلول" و"عزيزة اليوسف" و"إيمان النجفان" ولاحقا "سمر بدوي"، ورغم أن بعضهن أُفرج عنه لاحقا، فقد دفعهن(10) القمع إلى الفرار نحو الخارج. وأخيرا ورغم أن النظام يروج لنفسه كصديق للشباب عبر تعميم سرديات الانفتاح والترفيه والاهتمام بالتكنولوجيا، فإنه على الجانب الآخر يواصل التضييق عليهم واستفزازهم من خلال أجهزة الرقابة على الإنترنت، مثل الهيئة الوطنية للأمن السيبراني التابعة لجهاز أمن الدولة، واتحاد الأمن الإلكتروني والبرمجيات الذي يترأسه مستشار الديوان الملكي سيئ السمعة سعود القحطاني.
إذن، كان صعود ابن سلمان إلى العرش إيذانا بامتداد اليد الباطشة للدولة السعودية لشرائح ظنت أنها بأمن من البطش على مدار عقود طويلة، وعلى رأسهم أمراء العائلة المالكة الذين تم التنكيل بهم ليس فقط في الداخل ولكن في الخارج أيضا، وقد رصدت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ثلاث حوادث على الأقل لاختطاف أمراء منشقين(11) أو معارضين خارج الحدود السعودية منذ صعود الملك سلمان ونجله إلى السلطة، أولهم هو "سلطان بن تركي" الذي تم استدراجه مطلع عام 2016، من مقر إقامته في فندق الجزيرة الفخم في باريس، تحت ذريعة زيارة والده في القاهرة على متن طائرة سعودية خاصة، ولكن "سلطان" اكتشف لاحقا أن طائرته كانت متجهة إلى الرياض بدلا من القاهرة، حيث اختفى ولم تُسمع أخباره إلى اليوم.
أما الأمير الثاني فهو "تركي بن بندر"، وهو أمير "منخفض الرتبة" عمل سابقا كرائد في الشرطة السعودية قبل أن يختلف مع العائلة ويغادر إلى باريس ويبدأ في بث مقاطع فيديو معارضة للعائلة المالكة منذ عام 2012 وحتى يوليو/تموز من عام 2015، حيث تم استدراجه إلى المغرب وهناك تم اختطافه وتسليمه للسلطات السعودية، وكان الوجه الثالث هو "سعود بن سيف النصر"، من أعلن عن نفسه كمعارض للعائلة المالكة عبر تغريداته على موقع تويتر عام 2014، والتي دعا فيها إلى محاكمة المسؤولين السعوديين المتورطين في الإطاحة بالرئيس المصري المعزول "محمد مرسي" في القاهرة، وانتقد في بعضها لاحقا سياسات الملك سلمان ونجله، قبل أن يتوقف حسابه عن التغريد تماما في سبتمبر/أيلول 2015، ليُكشف بعدها أنه تم استدراجه لإيطاليا من قبل المخابرات السعودية تحت ذريعة إبرام صفقة تجارية، حيث تم اختطافه ونقله على متن طائرة خاصة إلى الرياض ليختفي تماما بلا أثر.
نسبة معتبرة من هذه الهجرة كانت مدفوعة بالتضييق السياسي والأمني، وقد بدأ هذا الاتجاه مع وصول الأمير الشاب إلى ولاية العهد عام 2015، واستمر بعد توليه المنصب في يونيو/حزيران للعام الماضي 2017، ووفقا(14) لبيانات وزارة الأمن الداخلي الأميركية، فقد مُنح 47 سعوديا اللجوء عام 2016 مقارنة بـ39 و33 في عامي 2015 و2014 بالترتيب، فيما يقول الناشطون والمسؤولون إن عددا أكبر من المعارضين السياسيين يعيشون في المنفى الاختياري بدون طلب اللجوء رسميا كما فعل "خاشقجي"، ويبدو هذا التوجه متكررا في كندا التي خاضت خلافا دبلوماسيا مع الرياض مؤخرا، حيث شهدت البلاد ارتفاعا في أعداد طلبات اللجوء من السعوديين، فوفقا لوسائل الإعلام المحلية الكندية فإن ما لا يقل عن 20 طالبا تقدموا بطلب للحصول على اللجوء في كندا بعد تحديهم لأوامر الحكومة بالعودة إلى ديارهم على الفور أو التوقف عن التحدث إلى وسائل الإعلام عن أزمتهم.
يأتي هذا التوجه في الوقت الذي تواجه فيه رواية "ابن سلمان" القومية عدة إشكالات رئيسة من تهديدات ربما تقوض مستقبل النظام وتماسكه السياسي، أولها المعارضة الداخلية داخل أسرة آل سعود نفسها، وثانيها هروب وإحجام نخبة رجال الأعمال وأصحاب المال المتزايد وهم من تحداهم "ابن سلمان" في فندق ريتز كارلتون، أما الإشكال الثالث فهو المعارضة من قبل الصحافيين وناشطي المجتمع المدني المؤثرين في دوائر الشباب السعودي، وأخيرا هناك الانتقادات المتزايدة من قبل الحكومات الأجنبيات لسجل المملكة في التعامل مع حقوق الإنسان والمعارضة السياسية، والمفارقة هنا أن القمع غير المسبوق الذي مارسه ولي العهد الشاب يهدد بتوحيد مصادر الخطر ضد نظامه ودفعها جميعا إلى خارج الحدود السعودية مما يصعب من مهمته في السيطرة عليها أو ترويضها كما يرى، في وقت تتوسع فيها مجتمعات المهاجرين السعوديين بشكل غير مسبوق.
ففي الشهر الماضي، تسببت الانتقادات التي وجهها شقيق الملك سلمان، "أحمد بن عبد العزيز"، لسياسات الملك وولي عهده في حوار له مع بعض المتظاهرين في لندن، في زيادة التكهنات مجددا حول الخلافات داخل الأسرة المالكة حول شرعية حكم ولي العهد الشاب وجدارته، وفي ظل تكهنات بأن "أحمد بن عبد العزيز" يفكر في البقاء في المنفى(15) بشكل دائم، فإن ذلك يثير القلق من إمكانية التفاف المعارضة في الخارج حول أحد الأوجه الشعبية في العائلة المالكة، في الوقت الذي تتواتر الأنباء(16) عن قيام العديد من رجال الأعمال السعوديين بنقل أموالهم وتصفية أصولهم ومغادرة المملكة على أصداء حملة ريتز كارلتون الشهيرة كما ذكرنا، تزامنا مع تكثيف النشطاء السعوديين في المنفى ونظرائهم الأجانب من وتيرة النقد لأداء الحكومة السعودية، وهي انتقادات تتجاوب معها العديد من الحكومات الغربية بشكل متفاوت.
في ضوء ذلك، ربما يساعد إدراك بيئة التهديدات الجديدة التي يستشعرها نظام الحكم السعودي تجاه المعارضة الخارجية في فهم سر رد الفعل المبالغ فيه -وغير المفهوم بالنسبة للكثيرين- تجاه الانتقادات الكندية مثلا، في ظل استضافة "أوتاوا" -العاصمة الكندية- لعدد متزايد من الناشطين المعارضين للنظام السعودي، كما قد يساعد ذلك أيضا في تفسير المبررات التي ربما تكون قد دفعت ولي العهد الشاب، صاحب السجل الحافل من القرارات العدائية والمتسرعة وغير المحسوبة، إلى استهداف صحافي معارض ذي صوت بارز مثل "خاشقجي"، صحافي يمكن أن يلعب دورا ليس فقط في حشد الرأي العام الغربي ضد سياسات النظام السعودي، ولكن أيضا في جذب وتنظيم التكتلات المتناثرة للمعارضة السعودية المحتملة في الخارج، تنظيم يمكن أن ينتج قبضة معارضة موحدة قد يكون لها فرصة كبيرة في المستقبل المنظور لخلخلة قبضة العائلة الحاكمة ونخبة المملكة الجديدة، والتي يقودها أمير شاب يبدو بلا خطة، وبلا رؤية سياسية محكمة، وبأذرع أمنية تتعامل كما يبدو في كل مرة كأجهزة أمن في دول الديكتاتوريات القمعية، وهي لغة لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها وتجسدها التام الحالي، وقمع أصبح في أوضح صورة ممكنة.
محمد السعيد
10أكتوبر 2018
تقديملم يكن استهداف خاشقجي -والذي ترجح أغلب المصادر مقتله- حدثا عابرا في سجل الحرب السعودية على أي صوت معارض بالداخل والخارج، فالداخل أحكم بن سلمان عليه قبضته الحديدية سائرا على نهج أسلافه، وأما من لاذ بمأمنه في الخارج فخيار التصفية والاغتيال والاختطاف كان ولازال منهجا أمنيا سعوديا، يعالج التقرير تاريخ من الاغتيالات والتصفيات التي قامت بها السلطة السعودية بحق معارضيها في الخارج، والتي كانت قصصهم لا تقل بشاعة عن قصة خاشقجي
نص التقرير
لا أحد يعرف كيف مات "محمد المفرح" إلى اليوم، فقبل أربعة أعوام من وفاته الغامضة أواخر عام 2014، برز اسم رجل الأعمال السعودي لأول مرة، في 11 (فبراير/شباط) عام 2011، ضمن قائمة قصيرة مكونة من عشرة من الأكاديميين والناشطين الذين تقدموا(1) بطلب لتأسيس أول حزب سياسي رسمي في دولة لم تعرف السياسة الحزبية على مدار تاريخها، مستلهمين في طلبهم روح الثورات العربية التي اجتاحت الجوار السعودي للتو، ومعلنين في بيانهم التأسيسي للحزب الذي سموه "حزب الأمة" جملة مطالب جريئة، شملت المصالحة بين الحكومة والتيارات السياسية في الداخل والخارج، وإعلان العفو العام وإطلاق سراح كافة سجناء الرأي ودعاة الإصلاح والمعارضين السياسيين، وفي نهاية المطاف إلغاء نظام الملكية المطلقة وتأسيس نظام شعبي دستوري، فيما جاء الرد السعودي على هذه التحركات والمطالب على المستوى النمطي والمتوقع وبما يليق تماما بما يعرفه الجميع عن النظام الحاكم في المملكة.
فبعد أسبوع واحد فقط من طلبهم الرسمي المقدم لدى الديوان الملكي، وتحديدا في السابع عشر من فبراير/شباط، تم اعتقال(2) 6 من الأعضاء العشرة المؤسسين لـ "حزب الأمة" واحتجازهم، ولم يتم الإفراج عنهم بشكل مشروط إلا بعد أن وقعوا على عريضة تتضمن التعهد بعدم المشاركة في أي نشاط معاد للحكومة. أما "المفرح"، فقد غادر لتركيا في وقت مبكر فرارا من الملاحقة الأمنية الملكية، وأقام هناك لعدة سنوات اتهم خلالها الحكومة السعودية في أكثر من مناسبة بمحاولة اختطافه أو اغتياله، قبل أن يَصدر عفو عام بحقه، وفي الوقت الذي أشيع فيه أنه كان يرتب عودته إلى السعودية، أصيب المفرح بمرض غامض ولقي حتفه على إثره بعد شهر واحد قضاه في مشفى بإسطنبول، حيث تم نقل جثته بطائرة خاصة تابعة لوزارة الداخلية السعودية إلى جدة، في أجواء من الشبهات خالطتها اتهامات صريحة من أحزاب الأمة الخليجية للاستخبارات السعودية باغتيال المفرح عن طريق السم.
على مدار السنوات التالية خفت الجدل عن قضية "المفرح" تماما وانزوت عن دائرة الضوء، غير أن تغريدة(3) للصحفي السعودي المقرب من الديوان الملكي، ومدير مكتب قناة العربية السعودية السابق "خالد المفرحي" قد أعادت ذلك الجدل إلى الواجهة من جديد، بعدما ربط "المفرحي" بين الوفاة الغامضة للمفرح، وبين الاختفاء الغامض للصحافي السعودي المرموق "جمال خاشقجي" أعقاب توجهه للقنصلية السعودية في إسطنبول لإنجاز معاملات أوراق زواجه الرسمية، جدل احتدم بشكل أكبر بعد الأنباء التي سربتها مصادر أمنية تركية حول احتمال أن يكون "خاشقجي"، الصحفي الذي تبني مواقف معارضة للنظام السعودي في الفترة الأخيرة، قد قُتل داخل قنصلية بلاده.
كانت تغريدة "المفرحي" تحمل فيما يبدو اتهاما مبطنا لتركيا، أو لخصوم السعودية بشكل عام، باستهداف المعارضين السعوديين لمحاولة تشويه صورة المملكة، مستغلا حقيقة أن كلا من "المفرح" و"خاشقجي" قد لقيا مصيرهما الغامض داخل الأراضي التركية، لكن "المفرحي" غفل فيما يبدو عن العديد من أوجه التشابه الأخرى التي تدين بلاط بلاده الملكي بشكل صريح، فكلا الرجلين -المفرح وخاشقجي- كان معارضا صريحا للنظام السعودي، كما أن كلا الرجلين كانا يجولان في أيامهما الأخيرة حاملين مخاوف من أن يتم استهدافهما من قبل العائلة المالكة، مخاوف لم يجد "خاشقجي" غضاضة في أن يبوح بها لزملائه الصحفيين الأجانب، كـ "روبن رايت" في نيويوركر، لتسارع الأخيرة بالتصريح بها(4) عنه أعقاب اختفائه الغامض.
لكن المفارقة الكبرى التي تغافل عنها "المفرحي"، وغيره من جوقة الصحافيين المسبحين بحمد النظام السعودي والتابعين له، أن تركيا لم تكن البقعة الوحيدة على الأرض التي شهدت حوادث اختفاء واعتداءات غامضة على المعارضين السعوديين، وبخاصة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فمن كندا إلى سويسرا وألمانيا وفرنسا مرورا بتركيا ووصولا إلى المغرب، حولت الأجهزة الأمنية السعودية أجواء وأراضي الدول إلى ساحات قمع كبرى لمطاردة معارضيها وتهديدهم بكافة السبل الممكنة، بدءا من التهديدات اللفظية، ومرورا بالاعتداءات البدنية، وانتهاء بالاختطافات الممنهجة، وربما القتل، وهي سياسة لا يستطيع ولي العهد "محمد بن سلمان" أن يزعم أنه صاحب الفضل فيها، فهي سياسة تعود جذورها لعقود سالفة من السياسات السعودية التي نادرا ما أظهرت أي قدر من التسامح مع المعارضة السياسية سواء في داخل حدودها أو في خارجها.
أرامكو.. حيث بدأ كل شيء
تاريخيا، ظل الاستياء من السلطة السعودية مكتوما تحت السطح في المملكة، ونادرا ما تمت ترجمته لممارسات ظاهرة، وكانت احتجاجات العمال السعوديين في "أرامكو"، والتي بدأت في الأربعينيات واستمرت خلال الخمسينيات، أولى إرهاصات التمرد على تحالف المال والسلطة بين الملوك السعوديين وبين الوافدين الأميركيين الذين قدموا للتنقيب عن النفط في مملكة الصحراء.
ففي الأعوام الأولى لتأسيسها، وضعت أرامكو أسس نظام فصل عنصري فريد(5) ميز بين الموظفين الأميركيين الذين أقاموا في حي سكني فاخر تم تأسيسه خصيصا لهم في الظهران، وبين الآلاف من السعوديين، ولاحقا من العرب، الذين أقاموا في تجمعات سكنية رديئة، مع نظام عبودية مُقنَّع حرمهم من حقوقهم في رواتب كافية وسكن ملائم وحتى في الطعام الكافي، ما أدى إلى نشوب موجات متتالية من الاضطرابات كانت الحكومة السعودية تتدخل لقمعها مرة تلو الأخرى بطلب من "أرامكو" الأميركية.
في تلك الظروف ظهر الشاب "ناصر السعيد الشمري"(6)، ابن إمارة حائل الشمالية، ساعيا لأول مرة لتنظيم عمال "أرامكو" ضمن اتحاد عمالي يطالب بحقوقهم، ما أثمر في نهاية المطاف عن احتجاجات عام 1953 الضخمة، التي اشترك فيها أكثر من 20 ألفا من عمال الشركة، وتدخلت الحكومة السعودية لقمعها معتقلة أكثر من ألف من المحتجين بمن فيهم "ناصر" نفسه، من تم فصله من أرامكو وإعادته لمنطقة حائل، ولكن ناصر عاد إلى دائرة الضوء مجددا بعد أن طلب منه أمير حائل "عبد العزيز بن مساعد الجلوي" أن يلقي خطابا في حفل لاستقبال الملك "سعود" في المدرسة الابتدائية في المحافظة، على أن يكون الخطاب ممجدا للملك، ولكن ناصر استغل الخطاب ليوجه انتقادات حادة لـ "سعود" حول حقوق العمال السعوديين في "أرامكو"، وللمطالبة بالإفراج عن العمال المعتقلين، بل إنه رفع سقف مطالبه إلى ذروته بالدعوة لإجراء انتخابات ووضع دستور للبلاد.
استشعر "سعود بن عبد العزيز" حجم الخطر الذي يمثله "الشمري" في مسقط رأسه، فقرر على الفور إعادته من جديد لأرامكو، حيث انضم لطلائع العمال الذين نظموا موجة احتجاجية جديدة عام 1956، منددين بما وصفوه بأنه "احتلال أميركي" لبلادهم، ومنادين بسقوط اتفاقية قاعدة الظهران الجوية الأميركية، وعلى الفور استشعر النظام الملكي الخطر مجددا، وأصدر أمرا باعتقال قيادات العمال ما دفع "الشمري" للهرب إلى دمشق.
ناصر السعيد الشمري (على الكرسي يسارا)
في تلك الفترة، كانت سوريا على وشك اللحاق بقاطرة القومية الناصرية في القاهرة، توجه تكلل بوحدة رسمية بين سوريا ومصر عام 1958، فانتقل بعدها "الشمري" للقاهرة حيث تعرف على الرئيس المصري "جمال عبد الناصر"، وقرر تأسيس تنظيم علماني قومي معارض باسم "اتحاد شعب الجزيرة العربية"، وأعلن عن رغبته في الإطاحة بالنظام السعودي باستخدام "العمل المسلح"، ومع منتصف الستينيات بدأ التنظيم في شن هجماته داخل السعودية، وأبرزها تفجير خط أنابيب "التابلاين"، ومقر إقامة القوات الأميركية في فندق زهرة الشرق في العاصمة، ومحاولة تفجير وزارة الدفاع في قلب الرياض أيضا، تحركات رد عليها النظام السعودي بالقبض على 17 شخصا من أعضاء التنظيم من السعوديين واليمنيين وإعدامهم بشكل علني عام 1979.
وقبل نهاية العام نفسه، وتحديدا في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، وقعت الحادثة الأبرز في التاريخ السعودي الحديث، حين اقتحم "جهيمان العتيبي" وأتباعه الحرم المكي داعين لمبايعة المهدي المنتظر، وهو ما أدى إلى تفاقم ذعر النظام السعودي تجاه جميع أشكال المعارضة، وفي تلك الأجواء تم استدعاء "الشمري" بشكل غامض لإجراء مقابلة مع صحافي فرنسي في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تم اختطافه واصطحابه ونقله إلى المطار ليستقل طائرة سعودية، ولتنقطع أخباره تماما منذ السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول لعام 1979 وحتى لحظتنا هذه، مع شائعات أنه قد تم إلقاؤه من فوق متن الطائرة إلى قاع البحر أو فوق صحراء الربع الخالي السعودية.
لم يكن اختطاف "الشمري" الغامض المثبت، وقتله إن صح، إشارة بالغة الوضوح على أن الحكومة السعودية قررت وضع ثقلها في حرب مقدسة عابرة للحدود ضد كافة أشكال المعارضة السياسية لآل سعود، فرغم انزواء التهديد القادم من التيارات القومية مع رحيل نظام ناصر الناصري والتقارب بين القاهرة والرياض مطلع الثمانينيات، فإن الحقبة ذاتها شهدت ظهور شكل جديد من أشكال المعارضة السياسية السعودية في صورة الشيوخ والأساتذة والطلاب المستقلين عن المؤسسة الدينية التقليدية، إضافة إلى المجاهدين من الأفغان العرب، الذين عادوا للتو من أفغانستان، مشكلين تيارا دينيا جديدا عبر عن نفسه فجأة مع حرب الخليج عامي 1990 و1991، حين وطأت القوات الأميركية أرض بلاد الحرمين لأول مرة.
سلمان العودة وسفر الحوالي
كانت استعانة العائلة المالكة بالأميركيين لحماية المملكة ضربة قاصمة لشرعية آل سعود الدينية، تفجر(7) على إثرها النقد السياسي بشكل علني داخل السعودية، ولم يكن هذه المرة داخل تجمعات "أرامكو" المنعزلة فقط، وإنما في جميع مراكز البلاد، نقد تبلور في صورة عرائض موثقة مثل العريضة المدنية ومذكرة النصيحة التي شملت مطالبات ببرلمان وقضاء مستقلين وتقاسم عادل للثروة النفطية، ورغم أن "الإسلاميين" هم من قادوا موجة المعارضة هذه المرة، فإن نطاقها شمل جميع أطياف المجتمع السعودي، وقد طالت تلك الموجة من المعارضة حملة قمع أمنية أصابت أغلب الشيوخ المؤثرين وقتها مثل "سلمان العودة" و"سفر الحوالي"، ما أدى إلى اندلاع التظاهرات في "بريدة"، معقل دعم العائلة الحاكمة، مظاهرات قمعها النظام كالعادة، بلا هوادة.
المملكة المتعصبة
بخلاف التصور الشعبي السائد، لا تعد المملكة العربية السعودية دولة متجانسة طائفيا أو حتى أيديولوجيا، ويشمل(8) التدين الإسلامي في السعودية وحده مجموعة متنوعة من الممارسات والمدارس المختلفة، بين "الوهابية" المحافظة المتحالفة مع السلطة، والدعوة السنية الداعية إلى الإصلاح، والأقلية الشيعية في الشرق، والتجمعات الصوفية في جميع أنحاء المملكة، وحتى الحركات السلفية الثورية الداعية للإطاحة بـ "النظام الاستبدادي السعودي" كما تسميه، وتنويعاتها الأكثر تشددا التي شنت حربا مسلحة داخلية ضد المملكة في أكثر من مناسبة، أبرزها الحرب التي شنها "تنظيم القاعدة" في المملكة خلال النصف الأول من العقد الماضي.
كانت إستراتيجية النظام السعودي طويلة الأمد من أجل البقاء تتمثل في استخدام التنويعات المختلفة داخل المجتمع السعودي وتوظيفها في مواجهة بعضها البعض، مثل استخدام رجال الدين الرسميين في مواجهة رجال الدين الشعبيين، وتوظيف التدين السني لتحجيم طموحات الشيعة، وحتى في الشق الاجتماعي تم تحجيم تحركات النساء من خلال الولاية غير المقيدة للرجال، وفي قطاع الاقتصاد تم تصعيد نخبة من رجال الأعمال والبيروقراطيين، واستخدمت الثروة النفطية في وأد الحركة العمالية السعودية في مهدها، وكان الهاجس الأكبر لدى النظام السعودي هو إمكانية حدوث تقارب عابر للتنويعات المناطقية والطائفية والأيديولوجية، وحتى الجنسية والاقتصادية، على قاعدة مطالبات عامة ومظالم أساسية قد تخلخل الحكم تماما.
حدث ذلك لوهلة إبان حرب الخليج الثانية، حيث فشلت الإصلاحات الشكلية للملك "فهد"، بما في ذلك تعيين مجلس استشاري غير تشريعي ومنح صلاحيات أكبر لحكام المحافظات، في تهدئة السخط الشعبي، ونجحت طبقة رجال الدين البديلة في توحيد المجتمع على قاعدة أيديولوجية مختلفة عن تلك القاعدة الموالية للسلطة، لذا قمع النظام الملكي رجال الدين الجدد، الذين تجمعوا ضمن ما صار يُعرف بـ "تيار الصحوة"، بشكل وحشي.
لاحقا، ومع اندلاع الربيع العربي وتزايد حالة انعدام الأمان السياسي لدى الملكيات الخليجية، دفع ذلك الرياض إلى إقرار العديد من القوانين والإجراءات التقييدية، حيث وسّعت من ولايات قوانين "مكافحة الإرهاب" عام 2014، وأنشأت محكمة جزائية مختصة تابعة لوزارة الداخلية، وقد استخدمت المملكة هذه القوانين في استهداف النشطاء والمعارضين، وكان الناشط والمحامي "وليد أبو خير" هو أول ناشط تمت إدانته بموجب هذه القوانين الموسعة في نفس عام إقرارها، حيث أُدين بالسجن لمدة 15 عاما وحُظر بعدها من السفر لمدة 15 عاما في 2014 بعد أن تحدث عن حقوق الإنسان ووقّع عريضة تنتقد الحكومة السعودية.
المحامي وليد أبو خير
خلق(9) الربيع العربي مناخا أقل تسامحا مع المعارضة في بلد لم يكن يتسامح مع أي قدر منها على أي حال، مناخ يبدو أنه تعزز سريعا مع صعود طبقة جديدة إلى الحكم في المملكة، مع تولي الملك "سلمان" للعرش والصعود السريع لنجله "محمد بن سلمان" مطلع عام 2015، حيث شرع الأمير الشاب في بناء شبكات جديدة من السلطة والمحسوبية مستغلا سيطرته المطلقة على الأجنحة الخمسة الرئيسة في النظام الملكي، وهي وزارات الدفاع والداخلية والحرس الوطني، إضافة إلى الديوان الملكي والهيئات الاقتصادية، وفي طريقه لتثبيت حكمه القوي، شن ابن سلمان سلسلة غير مسبوقة من التوقيفات السياسية تحت ذرائع متنوعة.
كان صعود ابن سلمان إلى خط وراثة العرش، على خلاف التوازنات التقليدية في العائلة المالكة، مؤذنا بظهور نوع جديد من المعارضة السياسية هذه المرة داخل العائلة الحاكمة نفسها، ورغم أن الانشقاقات داخل العائلة كانت أمرا معهودا منذ نهاية الخمسينيات، حين تمرد الأمراء الأحرار بقيادة الأمير "طلال بن عبد العزيز" على السلطة في المملكة مطالبين بإنشاء حكم دستوري وخرجوا من المملكة إلى لبنان ثم مصر، رغم ذلك فإن العائلة المالكة نجحت في احتواء الخلافات اللاحقة بين أعضائها داخليا، وهي خلافات بدا أنها ستخرج عن السيطرة مع تصعيد "ابن سلمان" وظهور عدد من الأمراء الشباب الذين تمردوا على السلطة الجديدة، بما في ذلك عريضة أصدرها أميران مجهولان عام 2015 طالبت "عقلاء الأسرة الحاكمة" -حد تعبيرهما- بالتدخل لعزل الملك "سلمان" ونجله.
ومع تزايد هواجس النظام الجديد من صدع محتمل داخل الأسرة الحاكمة يمكن أن تستغله الفئات المعارضة في تجميع نفسها على قاعدة واحدة، قرر النظام الجديد في السعودية شن الحرب ضد الجميع في وقت واحد منقلبا على سياسته التقليدية في موازنة الفئات ضد بعضها البعض، ففي الوقت الذي تم فيه تقليص سلطة رجال الدين الحكوميين من خلال التلاعب بتشكيل مجلس كبار العلماء وتقليص سلطات المطاوعة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تم قمع رجال الدين المستقلين والأكاديميين عبر حملة توقيفات موسعة في سبتمبر/أيلول للعام الماضي، وهي توقيفات شملت 70 مثقفا وأكاديميا وشخصية إسلامية مثل الداعية "سلمان العودة" والاقتصادي "عصام الزامل" وغيرهما، حيث وجهت لهم تهم "العمل ضد الدولة والإخلال بأمنها واستقرارها".
ومع تطبيق المملكة لخطة تقشف أثّرت على معيشة الطبقات المتوسطة وهزّت أنشطة رجال الأعمال والتجار المتوسطين، امتدت يد "ابن سلمان" الباطشة في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي أيضا لتصل إلى نخبة أمراء العائلة الحاكمة ورجال الأعمال الرئيسين في البلاد، والذين تم احتجاز العشرات منهم بشكل مفاجئ في فندق "ريتز كارلتون" في قلب العاصمة السعودية، حيث أُجبروا على التنازل عن قدر كبير من أموالهم مقابل حرياتهم في حملة مزعومة لمكافحة الفساد.
إذن، كان صعود ابن سلمان إلى العرش إيذانا بامتداد اليد الباطشة للدولة السعودية لشرائح ظنت أنها بأمن من البطش على مدار عقود طويلة، وعلى رأسهم أمراء العائلة المالكة الذين تم التنكيل بهم ليس فقط في الداخل ولكن في الخارج أيضا، وقد رصدت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ثلاث حوادث على الأقل لاختطاف أمراء منشقين(11) أو معارضين خارج الحدود السعودية منذ صعود الملك سلمان ونجله إلى السلطة، أولهم هو "سلطان بن تركي" الذي تم استدراجه مطلع عام 2016، من مقر إقامته في فندق الجزيرة الفخم في باريس، تحت ذريعة زيارة والده في القاهرة على متن طائرة سعودية خاصة، ولكن "سلطان" اكتشف لاحقا أن طائرته كانت متجهة إلى الرياض بدلا من القاهرة، حيث اختفى ولم تُسمع أخباره إلى اليوم.
أما الأمير الثاني فهو "تركي بن بندر"، وهو أمير "منخفض الرتبة" عمل سابقا كرائد في الشرطة السعودية قبل أن يختلف مع العائلة ويغادر إلى باريس ويبدأ في بث مقاطع فيديو معارضة للعائلة المالكة منذ عام 2012 وحتى يوليو/تموز من عام 2015، حيث تم استدراجه إلى المغرب وهناك تم اختطافه وتسليمه للسلطات السعودية، وكان الوجه الثالث هو "سعود بن سيف النصر"، من أعلن عن نفسه كمعارض للعائلة المالكة عبر تغريداته على موقع تويتر عام 2014، والتي دعا فيها إلى محاكمة المسؤولين السعوديين المتورطين في الإطاحة بالرئيس المصري المعزول "محمد مرسي" في القاهرة، وانتقد في بعضها لاحقا سياسات الملك سلمان ونجله، قبل أن يتوقف حسابه عن التغريد تماما في سبتمبر/أيلول 2015، ليُكشف بعدها أنه تم استدراجه لإيطاليا من قبل المخابرات السعودية تحت ذريعة إبرام صفقة تجارية، حيث تم اختطافه ونقله على متن طائرة خاصة إلى الرياض ليختفي تماما بلا أثر.
القمع العابر للحدود
توفر هذه الحوادث الثلاث إشارات كافية إلى تحول القمع العابر للحدود إلى سياسة ممنهجة يبدو أنها لم تقف عند حدود الأمراء، ففي الشهر الماضي اتهم(12) المعارض السعودي "غانم الدوسري" ولي العهد السعودي "ابن سلمان" بتدبير الاعتداء عليه من قبل سعوديين في لندن، في الوقت الذي قال فيه العديد من السعوديين المقيمين في الخارج إنهم تلقوا تعليمات بالذهاب إلى السفارات السعودية في البلدان التي يقيمون بها، تنبيهات امتنع أغلبهم عن الاستجابة لها خوفا من أن يتم التنكيل بهم.
غير أن "جمال خاشقجي"، الصحافي السعودي المرموق، ربما ظن لوهلة أنه بمأمن من كل هذا، فرغم أنه أسرّ للعديد من المقربين منه ولبعض الصحفيين العالميين أنه يخشى أن يكون مستهدفا من قبل النظام السعودي، فإن "خاشقجي" أكّد أنه لم يتلق أي تهديدات من قبل السعودية منذ خروجه من البلاد إلى منفى اختياري منتصف العام الماضي 2017، وعلى النقيض فإنه طُلب(13) منه العودة إلى السعودية والعمل مستشارا لـ "ابن سلمان"، ولكنه رفض ذلك موقنا أن العلاقة بينه وبين النظام وصلت إلى مرحلة اللا عودة، وبالإضافة إلى ذلك فإن مكانة "خاشقجي" المرموقة ككاتب عمود ثابت في صحيفة "واشنطن بوست" كانت لتوفر له قدرا من الحماية الأميركية والدولية لا يتوافر لأقرانه من المعارضين المغمورين، ولعل تلك الأسباب إضافة إلى الضغوط الحياتية التقليدية هي ربما ما أقنعت خاشقجي بالاستجابة إلى الطلب المريب لسفارة بلاده في واشنطن بالسفر إلى إسطنبول من أجل إنجاز إحدى المعاملات الورقية، وهناك في صباح يوم الثلاثاء الموافق الثاني من أكتوبر/تشرين الأول دلف إلى قنصلية بلاده في إسطنبول ولم يخرج منها إلى اليوم.
كان الاختفاء الغامض لصحافي بحجم ومكانة "خاشقجي" كفيلا بجذب انتباه العالم بأسره، ومع سجل حافل للحكومة السعودية باستهداف معارضيها خارج حدودها، ومع كون آخر محطة رصد فيها خاشقجي كانت على أبواب قنصلية بلاده في إسطنبول، لم يكن من المتوقع أن تشتري أي جهة الرواية السعودية "الساذجة" بأن خاشقجي خرج من القنصلية بعد دقائق ثم اختفى وحده، وأيقن الجميع منذ اللحظة الأولى أنه اختُطف، وفي الأيام اللاحقة تم رفع سقف توقعات دائرة الرعب عبر أدلة متفرقة أوصلت أجهزة الأمن التركية إلى استنتاج أن الصحافي المرموق ربما يكون قد قُتل بدم بارد داخل القنصلية.
توفر هذه الحوادث الثلاث إشارات كافية إلى تحول القمع العابر للحدود إلى سياسة ممنهجة يبدو أنها لم تقف عند حدود الأمراء، ففي الشهر الماضي اتهم(12) المعارض السعودي "غانم الدوسري" ولي العهد السعودي "ابن سلمان" بتدبير الاعتداء عليه من قبل سعوديين في لندن، في الوقت الذي قال فيه العديد من السعوديين المقيمين في الخارج إنهم تلقوا تعليمات بالذهاب إلى السفارات السعودية في البلدان التي يقيمون بها، تنبيهات امتنع أغلبهم عن الاستجابة لها خوفا من أن يتم التنكيل بهم.
غير أن "جمال خاشقجي"، الصحافي السعودي المرموق، ربما ظن لوهلة أنه بمأمن من كل هذا، فرغم أنه أسرّ للعديد من المقربين منه ولبعض الصحفيين العالميين أنه يخشى أن يكون مستهدفا من قبل النظام السعودي، فإن "خاشقجي" أكّد أنه لم يتلق أي تهديدات من قبل السعودية منذ خروجه من البلاد إلى منفى اختياري منتصف العام الماضي 2017، وعلى النقيض فإنه طُلب(13) منه العودة إلى السعودية والعمل مستشارا لـ "ابن سلمان"، ولكنه رفض ذلك موقنا أن العلاقة بينه وبين النظام وصلت إلى مرحلة اللا عودة، وبالإضافة إلى ذلك فإن مكانة "خاشقجي" المرموقة ككاتب عمود ثابت في صحيفة "واشنطن بوست" كانت لتوفر له قدرا من الحماية الأميركية والدولية لا يتوافر لأقرانه من المعارضين المغمورين، ولعل تلك الأسباب إضافة إلى الضغوط الحياتية التقليدية هي ربما ما أقنعت خاشقجي بالاستجابة إلى الطلب المريب لسفارة بلاده في واشنطن بالسفر إلى إسطنبول من أجل إنجاز إحدى المعاملات الورقية، وهناك في صباح يوم الثلاثاء الموافق الثاني من أكتوبر/تشرين الأول دلف إلى قنصلية بلاده في إسطنبول ولم يخرج منها إلى اليوم.
كان الاختفاء الغامض لصحافي بحجم ومكانة "خاشقجي" كفيلا بجذب انتباه العالم بأسره، ومع سجل حافل للحكومة السعودية باستهداف معارضيها خارج حدودها، ومع كون آخر محطة رصد فيها خاشقجي كانت على أبواب قنصلية بلاده في إسطنبول، لم يكن من المتوقع أن تشتري أي جهة الرواية السعودية "الساذجة" بأن خاشقجي خرج من القنصلية بعد دقائق ثم اختفى وحده، وأيقن الجميع منذ اللحظة الأولى أنه اختُطف، وفي الأيام اللاحقة تم رفع سقف توقعات دائرة الرعب عبر أدلة متفرقة أوصلت أجهزة الأمن التركية إلى استنتاج أن الصحافي المرموق ربما يكون قد قُتل بدم بارد داخل القنصلية.
جمال خاشقجي
لم تصدر بعد سردية رسمية مفصلة حول الواقعة من أي جهة، لكن المؤكد أن أحدا لن يشتري أي رواية سعودية لا تتضمن الكشف عن مكان خاشقجي أو مصيره، وفي غياب تلك الرواية سوف تظل الحكومة السعودية في مرمى الاتهام باغتيال، أو على الأقل اختطاف، صحافي مرموق ذي شهرة عالمية، وهو اتهام يضع النظام السعودي في مرمى نيران الصحافة العالمية لأشهر قادمة، وسيهدد بالتأكيد الاستثمارات الكبرى التي وضعها لتحسين صورته في الغرب إعلاميا وداخل دوائر النخبة وصنع القرار، استثمارات كان هدفها دوما تقديم ولي العهد الشاب بوصفه قياديا إصلاحيا يسعى إلى تحديث بلد غارق في المحافظة والتقليدية، لذا برز سؤال بدهي ومهم عن الأسباب التي قد تجعل النظام السعودي يخاطر بتدمير صورته المهتزة بالفعل والإقدام على استهداف كاتب مشهور عالميا بذلك الشكل الصريح وبلا أي مواربة.
تميل الرواية التقليدية إلى تفسير لا مبالاة وعدم اكتراث النظام السعودي بصورته برغبته في إرسال رسالة إلى معارضيه أنهم لم يكونوا في مأمن أيا كانت أماكنهم ومهما بلغت مكانتهم، لكنَّ بعض التدقيق والنظر الأكثر عمقا يقودنا إلى رواية أكثر أهمية وخطورة، فعلى الأرجح، فإن الأمر أكثر ارتباطا ببنية التهديدات التي تواجه النظام من وجهة نظر النخبة الحاكمة الجديدة، ففي الوقت الذي يسعى فيه "ابن سلمان" ونخبته لإحلال القومية الوطنية السعودية محل التدين المحافظ كأساس لشرعية الدولة الجديدة، فإن الخطر المستقبلي الذي يواجه نظام "ابن سلمان" لا يأتي من رجال الدين أو المعارضة الإسلامية بشكل رئيس أو من أي شكل آخر من التهديدات التي عرفتها السعودية على مدار تاريخها، ولكنه يأتي من جهة أخرى مختلفة تماما.
يُعد "جمال خاشقجي" مجرد مثال على تطور غير مسبوق في التاريخ السعودي الحديث، فعلى مدار تاريخها كانت المملكة دولة جاذبة للمهاجرين، ولم تعرف البلاد في أي وقت موجات هجرة جماعية عبر تاريخها الحديث، لكن الأعوام الأخيرة شهدت أكبر موجة لنزوح السعوديين إلى خارج البلاد، حيث قُدّرت أعداد السعوديين المقيمين في الخارج بأكثر من مليون شخص في عام 2016، بما يعادل 5% من عدد المواطنين، وهو توجه يبدو أنه أحدث قلقا لدى مستويات عليا في الدولة السعودية، وتحديدا في أروقة البلاط الملكي.
تميل الرواية التقليدية إلى تفسير لا مبالاة وعدم اكتراث النظام السعودي بصورته برغبته في إرسال رسالة إلى معارضيه أنهم لم يكونوا في مأمن أيا كانت أماكنهم ومهما بلغت مكانتهم، لكنَّ بعض التدقيق والنظر الأكثر عمقا يقودنا إلى رواية أكثر أهمية وخطورة، فعلى الأرجح، فإن الأمر أكثر ارتباطا ببنية التهديدات التي تواجه النظام من وجهة نظر النخبة الحاكمة الجديدة، ففي الوقت الذي يسعى فيه "ابن سلمان" ونخبته لإحلال القومية الوطنية السعودية محل التدين المحافظ كأساس لشرعية الدولة الجديدة، فإن الخطر المستقبلي الذي يواجه نظام "ابن سلمان" لا يأتي من رجال الدين أو المعارضة الإسلامية بشكل رئيس أو من أي شكل آخر من التهديدات التي عرفتها السعودية على مدار تاريخها، ولكنه يأتي من جهة أخرى مختلفة تماما.
يُعد "جمال خاشقجي" مجرد مثال على تطور غير مسبوق في التاريخ السعودي الحديث، فعلى مدار تاريخها كانت المملكة دولة جاذبة للمهاجرين، ولم تعرف البلاد في أي وقت موجات هجرة جماعية عبر تاريخها الحديث، لكن الأعوام الأخيرة شهدت أكبر موجة لنزوح السعوديين إلى خارج البلاد، حيث قُدّرت أعداد السعوديين المقيمين في الخارج بأكثر من مليون شخص في عام 2016، بما يعادل 5% من عدد المواطنين، وهو توجه يبدو أنه أحدث قلقا لدى مستويات عليا في الدولة السعودية، وتحديدا في أروقة البلاط الملكي.
نسبة معتبرة من هذه الهجرة كانت مدفوعة بالتضييق السياسي والأمني، وقد بدأ هذا الاتجاه مع وصول الأمير الشاب إلى ولاية العهد عام 2015، واستمر بعد توليه المنصب في يونيو/حزيران للعام الماضي 2017، ووفقا(14) لبيانات وزارة الأمن الداخلي الأميركية، فقد مُنح 47 سعوديا اللجوء عام 2016 مقارنة بـ39 و33 في عامي 2015 و2014 بالترتيب، فيما يقول الناشطون والمسؤولون إن عددا أكبر من المعارضين السياسيين يعيشون في المنفى الاختياري بدون طلب اللجوء رسميا كما فعل "خاشقجي"، ويبدو هذا التوجه متكررا في كندا التي خاضت خلافا دبلوماسيا مع الرياض مؤخرا، حيث شهدت البلاد ارتفاعا في أعداد طلبات اللجوء من السعوديين، فوفقا لوسائل الإعلام المحلية الكندية فإن ما لا يقل عن 20 طالبا تقدموا بطلب للحصول على اللجوء في كندا بعد تحديهم لأوامر الحكومة بالعودة إلى ديارهم على الفور أو التوقف عن التحدث إلى وسائل الإعلام عن أزمتهم.
يأتي هذا التوجه في الوقت الذي تواجه فيه رواية "ابن سلمان" القومية عدة إشكالات رئيسة من تهديدات ربما تقوض مستقبل النظام وتماسكه السياسي، أولها المعارضة الداخلية داخل أسرة آل سعود نفسها، وثانيها هروب وإحجام نخبة رجال الأعمال وأصحاب المال المتزايد وهم من تحداهم "ابن سلمان" في فندق ريتز كارلتون، أما الإشكال الثالث فهو المعارضة من قبل الصحافيين وناشطي المجتمع المدني المؤثرين في دوائر الشباب السعودي، وأخيرا هناك الانتقادات المتزايدة من قبل الحكومات الأجنبيات لسجل المملكة في التعامل مع حقوق الإنسان والمعارضة السياسية، والمفارقة هنا أن القمع غير المسبوق الذي مارسه ولي العهد الشاب يهدد بتوحيد مصادر الخطر ضد نظامه ودفعها جميعا إلى خارج الحدود السعودية مما يصعب من مهمته في السيطرة عليها أو ترويضها كما يرى، في وقت تتوسع فيها مجتمعات المهاجرين السعوديين بشكل غير مسبوق.
ففي الشهر الماضي، تسببت الانتقادات التي وجهها شقيق الملك سلمان، "أحمد بن عبد العزيز"، لسياسات الملك وولي عهده في حوار له مع بعض المتظاهرين في لندن، في زيادة التكهنات مجددا حول الخلافات داخل الأسرة المالكة حول شرعية حكم ولي العهد الشاب وجدارته، وفي ظل تكهنات بأن "أحمد بن عبد العزيز" يفكر في البقاء في المنفى(15) بشكل دائم، فإن ذلك يثير القلق من إمكانية التفاف المعارضة في الخارج حول أحد الأوجه الشعبية في العائلة المالكة، في الوقت الذي تتواتر الأنباء(16) عن قيام العديد من رجال الأعمال السعوديين بنقل أموالهم وتصفية أصولهم ومغادرة المملكة على أصداء حملة ريتز كارلتون الشهيرة كما ذكرنا، تزامنا مع تكثيف النشطاء السعوديين في المنفى ونظرائهم الأجانب من وتيرة النقد لأداء الحكومة السعودية، وهي انتقادات تتجاوب معها العديد من الحكومات الغربية بشكل متفاوت.
في ضوء ذلك، ربما يساعد إدراك بيئة التهديدات الجديدة التي يستشعرها نظام الحكم السعودي تجاه المعارضة الخارجية في فهم سر رد الفعل المبالغ فيه -وغير المفهوم بالنسبة للكثيرين- تجاه الانتقادات الكندية مثلا، في ظل استضافة "أوتاوا" -العاصمة الكندية- لعدد متزايد من الناشطين المعارضين للنظام السعودي، كما قد يساعد ذلك أيضا في تفسير المبررات التي ربما تكون قد دفعت ولي العهد الشاب، صاحب السجل الحافل من القرارات العدائية والمتسرعة وغير المحسوبة، إلى استهداف صحافي معارض ذي صوت بارز مثل "خاشقجي"، صحافي يمكن أن يلعب دورا ليس فقط في حشد الرأي العام الغربي ضد سياسات النظام السعودي، ولكن أيضا في جذب وتنظيم التكتلات المتناثرة للمعارضة السعودية المحتملة في الخارج، تنظيم يمكن أن ينتج قبضة معارضة موحدة قد يكون لها فرصة كبيرة في المستقبل المنظور لخلخلة قبضة العائلة الحاكمة ونخبة المملكة الجديدة، والتي يقودها أمير شاب يبدو بلا خطة، وبلا رؤية سياسية محكمة، وبأذرع أمنية تتعامل كما يبدو في كل مرة كأجهزة أمن في دول الديكتاتوريات القمعية، وهي لغة لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها وتجسدها التام الحالي، وقمع أصبح في أوضح صورة ممكنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق