بين التطبيع والشذوذ
في غابر الأيام، كان المطبّعون العرب يتوارون خجلًا من نشاطهم في خدمة المشاريع السياسية الجديدة، ذات الارتباط بإعادة رسم خرائط المنطقة جغرافيًا وثقافيًا واجتماعيًا.
كان المطبّع منبوذًا، يعيش شبه عزلة عن مجتمعه، لا يتكّلم، وإن تكلّم فإنه يحاول تبرير مواقفه بغلافٍ مهترئ من الوطنية المستحدثة، طارحًا نفسه بأنه يجتهد، ولا يفرض رأيه على أحد.
منذ شق الكاتب المسرحي الراحل، عاطف سالم، طريقه في دنيا التطبيع، فإنه سقط من حسابات جماعة المثقفين المصريين، وصار موضوعًا للسخرية والرثاء، حتى بات الوجود معه في مكان واحد تهمةً تلاحق صاحبها، وحين وافته المنية قبل سنوات لم يرافق جثمانه إلى القبر أحد، لتكون النهاية الفصل الأسوأ في دراما انتحار مثقف مصري، بخنق نفسه بحبل التطبيع.
تبدلت أحوالٌ، وجرت في النهر مياه ملوثة، حتى وصلنا إلى مرحلة يوسف زيدان الذي ينتقل بالنشاط التطبيعي من الدفاع التبريري إلى الهجوم العنيف، والذي يصنف رافضي التطبيع خونة لمصالح أوطانهم، ناهيك عن اتهامهم بالجهل والضحالة والانفصال عن الواقع.
ذكاء يوسف زيدان جعله يلتقط الإشارة مبكرًا، ويعيّن نفسه صوتًا ثقافيًا لمشروع عبد الفتاح السيسي، المرتمي بالكلية في الحضن الصهيوني، قاطعًا خطواتٍ لم يكن سابقاه، أنور السادات وحسني مبارك، يفكّران في الإقدام عليها، إذ ينتقل الأمر من كونه نوعًا من البراغماتية التي تبحث عن مصلحة شخصية إلى نوع من الاندماج الصوفي، الغارق في رغبةٍ عارمة في الارتباط مع الكيان الصهيوني، معرفيًا وواقعيًا، بحيث يصبح التطبيع عند السيسي غايةً في ذاته، وليس وسيلةً للانتفاع والتربح، أو حتى تحييد العدو السابق.
على هذه الأرضية، يؤسس يوسف زيدان مشروعه الخاص الذي بدأ مبكرًا للغاية بالحفر العميق في التربة الحضارية، ليهدم ما استقرّ في الوجدان الجمعي عن ثوابت مؤكّدة، تعريفات راسخة، ومفاهيم مستقرة عن فلسطين التاريخية والقدس والمسجد الأقصى والمقدّسات المسيحية، الأمر الذي استلزم منه مزاولة أعمال تنقيب وهدم في النص القرآني ذاته، والعبث والتحوير في التاريخ المدون.
ينطلق يوسف زيدان، مثل صوت مذياعٍ يلهو السيسي بمؤشّر موجاته، كلما شد الأخير الرحال إلى نيويورك للقاء رئيس حكومة الكيان الصهيوني، تمامًا كما تنطلق جيهان السادات في ذكرى حرب أكتوبر. وجديد زيدان، هذه المرة، أن رافضي التطبيع جهلة، وأنه جاهز للسفر إلى إسرائيل، وإلقاء محاضرات في جامعاتها "هاقولهم ابعتوا الدعوة لوزارة الخارجية واتحاد الكتاب المصريين، ولو وافقوا هاروح، أنا مش بعمل حاجة أبدا من تحت الترابيزة، ولو روحت هاروح بدافع خدمة هذه البلد أنا مش عايز حاجة استغنيت".
يستدعي زيدان اسم طه حسين، ليبني مرافعته مرددًا الرواية الصهيونية عن سفر عميد الأدب العربي لإلقاء محاضرة في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة عام 1947، وبصرف النظر عن أن الكيان الصهيوني لم يتأسّس إلا في العام التالي لذلك التاريخ، فإن قصة ذهاب طه حسين نفاها أساتذة كبار في تاريخ الأدب العربي، مثل الدكتور محمد عبد المطلب، رئيس قسم اللغة العربية الأسبق في كلية الآداب جامعة عين شمس، الذي فند ما ذكرته صفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية"، التابعة للخارجية الإسرائيلية، عن زيارة عميد الأدب العربي، طه حسين، لجامعة القدس ومساندته الكيان الصهيوني، وكذلك فعل الباحث يوسف نوفل أحد تلاميذ طه حسين.
في ذلك أيضًا يمكن الاستناد إلى ما سجّله حلمي النمنم، وزير الثقافة السابق في حكومة ما بعد انقلاب السيسي، في كتابه "طه حسين والصهيونية"، الصادر قبل ثماني سنوات، حين أورد مقالًا لعميد الأدب العربي، عنوانه "الصلح مع إسرائيل" نشر في الرابع من يونيو/ حزيران 1956 في صحيفة الجمهورية التي كان الرئيس الراحل أنور السادات مديرها العام آنذاك، وفيه يسجّل طه حسين أن "الصلح مع الظالمين إجرام ما دام ظلمهم قائما. الرضا بقصة فلسطين وظلم إسرائيل وأعوانها هو مشاركة في الإثم".
المسألة اللافتة في هجمة يوسف زيدان التطبيعية هي هذه الجرأة، حد الصفاقة، في إخراج رافضي التطبيع من زمرة العقلاء والوطنيين، واعتبارهم كائنات غريبة، أو شاذّة، بتعبير يوسف زيدان، وهو يروج مشروعه، قائلًا "ليه لا للتطبيع أومال نعم للشذوذ مثلًا".
والحقيقة أنه ليس أكثر شذوذًا من هذه الوقاحة في تسويق العدو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق