السبت، 13 مارس 2021

المُتَلَوِّنون.. الانتهازيون

 المُتَلَوِّنون.. الانتهازيون

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


المُتَلَوِّنون.. الانتهازيون،،، أرجع بعض مؤرخي صدر الإسلام بداية الضعف في أمر المسلمين إلى أولئك المتلونين الانتهازيين، فقد رصدوا -كما عند الطبري- حدوث ذلك حين سمح عثمان بن عفان لكبار الصحابة بالخروج من المدينة إن شاءوا! وهم يستندون في هذا إلى ما ورد عن عمر، وهذا -لو صحَّ عنه- فإنه بصيرة عجيبة نافذة!

مختصر هذه القصة أن عمر بن الخطاب كان واسع الاستشارة، حتى إن حديث الطاعون المشهور، يُشْعِر أنه كان  يقسِّم أهل شوراه إلى ثلاث مجالس: كبار المهاجرين، كبار الأنصار، مشيخة قريش من مسلمة الفتح.

ومن هنا كان عمر لا يسمح لكبار الصحابة بالخروج من المدينة، احتياجا لهم في الشورى، ويُستفاد من بعض الروايات أنه كان يخشى إذا خرج كبار الصحابة من المدينة أن يَتَكوَّن حولهم في الأمصار ما يُشبه أن يكون مراكز قُوى.

ولأن هذا القرار هو من عمل السياسة والنظر، وليس حكما شرعيا، فقد كانت سياسة عثمان تختلف عن سياسة عمر، ورأى أن يسمح لمن أراد من كبار الصحابة بالخروج من المدينة أن يخرج، وهم لم يخرجوا منها إلا نشرا للعلم أو مشاركة في الفتوحات.. فالأمر من وجهة نظرٍ أخرى فيه فائدة تعليم المسلمين ونشر الدين.

وقد نشروا الدين حقا، وعلَّموا المسلمين حقا، ولكن حصل مع ذلك أمر آخر..

ذكر الطبري أن كبار الصحابة حين خرجوا ورآهم الناس، قصد إليهم من لم يتشبع بالإسلام ولم تكن له مزية ولا مكانة ولا إنجاز، يريد بذلك أن يضع نفسه في ظلهم ويستفيد من مكانتهم، ولعل الحُكْمَ أن يصل إليهم يوما، فينتفعون بذلك.

يقول: “فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع اليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموما في الناس، وصاروا أوزاعا إليهم، وأملوهم وتقدموا في ذلك، فقالوا: «يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقرب والانقطاع إليهم». فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة”.

تأمل في عبارة: فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة.

لقد كان أول الضعف إذن من أولئك الوصوليين، أولئك الذين يعرفون كيف يلتصقون بأهل العلم والفضل والسابقة، فيستطيعون أن يصعدوا على أكتافهم، أو يرثوا المنافع والمصالح من ورائهم.

أولئك الناس وُهِبوا هذه الحساسية التي يستشرفون بها المآلات، فيستطيعون وضع أنفسهم في اتجاه الريح، وتحت ظلّ الزعماء الحقيقيين أو تحت ظلّ من ستحتاج إليهم الأحداث قريبا.

وغالبا ما تترافق هذه الموهبة مع موهبة أخرى، تسمى القدرة على القفز من المركب في الوقت المناسب، أو تغيير لون الجلد، وهي بمعنى الانقلاب على المبادئ والتنقل السريع بين الخصوم والجبهات.

ونحن في زمن الثورات والانقلابات نجد هؤلاء أمام وجوهنا في كافة الجبهات، حتى وجود اليوتيوب وصفحات التواصل الاجتماعي التي تفضح وتسجل تلون المواقف وتقلبها لم تحدّ من هذه الظاهرة، ولم تعرقل تقدمهم، فالمسألة متعلقة بالقدرة على البرود والجَلَد والتبلد.

ولهذا قيل: الثورات يقوم بها المخلصون ويديرها العمليون ويحصد ثمرتها الانتهازيون.

ولهذا انظر: كم واحدا ممن تعرضوا للموت في الثورات وفي مقاومة الطغاة يحصد الآن ثمرة جهده؟ ثم انظر: كم واحدا ممن نقلتهم الثورات من الفقر إلى الغنى ومن الغمر إلى الشهرة كان متعرضا فيما مضى لغضب السلطة وسخط الأنظمة؟!

إنه بقدر ما تقوم الحركات على أكتاف الأوفياء المخلصين الأفذاذ النادرين، بقدر ما تنهار حين يتسرب إليها -بعد استواء عودها- أهل المصالح والمكاسب، فعلى يد أولئك تكون بدايتها، وعلى يد أولئك يكون انهيارها.

وإنه لدرس بليغ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق