جمال خاشقجي كما عرفته.. إعلامي سعودي مختلف
د. أحمد موفق زيدان
كان ذلك في بيشاور الباكستانية وفي صيف عام 1988، حين تعرفت على الأستاذ جمال خاشقجي، الذي كان يُكثر من التردد على باكستان وأفغانستان لتغطية الحدث الأفغاني الأبرز عالمياً، والذي يهفو إليه كل صحافي متعطش للتغطية المهنية، عرض عليّ الأستاذ جمال العمل معهم في جريدة الشرق الأوسط، وقد كان ذلك حيث بدأت بالعمل مراسلاً لـ «الشرق الأوسط» من بيشاور أغطي الحدثين الأفغاني والباكستاني، وقمنا خلال تلك الفترة بتحقيقات صحافية مشتركة، إن كان لـ «الشرق الأوسط» أو «المسلمون» أو «المجلة»، وما زلت أحتفظ بهذه التحقيقات المشتركة، حيث أسجل هنا أن أول من نقلني إلى مهنة الصحافة العربية هو الأستاذ جمال، بعد أن كانت اهتماماتي محصورة بالعمل في المجلات الجهادية الأفغانية، التي كان يديرها الشيخ الشهيد عبدالله عزام -رحمه الله- وكذلك المجاهدون الأفغان.
على الرغم من قناعاتنا المختلفة والمتباينة -ربما سياسياً- للوضع الأفغاني، لكن لم يمنع هذا من العمل الصحافي المشترك، وتحديداً في تحقيقات وأخبار ومقابلات مشتركة على الساحة الأفغانية، وظلت العلاقة قائمة حتى بعد تحوله إلى صحيفة الحياة، كان ذلك في عام 1990، حيث انتقلت معه إلى صحيفة الحياة، وظللت أعمل للصحيفة وشقيقتها مجلة الوسط، وظل حبل التواصل مستمراً طوال تلك المرحلة حتى بعد التحاقي بقناة الجزيرة في يناير عام 2000، وغالباً ما نلتقي إما في خلال زياراتي إلى السعودية، أو خلال زياراته إلى قطر وتركيا وغيرها من الدول.
لكن عليّ أن أذكر هنا، أنني تعرفت خلال عملي الإعلامي على صحافي سعودي مختلف -والحق يُقال- فقد كان مثال الصحافي الجاد المثابر، الذي يبحث عن المعلومة والخبر الجديد، والذي يؤثر التعب والإرهاق من أجل خدمة مهنته على الجلوس في الفنادق ليكتب من برج عاجي، ولذا رأينا تحقيقاته المميزة من أفغانستان إلى السودان فالجزائر والبوسنة والأردن، ومع ثورة «النيو ميديا» التي اجتاحت العالم كله، رأينا كيف نجح إلى حد كبير في إثبات اسمه وفكره بهذه الثورة، قبولاً عزّ نظيره وسط إعلاميين خليجيين، فكان ما يدوّنه أحياناً يفسر على أنه موقف حكومي، إلى أن حصل الطلاق بين الطرفين، فكانت مغادرته إلى أميركا، ومع هذا ظلت تغريداته ينتظرها كثيرون، إلى أن تبوأ مقعد كاتب رأي أسبوعي في جريدة كـ «الواشنطن بوست»، وهو ما لم يحصل -بحسب علمي- لأي كاتب عربي.
طوال تلك الفترة التي تعرفت فيها على جمال، كان مهموماً ومنشغلاً بقضية الحرية والتحرر التي كبّلت برأيه ورأينا العالم العربي والإسلامي، ومنعته من التحليق كغيره من البلدان والأمم، وما إن انطلق الربيع العربي حتى بدا جمال كغيره من التوّاقين للحرية، أكثر تفاؤلاً وأملاً في كسر القيود والتحرك إلى الأفق البعيد أسوة بالعالم الحر، ولكن اصطفاف القوى المضادة للربيع العربي على مستوى الدول، أحبط كثيراً من التفاؤل.
استطاع جمال طوال تلك الفترة المشي على حبل دقيق ورفيع مشدود بين مراعاته لظروف عربية استبدادية، وبين مهنيته التي تتطلب الحيادية والموضوعية، ولكن مع الربيع العربي حسم الأحرار من صحافيين وإعلاميين وسياسيين ونخبويين خياراتهم، وكان من بينهم الأخ جمال، ألا وهو خيار الالتحام مع الشعوب، الالتحام مع الإنسان ضد الوحشية والإجرام. لغز جمال لن يبقى طويلاً، وقد بدأت ملامحه تتضح أكثر وأكثر، واستهداف جمال هو استهداف للربيع العربي ولكل حر، ومعهم تركيا التي وقعت الجريمة على أرضها، ومن واجب الصحافة -إن أرادت منع تكرار ذلك- أن تقف مع أحد روادها، فكيف إن كانت الجريمة قد جمعت في استهدافها الحرية والصحافة.
الرد العملي والأقسى على قتلة جمال اليوم، يكون بإحياء مقالاته وكتاباته وتغريداته، وهي دعوة مفتوحة لأحرار المهنة من مؤسسات إعلامية وإعلاميين إلى إعادة نشر وبث وطباعة مقالاته وتغريداته، فلا وفاء أكثر من التذكر، ولا جحود أكثر من النكران، والوفاء اليوم بتذكر مقالاته وجمله وتغريداته.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق