نظرات وعبرات
المُطبّعون الجدد: (١) الخبرات المُرَّة؟
محمود عبد الهادي
تناولت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي قبل أسابيع أخبار السياح القادمين من دولة الاحتلال الصهيوني إلى دبي، وهم يسرقون محتويات الغرف في الفنادق التي يقيمون فيها، من مناشف وأغطية وأجهزة تنشيف شعر، وغيرها مما يمكن حمله في الحقائب دون أن يلفت انتباه موظفي الفنادق، وقد غلب على التناول كثير من الدعابة والفكاهة والاستهجان.
وقليل من التوقف والتدبر والفهم لهذه الصورة الممسوخة التي رسمتها هذه السلوكات، حتى بدا الأمر وكأن مواطني دولة الاحتلال الصهيوني فقراء وهمج، ينزلون في فنادق لأول مرة في حياتهم، في حين أن عدد الفنادق عندهم يزيد على 1750 فندقًا، استضافت 12 مليون سائح عام 2019م. هذه الحوادث وأمثالها تأتي لتصرف الناس عن حقيقة ما يدور على الأرض في دول الموجة الثالثة من عملية التطبيع الجديدة.
ما زال هناك عدد من الأسئلة المتعلقة بهذه الموجة من التطبيع لم تطرح، ولم يُجب عنها بعد، وقبل أن نطرح هذه الأسئلة للإجابة، ينبغي التأكيد سلفًا أن هذه الموجة التطبيعية التي لم تكتمل بعد، ستفشل في تحقيق أهدافها على النحو المحدد، وستفشل في خلق الواقع الذي يسعى إليه الكيان الصهيوني في المنطقة العربية ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد، المعلَّق منذ إطلاقه قبل 30 عامًا، ويجري تفعيله حاليًا. وأي نجاحات تحققها هذه الموجة ستصطدم سريعًا بالواقع الصلب الذي تم تجاهله وإسقاطه من حسابات قادتها بعد أن يتأكد لهم من جديد أن هذا الواقع لا يمكن تفتيته.
لماذا يحتفل الكيان الصهيوني سنويًا بتوقيع اتفاقية السلام مع مصر 1979م، في حين تحتفل مصر سنويًا بحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م؟ إنه الاحتفال بالنصر، فمصر تحتفل بانتصارها على الكيان الصهيوني عام 1973م، وهو يحتفل بانتصاره على مصر عام 1979م. ليس على مصر فقط، بل على الأمة العربية كاملة.
لماذا فشل التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني؟
في حواره مع الإذاعة الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016م، بمناسبة مرور 37 عامًا على توقيع اتفاقية السلام بين مصر والكيان الصهيوني، قال "ديفيد جوفرين" سفير الكيان الصهيوني لدى مصر "المصريون لا يهتمون للاحتفال بهذه الذكرى، المصريون يتذكرون فقط حرب أكتوبر/تشرين الأول". وقال "إن مصر تعيش تحديات سياسية واقتصادية كبرى بسبب تداعيات الربيع العربي، وإن المعسكرين القومي والإسلامي يرفضان أي تعاون مع (إسرائيل)". هذه النتيجة الصادمة للكيان الصهيوني تأتي رغم أن نحو 75% من الشعب المصري مولود بعد توقيع اتفاقية السلام، وهو ما جسده بكل وضوح، قبل عامين، تقرير موقع ماسبيرو -الموقع الرسمي للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون المصرية- بمناسبة مرور 40 عامًا على اتفاقية السلام، حين عنونه بعبارة (السلام ما زال بعيدًا بعد 40 عامًا على كامب ديفيد).
فلماذا كانت النتيجة على هذا النحو؟ لماذا يحتفل الكيان الصهيوني سنويًا بتوقيع اتفاقية السلام مع مصر 1979م، في حين تحتفل مصر سنويًا بحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م؟ إنه الاحتفال بالنصر، فمصر تحتفل بانتصارها على الكيان الصهيوني عام 1973م، وهو يحتفل بانتصاره على مصر عام 1979م. ليس على مصر فقط، بل على الأمة العربية كاملة.
وعلى مدار سنوات التطبيع الماضية بين مصر والكيان الصهيوني، وعمليات الاختراق الصهيونية ضد مصر لم تتوقف، مستغلة اتفاقيات السياحة والاقتصاد والتبادل الثقافي، حتى سجلت الأجهزة المصرية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي معدل ألف عملية صهيونية سنويًا ضد مصر، وقد تعددت مجالات هذه العمليات، ونذكر منها ما يأتي:
1. التجسس
في أواخر عهد الرئيس حسني مبارك نشرت صحيفة المصري اليوم في يناير/كانون الثاني 2011م تقريرًا بمناسبة مرور 32 سنة على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني تحت عنوان "32 عامًا على كامب ديفيد ولا يزال التجسس الإسرائيلي على مصر مستمرًا"، استعرضت فيه أبرز عمليات التجسس الصهيونية بعد كامب ديفيد، التي بلغت 30 شبكة حتى نهاية عام 2010م، وشارك فيها 67 جاسوسًا، منهم 25 جاسوسًا صهيونيًا، والبقية مصريون. ومن بين هذه الشبكات كانت شبكة عائلة مصراتي، وهي عائلة يهودية من أصل ليبي، وفيها المدعوة (فائقة مصراتي) التي استغلت جمالها للإيقاع، لتقتنص عددًا كبيرًا من الشبّان المصريين، معظمهم من أبناء المسؤولين البارزين في الدولة، بعد أن تتأكد أن في جعبتهم معلومات مهمة، حتى إنها كانت تقضي لياليها أحيانًا في بيوت بعضهم.
ويذكر في هذا السياق أن الشخصيات كانت تُختار بغرض تجنيدها لحساب جهاز المخابرات الصهيوني "الموساد" بعناية شديدة كلما أمكن ذلك، مثل الجاسوس المصري محمد سيد صابر المهندس بهيئة الطاقة الذرية، وعدد من الأكاديميين المصريين الذين كانوا يعملون في المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة.
2. المخدرات
تذكر المصادر الأمنية المصرية أن عدد قضايا المخدرات المتهم بها (إسرائيليون) في مصر بلغت 4457 قضية حتى عام 2007م.
3. التزوير والتهريب
تذكر المصادر الأمنية المصرية أن عدد قضايا تزوير العملة المتهم بها (إسرائيليون) في مصر تمثل 80% من مجموع القضايا حتى عام 2007م، ولا يقتصر التزوير على العملة، بل كذلك تزوير الوثائق، من بطاقات شخصية وجوازات سفر، وشهادات علمية، فقد كان يتم تهريب أشخاص عبر الحدود إلى داخل الكيان الصهيوني.
4. الدعارة والإيدز
اعترفت فائقة مصراتي أنها أقامت علاقات جنسية مع عدد من الشبان المصريين الذين كانت تنتقيهم بعناية كمصادر مهمة للمعلومات، كما اعترفت أنها مصابة بالإيدز، مما دفع الأجهزة الأمنية المصرية إلى بذل مزيد من الجهود لمعرفة الشباب المصريين الذين أقاموا علاقة جنسية معها، وحالة فائقة مصراتي تذكر على سبيل المثال لا الحصر.
5. أدوية ضارة
وهي من أبرز الاتهامات التي انتشرت في مصر في السنوات الأولى للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بنشر أدوية ذات أضرار فادحة بالصحة العامة.
6. تدمير الزراعة
والحديث في الاختراق الصهيوني للملف الزراعي في مصر يرجع إلى ما قبل ثورة يوليو/تموز 1952م، وبعد كامب ديفيد، إذ تصاعدت حرب الأدوية والبذور الزراعية الصهيونية ضد مصر، بهدف إنهاء اعتمادها على البذور العضوية الطبيعية الموروثة منذ آلاف السنين، والاعتماد على البذور المهجنة التي بحوزة الكيان الصهيوني.
7. التهويد
آلاف الشباب المصريين سافروا إلى الكيان الصهيوني بعد التطبيع بهدف العمل، ولم يرجعوا، فقد استقر بهم المقام، واندمجوا في المجتمع، وتزوجوا من فتيات يهوديات، ولا أحد يعرف غير السلطات الصهيونية عدد المصريين (اليهود) من أبناء وبنات هؤلاء الشباب الذين تجاوزوا الآن 60 عامًا، وبعضهم كان من أبناء مسؤولين كبار في أجهزة مصرية حساسة، حسب ما ورد في جريدة الشروق المصرية مطلع عام 2011م.
هذا النشاط التجسسي والتخريبي الهائل لأجهزة الكيان الصهيوني في مصر ليس خاصًا بمصر، وإن كانت مصر تحتل عندها موقع القلب في دائرة الاستهداف، لكن هذا النشاط صورة مما تقوم به الأجهزة الصهيونية في سائر الدول العربية التي أقامت معها علاقات تطبيع كاملة. ولا يقتصر النشاط التخريبي على ما ذكرنا، فهو غيض من فيض يشمل مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا والمعلومات، مما لا يتسع المجال لاستعراضه في هذا المقال.
وتعقيبًا على ما سلف، نورد بعضًا مما ذكره الكاتب المصري المعروف فاروق جويدة في جريدة الشروق المصرية، مطلع عام 2011م، تحت عنوان "وما زالت إسرائيل تتجسس على مصر"، إذ قال "ما زال الوجه الكئيب البغيض للدولة العبرية يظهر من وقت إلى آخر، رغم الأحاديث الطويلة عن أحلام السلام والمستقبل المضيء الذي ينتظر شعوب المنطقة حين تعود الحقوق إلى أصحابها والأرض إلى أبنائها، ما زال البعض منا غارقًا في سكرة الوهم الذي تصوّر فيه أن الذئب القابع في تل أبيب يمكن أن يكون رسول سلام ومحبة، فرغم اتفاقيات السلام التي وقعتها مصر منذ أكثر من 30 عامًا في كامب ديفيد، ورغم زيارات المسؤولين واللقاءات المتكررة لأصحاب القرار، فإن (إسرائيل) تواجهنا من حين إلى آخر بمؤامرة دنيئة أو شبكة تجسس عميلة أو موقف يكشف عن نوايا عصابة تل أبيب".
لهذه الأسباب وغيرها فشل التطبيع الصهيوني مع مصر، وسيفشل مع المطبّعين الجدد الذين باتوا أكثر حاجة من غيرهم، إلى الاستفادة من هذه الخبرات المُرّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق