نظرات وعبرات المُطبّعون الجدد: (٣) اختبار النموذج الإبراهيمي الكامل
محمود عبد الهادي
رغم تباين دوافع وأسباب الدول العربية المشتركة في الموجة الثالثة من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فإنها تتفق جميعها في التزام الانتظام في "الإبراهيمية الجديدة" التي سترافق إطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد، من جديد.
مهما اختلفت دوافع الدول الموقّعة على "اتفاقيات إبراهيم"، فإنها تتشابه في كونها جزءًا من المشروع الجديد الذي يجري العمل على إطلاقه في المنطقة العربية، والذي سيكون للكيان الصهيوني فيه دور محوري باعتباره شريكًا إستراتيجيًا: سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وثقافيًا.
تباينت الأسباب والحاضنة واحدة
4 دول عربية وقّعت على "اتفاقيات إبراهيم" مع الكيان الصهيوني، في أقل من 6 أشهر، في الفترة ما بين أغسطس/آب ويناير/كانون الثاني الماضيين، بدأت بالإمارات والبحرين ثم تلاهما المغرب، وتبعه السودان.
أما السودان، فمنذ عزل الرئيس عمر البشير قبل عامين؛ وهو يمرّ بمرحلة انتقالية بالغة التعقيد والفوضى والعوز، لا يستطيع أحد أن يتكهّن بموعد نهايتها، وهو يظن أن الخلاص من كل ما يمرّ به يكمن في رفع الولايات المتحدة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأنه فور حدوث ذلك، سوف تتدفق الأموال والمشروعات والمعدّات على السودان، وتُفتح أبواب الاستيراد والتصدير، وينتعش الاقتصاد، وتتدفق الاستثمارات، وترتفع قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، وتنطلق التنمية في ربوع الوطن بفضل الوعود بالمساعدات السخيّة، وتتحسن حياة المواطنين، وتُحلّ جميع مشكلاتهم وتُلبّى جميع مطالبهم، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث، حتى يستوفي السودان الشروط اللازمة للانضمام إلى المعسكر الأميركي، وعلى رأسها:
- محاربة "التطرف والإرهاب" حسب التعريف الأميركي.
- تسديد فاتورة التعاون أو التسهيلات التي قدمها السودان للأنشطة الإرهابية حسب رؤية الإدارة الأميركية.
- تبنّي "الإسلام الوسطي" المتصالح مع القيم الغربية والمنسلخ عن الهوية الوطنية.
- التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، والتوقيع على "اتفاقيات إبراهيم".
- التخلي عن أي مشروعات وطنية إستراتيجية في المجالات كافة.
- السماح بقواعد عسكرية أميركية برًّا وبحرًا.
- تقديم تسهيلات للولايات المتحدة في التنقيب عن ثروات السودان.
- تقديم امتيازات للشركات الأميركية في المشروعات التنموية المفترضة مستقبلًا.
- التعاون الكامل مع حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
ورغم ما يبديه قادة السودان الحاليين من تفهم كبير للمطالب الأميركية، ويتسابقون إلى تنفيذها، واحدًا تلو الآخر، حتى مع دفع "الإتاوات السياسية" الظالمة المتمثلة في مبلغ 300 مليون دولار قدمتها الحكومة السودانية للإدارة الأميركية تعويضًا لضحايا تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في تسعينيات القرن الماضي، دون وجه حق، ورغم هذا التعاون غير المسبوق مع الولايات المتحدة، فإن العصا ما زالت فوق رأس السودان، وما زالت قائمة المطالب الأميركية طويلة.
وأما المغرب، فهو حليف قديم للولايات المتحدة الأميركية، وعلاقته وثيقة مع الكيان الصهيوني منذ الملك الحسن الثاني في مجالات متعددة، حتى دون توقيع اتفاقية سلام بينهما، كما أن قضية ضمّ الصحراء الغربية للمغرب قضية قائمة منذ عشرات السنين، ولم تعترف الولايات المتحدة بتبعيتها للمغرب طوال هذه السنوات، وظلت هذه القضية مصدر قلق للمغرب، ومصدر تنازع وتوتر بينها وبين جارتها الجزائر. ومن أجل تشجيع المغرب على دعم خطة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وزيادة حظوظه في الفوز بالانتخابات الرئاسية، قدمت إدارة ترامب للمغرب الثمن باعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل الانتظام في المشروع الإبراهيمي وتوقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني. وقد تجاوب المغرب مع هذه الخطة، حرصًا منه على اعتراف الولايات المتحدة بتبعية الصحراء الغربية للمغرب، ورغم أن هذا الاعتراف أحادي، ولا يلزم مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، فإنه يوفر للمغرب الدعم السياسي والأمني والعسكري اللازم لبسط سيطرته على الصحراء، وفرض الأمر الواقع على الجزائر وجبهة البوليساريو.
وأما البحرين، البوابة الغربية للسعودية، فهي أيضًا دولة حليفة للولايات المتحدة، وتربطها علاقات غير رسمية مع الكيان الصهيوني، وتعاني توترات سياسية داخلية مع المكوّن الشيعي، وخارجية مع إيران، كما تعاني من منافسة اقتصادية وسياحية إقليمية حادّة أثّرت في دخل الدولة ومستوى التدفقات الاستثمارية الآتية إليها، فضلًا عن ذلك فإن البحرين ليست دولة مؤثرة خليجيًا وإقليميًا سياسيًا واقتصاديًا، ومن غير الواضح الدوافع والأسباب التي جعلت البحرين تقدم على توقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني، عدا عن استجابتها لطلب الولايات المتحدة، لكننا إذا أخذنا في الاعتبار أن البحرين محسوبة قلبًا وقالبًا على السعودية، ولا تستطيع القيام بهذه الخطوة دون موافقتها، وإذا أخذنا في الاعتبار كذلك أن البحرين تعدّ البوابة الخلفية للجمهور السعودي، فإن من المحتمل أن يكون توقيع البحرين على "اتفاقيات إبراهيم" بمنزلة ساحة اختبار للشعب السعودي، وامتصاص مبكر لردّة فعله المتوقعة على قيام دولته بالتوقيع على الاتفاقية في وقت لاحق.
إضافة إلى هذه الدوافع، فإن جميع الدول التي وقّعت -أو ستوقع لاحقًا- على "اتفاقيات إبراهيم" لديها دافع مشترك، هو طمع كل منها في أن تسبق غيرها في الحصول على نصيب من كعكة الوعود الاقتصادية والتنموية الهائلة التي أعدّها مهندسو الشرق الأوسط الجديد، ومصمّمو المشروع الإبراهيمي.
النموذج الكامل الأول من نوعه
أما دولة الإمارات، فهي تشهد استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا منقطع النظير، ولا تعاني شيئًا مما تعاني منه دول عربية أخرى في هذه الأصعدة، فضلًا عن أنها حليف إستراتيجي للولايات المتحدة، وتقيم علاقات سرّية تجارية وأمنية غير رسمية مع الكيان الصهيوني منذ نحو 25 عامًا، وأما خلافها مع إيران بشأن جزر موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، فهو خلاف يدور داخل الأطر الدبلوماسية، ولم يؤثر في العلاقات السياسية والتجارية بين البلدين، ومن المستبعد جدًا أن يكون سببًا لمغامرة عسكرية ضد إيران، ستكون فيها الإمارات الخاسر الأكبر.
لقد تخطّت دوافع دولة الإمارات من التوقيع على "اتفاقيات إبراهيم"، دوافع بقية الدول العربية، فالمتابع لما قامت به الإمارات بعد توقيعها على "اتفاقيات إبراهيم" منتصف أغسطس/آب الماضي، يجد أنها انطلقت بخطى جادّة ومتسارعة و(مخلصة) -ولأول مرة في تاريخ العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني- ليس من أجل إنهاء العداء وإحلال السلام وتعزيز الاستقرار وتبادل المصالح، بقدر ما هو من أجل تقديم النموذج المبدئي الكامل (Prototype) للشكل الذي ستكون عليه العلاقة بين الدول العربية والكيان الصهيوني في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وذلك من ناحيتين:
- نموذج تطبيق المشروع الإبراهيمي، فكرًا وممارسة.
- نموذج العلاقة الطبيعية الكاملة بين الإمارات والكيان الصهيوني.
وقد تم تأكيد هذين الجانبين بوضوح في الاتفاقية التفصيلية التي تم التوقيع عليها بين الإمارات والكيان الصهيوني في واشنطن، منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أي بعد شهر واحد فقط من توقيع "اتفاقيات إبراهيم"، إذ ورد في الاتفاقية ما يأتي:
"الاعتراف بأن الشعبين العربي واليهودي ينحدران من سلف مشترك هو إبراهيم، وقد ألهموا بهذه الروح تعزيز واقع الشرق الأوسط الذي يعيش فيه المسلمون واليهود والمسيحيون، والشعوب من جميع الأديان والطوائف والمعتقدات والقوميات. ويلتزمون بروح التعايش والتفاهم والاحترام المتبادل".
وفي ما يخص إقامة علاقة طبيعية كاملة بين البلدين، ورد في الاتفاقية ما يأتي:
1. إقامة السلام والعلاقات الدبلوماسية والتطبيع الكامل.
2. احترام سيادة كل منهما وحقه في العيش بسلام وأمن، وحلّ الخلافات بالوسائل السلمية.
3. إنشاء السفارات وتبادل السفراء المقيمين في أقرب وقت.
4. التفاهم والتعاون والتنسيق بين الدولتين في مجالات السلام والاستقرار ومحاربة الإرهاب.
5. إبرام اتفاقيات ثنائية في المجالات التالية في أقرب وقت ممكن عمليًا:
التمويل والاستثمار | الطيران المدني | التأشيرات والخدمات القنصلية | الابتكار والعلاقات التجارية والاقتصادية | الرعاية الصحية | العلوم والتكنولوجيا والاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي | السياحة والثقافة والرياضة | الطاقة | البيئة | التعليم | الترتيبات البحرية | الاتصالات السلكية واللاسلكية والبريد | الزراعة والأمن الغذائي | الماء | التعاون القانوني.
6. تعزيز التفاهم المتبادل والاحترام والتعايش وثقافة السلام بين الطرفين بروح سلفهما المشترك إبراهيم، وبداية عهد جديد من السلام والعلاقات الودّية، عن طريق تنمية البرامج بين الشعوب والحوار بين الأديان والتبادلات الثقافية والأكاديمية والشبابية والعلمية وغيرها بين شعوبها. والعمل معًا لمواجهة التطرف الذي يحضّ على الكراهية والانقسام والإرهاب، ومكافحة التحريض والتمييز. وسيعمل الطرفان من أجل إنشاء منتدى مشترك رفيع المستوى للسلام والتعايش مكرّس للنهوض بهذه الأهداف.
7. الانضمام إلى الولايات المتحدة لتطوير وإطلاق "أجندة إستراتيجية للشرق الأوسط" من أجل توسيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاستقرار الإقليمي وغيرها.
ولم تلبث بنود هذه الاتفاقية أن انطلقت في المجالات الواردة كافة، وباندفاع منقطع النظير من الطرف الإماراتي، فاق كل التوقعات الأميركية والصهيونية، فضلًا عن العربية، الرسمية والشعبية، هذا الدور الذي تقوم به الإمارات في تقديم النموذج الكامل؛ يجعل منها شريكًا أساسيًا في المشروع الوافد إلى الشرق الأوسط.
وهذا يعيدنا إلى الأمر الجوهري الذي ينبغي تأكيده مرة أخرى، وهو أن موجة التطبيع الجديدة ليست موجة عادية، وأنه مهما اختلفت دوافع الدول المشتركة فيها، فإنها تتشابه في كونها جزءًا من المشروع الجديد الذي يجري العمل على إطلاقه في المنطقة العربية، والذي سيكون للكيان الصهيوني فيه دور محوري باعتباره شريكًا إستراتيجيًا؛ سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وثقافيًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق