تراجيديا أحمد دومة في مراعي الكراهية
وائل قنديل
لم نسمع عن استخدام القنابل السامة المجرّمة دوليًا ضد ثوار يناير في مصر إلا مع أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2011..
ولم نشاهد بأعيننا جنودًا يلقون بجثث الثوار فوق أكوام القمامة في ميدان التحرير إلا في هذه الأحداث.
ولم نر جنودًا يجردون متظاهرةً من ملابسها ويسلحونها على الاسفلت أمام مبنى مجلس الشورى ومجلس الوزراء، إلا في تلك الفترة العصيبة.
الشاهد أنه في تلك الفترة اتخذت حرب المجلس العسكري الحاكم ضد ثورة يناير طورًا جديدًا، استخدمت فيها أسلحة فتاكة، على نحو مباشرٍ وصريح، في ارتكاب مذابح مروّعة، وبالتالي وجد فيه الثوار أنفسهم يواجهون موتًا محققًا في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع قواتٍ نظامية لا يوقفها رادع قانوني أو أخلاقي أو إنساني.
في تلك المرحلة الدامية من عمر الثورة المصرية، كانت الحادثة التي عرفت بحرق المجمع العلمي الكائن في مبنى مجلس الشورى، والتي أعلنت عنها الفضائيات قبل أن تقع، وأعني القنوات المتصلة بحبل سري مع المتحدّث العسكري، الأمر الذي أثار دهشة كثيرين، وأكد، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الحاكم العسكري قرّر إشعال حريق يغطي به جرائمه، ويظهر الثوار أمام الناس في البيوت وكأنهم مجموعة من التتار المخرّبين العملاء الذين يحرقون ثروة مصر العلمية وإرثها الثقافي.
كنا في الميدان في تلك الساعات العصيبة، وكنا نرى عشرات من جماجم شباب الثورة مثقوبة بطلقات الرصاص والخرطوش والأحجار المدبّبة التي يلقيها جنود وبلطجية من أعلى المبنى الذي احتلوه ليمطروا المتظاهرين بذخيرةٍ قاتلة، وهنا كان شباب الثورة في مواجهةٍ مزدوجة مع النار المشتعلة في المبنى، والنيران المصبوبة من فوهات بنادق الجنود.
تلك كانت أشرس حلقة في حرب المجلس العسكري على الثورة، في فترة كان قد استعاد فيها سيطرته على الإعلام، فنجح في تزييف الوقائع، لينتهي إلى أن الثورة هي التي تحرق وتخرّب وتعتدي، وهنا كانت عملية اصطياد الناشط أحمد دومة في استوديو قناة دريم، حيث نجح مذيع أمني وخبير استراتيجي في حصاره واستفزازه واستدراجه إلى ترديد عبارةٍ خاطفةٍ مضمونها أنه لم يكن أمام بعض الثوار للفرار من الموت على أيدي الجنود سوى الدفاع عن أنفسهم بوسائل بدائية، منها عبوات كيروسين ومولوتوف، ليهتف الفريق الأمني الذي يحاصره في الاستوديو "اثبت عندك هذا اعتراف بحرق المجمع العلمي" ليصاغ قرار الاتهام والمحاكمة تلفزيونيًا، ويتحوّل الأمر إلى قضية متداولة أمام القضاء تسع سنوات، حتى صدر حكم نهائي بالأمس بسجن أحمد دومة 15 عامًا.
هنا أنت أمام حلقة أعنف من حلقات الانتقام العسكري من ثورة يناير، لم يوقفها أن أحمد دومة كان أحد المتطرّفين في حماسهم لانقلاب الجيش على الرئيس الذي جاءت به ثورة يناير، ولديه من المواقف والتصريحات المحرّضة على إبادة الفصيل المؤيد للرئيس مرسي، ما يستوجب المحاكمة، لو أن هناك عدالة في مصر.
في قضية حرق المجمع العلمي تحديدًا يظهر بجلاء أن المستهدف بالعقاب والانتقام هي ثورة يناير، وليس الأشخاص المشمولين بالحكم، ممن تم اتهامهم بالعنف والتخريب، بدليل أن الممثل طارق النهري الذي خفضوا عقوبته من المؤبد إلى السجن 15 عامًا، في قضية حرق المجمع العلمي، سابقة التجهيز، له تسجيلاتٌ مصورة بالفيديو وهو يعتدي على متظاهرين رافضين للانقلاب العسكري بمسدسٍ يلوح به في الهواء، ويشهره بفخر أمام الكاميرات، وهو يجر متظاهرين غارقين في دمائهم. ومع ذلك لم تتحوّل هذه الجرائم المصورة إلى قضايا يتم التحقيق فيها ونظرها أمام النيابة والمحاكم، بل اعتبرت في عداد البطولات الفردية الثورية في الحرب على رافضي الانقلاب.
يمكنك أن تضيف إلى ذلك أن القاضي محمد ناجي شحاتة الذي أصدر أول حكم بالسجن المؤبد على أحمد دومة في 2015 لم يخف كراهيته الشخصية لثورة يناير ورغبته في الانتقام منها، ومن كل من ينتمي لها، وقد عبر عن ذلك في حوارين منشورين في صحيفتي "المصري اليوم" و"الوطن" في ديسمبر 2015، أعلن فيهما خصومته الشخصية مع أحمد دومة والثوار، حيث يصفهم بأنهم "دعاة الفوضى من أصحاب الاتجاه الشيوعى، والاتجاه الاشتراكى، و6 إبليس، ومش عاوز أقول عليهم 6 أبريل، وكل هذا ناتج عن اعتقاد خاطئ منهم أن هذا تمهيد لإحداث ثورة 25 يناير وهذه أوهام وأحلام".
القاضي الذي لا يخفي تأثره بأنه ضابط سابق في القوات المسلحة يسمي ثورة 25 يناير"ثورة خساير"، وينعت أحمد دومة بأنه "شاب طري ومستهتر"، ويقضي بسجنه ثلاث سنوات إضافية مشفوعة بعبارة "فاكر نفسك في ميدان التحرير"، بتهمة إبداء الدهشة من معاقبته بالسجن المؤبد في محاكمة عبثية.
ذلك كله يعلمه الجميع، غير أن هناك من يشعر بالرضا لرؤية أحمد دومة في "هولوكست العدالة الانتقامية"، والحجة أنه كان مؤيدًا للانقلاب، ومارس كراهية وشماتة ضد مخالفيه، لتتجدّد هستيريا الفرح بضرب الظالمين بالظالمين، ويصير الظلم في لحظةٍ مشبعةٍ بالكراهية المجنونة نوعًا من العدالة.
وأكرّر ما قلته سابقًا أن المسألة هنا تتعلق بقضية محددة: هناك طرفٌ، تختلف معه إلى أقصى درجات الاختلاف، تعرّض لظلم شديد، وانتهكت حريته وغيبت حقوقه باعتباره إنسانا، فهل من الإنسانية والنزاهة في شئ أن ترحب بظلمه وتبتهج للتنكيل به من أولئك الذين نكلوا بك وسوف ينكلون مستقبلا؟
السؤال بصيغة أخرى: لديك جار لقيت على يديه صنوفا من الإساءة والإهانة والشماتة، ثم جاء لص أو قرصان، واعتدى على حياته أمامك، فهل تكون سعيدا وتصفق للقاتل، وأنت تشاهد حياة إنسان تُزهق أمامك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق