الأحد، 21 مارس 2021

عملية فض "قنوات الجماعة"

 عملية فض "قنوات الجماعة"


وائل قنديل

على نحوٍ مباغت، وبسرعة البرق اشتعل الكلام في غابات "السوشيال ميديا".. قالوا إن"قنوات الجماعة" قد أغلقت أبوابها، بفرمان من أردوغان، المقبل على تفاهمات مصلحة مع خصمه الشخصي اللدود عبد الفتاح السيسي.
لم ينتظر أحدٌ لاستطلاع الأمر، أو تدقيق الرواية، إذ كان الكل مشغولين بالتموضع داخل خنادقهم، مفتّشين في الدفاتر القديمة عن المواقف القديمة، على نحو بدا معه وكأن لحظة صيف 2013 لم تمض بعد، وأن أحدًا لم يتعلّم، أو يتغير، خلال ثماني سنوات، هي عمر المأساة.
لقد جاءت لحظة فضّ قنوات الجماعة في اسطنبول. هكذا احتفى الفاشيون المحتفلون بما اعتبروه قرارًا تركيًا بإغلاق القنوات وشحن العاملين فيها، وكل المعارضين في أجولة، إلى مصر، خضوعًا وركوعًا من السلطان أمام عظمة الجنرال.
كانت الاحتفالات صاخبةً، إلى الحد الذي تصوّر معه جمهور هذه القنوات أن الأمر على النحو الذي روّجه جمهور السيسي، فبدأت اللطميات والبكائيات وصرخات الألم.
لم ينتظر كثيرون حتى ينقشع الضباب، فبادروا بإعلان المخبوء من المواقف وردّات الفعل، وكأننا بصدد استعادة للحظة الفض الدامية في أغسطس/ آب 2013. لا جديد، فالراقصون على الجثث في مذبحة رابعة عادوا إلى الرقص على إيقاع التفاهمات بين القاهرة وأنقرة، كما أن اللاعبين على الحبلين في انقلاب 2013 متقافزين برشاقةٍ بين الأسف لإراقة الدماء، مع إدانة الضحايا وتسويغ الانقلاب، والاستسلام للأمر الواقع وتفهمه، ها هم الآن يتفهون دوافع الإجراءات التركية، ويرحبون بالانفتاح بين السيسي وأردوغان، باعتبارها مصلحة قومية وأممية، وفي الوقت ذاته، لا بأس من بعض التعاطف مع هذه القنوات.
لم يهتم أحد بالقضية الأساسية، وهي أن منابر إعلامية مهدّدة بالصمت الإجباري، أو بالحد الأدنى الانصياع لرقابةٍ تفرض عليها التخلي عن ثوابتها ومواقفها، والتحوّل إلى حالة داجنة، تلتقط ما يُرمى لها من حبوب، وتصيح بحسابات دقيقة.
قل ما شئت من ملاحظاتٍ على هذه القنوات. كثيرون يأخذون عليها الوقوع في أخطاء كارثية منذ سنوات، ويرون كثيرا من الشطط في مضمون ما تقدّمه، وفي الأداء أيضًا، غير أنك لا تستطيع أن تنكر أن هناك جمهورًا عريضًا يتابعها، ويرى أنها تعبّر عنه، وتتبنّى وجعه وجرحه وأحلامه.
بها بعض شطط مهني؟ نعم، مثلها إعلام آخر يتوغد ويتوحش وينهش في خصومه نهشًا، غير أن ذلك كله لا يبرّر أن يحتفل بعضهم بذبحها وإغلاقها، ويبرّر البطش بها. وتزداد الدهشة عندما تجد من بين المحتفلين، شماتة وغلًا، من ذاقوا مرارة السكوت الإجباري، والإقصاء والإبعاد، على يد الطغيان نفسه.
منذ الانقلاب العسكري في مصر 2013، والإعلام ينزف، ويدفع أثمانًا باهظة من مهنيته، سواء كان معارضًا للانقلاب، أو مؤيدًا له، فالذي جرى حفر قنوات من الاستقطاب العميق، امتدّت آثاره من النوافذ والمنابر المحلية، حتى طاولت وسائل إعلام دولية كان بعضها مضرب المثل في الموضوعية والحرص على المهنية.
في هذا المناخ المشبع بأبخرة المواقف الحدّية المطلقة، سقط الإعلام تحت سنابك الإقصاء والإنكار، فالجرح كان غائرًا وعميقًا، فجاءت الصرخات والصيحات في علاقة تناسبٍ طرديٍّ مع هذا العمق.
إعلام القتلة يصيح في هستيريا، طوال الوقت، مطالبًا بمزيد من الدم، ومحرضًا على مزيد من الاستئصال والذبح للضحايا، حد الإدمان، فتحول مع الوقت إلى حالة ذئبية، تجد تأصيلًا فلسفيًا لها عند أفلاطون، تناوله كتاب"الطاغية" للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، شارحًا مفهوم الطاغية/ الذئب، بقوله إن أفلاطون يعتمد في تحوّل الطاغية إلى ذئبٍ على أسطورة يونانية تقول "إن المرء إذا ما ذاق قطعةً من لحـم الإنـسـان ممتزجةً بلحم قرابين مقدّسة أخرى، فإنه يتحوّل حتمًا إلى ذئب".  
لحم الإنسان، مع دمه وسمعته، كان على موائد ذلك النوع من إعلام الطغيان منذ 2013، ممزوجًا بقرابين الوطنية الفاسدة، المقدسة. وفي الضفة الأخرى، كان الإعلام المضاد في بداياته يغترف من دماء الضحايا/ الشهداء، وجراح المظلومين المستباحين في دمائهم وأعراضهم وممتلكاتهم، كان صارخًا هو الآخر ومنتحبًا على قدر عمق الجرح، وخسة الطعنة ووحشيتها. وفي المحصلة، صار كلا الإعلامين صدىً للآخر، وشيئًا فشيئًا صارت المادّة الأساسية هي الرد هنا على ما يقال هناك، لتنشأ ثنائياتٌ ممتدّة طوليًا ورأسيًا، تعصف بكل محاولةٍ للبحث عن طفلة جميلة ضائعة اسمها "الموضوعية".
بالطبع، لا يمكن وضع الاثنين في كفّة واحدة، أو اعتبارهما، من الناحيتين، الإنسانية والأخلاقية، وجهين لعملة واحدة، حيث لا يستوي إعلامٌ يصرخ من عمق ألم الضحية مع إعلامٍ يصيح من قمة إجرام القتلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق