الاثنين، 22 مارس 2021

حديث المصالحة!

 حديث المصالحة!

سليم عزوز

عندما التقى رئيس الحكومة التركية نجم الدين أربكان بالرئيس المصري بالقاهرة، كانت السجون المصرية تستضيف عدداً من المعتقلين الإخوان، في قضية "سلسبيل" الشهيرة، وعليه فقد طلب من الرئيس مبارك الإفراج عنهم، ليكون الرد، الذي نقل لي حينئذ: وأنت مالك؟ وإن كان وزير الخارجية في هذه الحقبة عمرو موسى ذكر رداً مختلفاً في مذكراته وهو أن مبارك قال له: خدهم عندك، نحن لا نريد الإخوان!

ومهما قال مبارك، وربما قال الرد الأول واستدرك بالثاني، لكنه يعد رداً قاسياً، يفتقد للدبلوماسية، ومسكوناً بـ"الجلافة"، لعل ما دفع مبارك له هو أن وضع أربكان في رئاسة الحكومة لم يكن مستقراً، فبدلاً من أن يهتم بالشرح والتفسير وهو يخاطب ضيفه، ليكون أكثر لباقة، ترك حرية التصرف للسانه، والذي كان في هذه الحالة كاشفاً عن افتقاده للحصافة السياسية.

ولعل هذا الرد كان درساً بليغاً لتلاميذ أربكان الذين تولوا الحكم بعد ذلك، وزار مبارك تركيا في عهدهم وعهده ثلاث مرات، ووقع معهم اتفاقية للتجارة. وإذا كان فتور في العلاقة بينه وبين أردوغان، فقد كان يرتاح للرئيس عبد الله غول، فلم يُروَ عن تلاميذ أربكان أنهم طالبوه بشيء مما طالب به، لا سيما وأن هذه الفترة كانت هي الأكثر حدة في تعامل نظام مبارك مع جماعة الإخوان المسلمين.

وربما كان القوم في تركيا لم يتمكنوا بعد وكانوا حريصين على أن يضعوا مسافة بينهم وبين تنظيم الإخوان الذي يمثله "حزب السعادة"، حزبهم السابق ومنافسهم الحالي، لكن الأوضاع اختلفت الآن، فالتمكين قد حدث، وأردوغان هو من يحكم ويدير بعيداً عن دبلوماسية إخوانه في السابق، ثم إنه تفاعل مع قضية المعتقلين بعد الثورة، حد البكاء مع شهيدة رابعة، أسماء البلتاجي، وقد اهتم بشكل شخصي بأسرتها عندما هاجرت لتركيا، وربما رعاه أن الأسرة كريمة فلم تكن لها "طلبات"، ورب هذه الأسرة وعائلها وأحد أبنائها في السجون، ثم إن أردوغان ليس هو أربكان، والسيسي ليس هو مبارك!

السياسة التركية علمتنا أن المواقف الحاسمة هي وليدة اللحظة، وأن كل شيء قابل للتفاوض، ولو اعتمدنا هذه التصريحات كقاعدة لاتجاه الريح، لقلنا إن التقارب التركي المصري هو من أحلام اليقظة


معضلة محمد بن زايد:

أن يكون اللقاء بين أردوغان والسيسي فهذا أمر سابق لأوانه، ورغم تصريحات تركية تفيد بأن هذا اللقاء لن يحدث أبداً، إلا أن السياسة التركية علمتنا أن المواقف الحاسمة هي وليدة اللحظة، وأن كل شيء قابل للتفاوض، ولو اعتمدنا هذه التصريحات كقاعدة لاتجاه الريح، لقلنا إن التقارب التركي المصري هو من أحلام اليقظة، وإذا قيل من قبل ما حدث مؤخراً من طلب من قنوات المعارضة المصرية في تركيا التوقف عن الهجوم على النظام المصري، لقلنا أضغاث أحلام!

من المقدر أن تبدأ العلاقات على مستوى الحكومة في البلدين، وستكون هناك لقاءات معلنة لرئيس المخابرات عباس كامل، ووزيري الخارجية، قد تكتمل بلقاء يجمع بين رئيسي الحكومة في كلا البلدين، لكن عندما يجد السيسي نفسه مصافحاً لأردوغان، فسوف يكونا قد قطعا نصف المسافة في عملية التقارب، والتي ستظل أبداً متوقفة على قدرة محمد بن زايد على تغيير المعادلة، وابتلاع ريقه والعودة إلى نفوذه السابق في عهد ترامب، أو بعيداً عن دائرة تربص البيت الأبيض به كما كان الحال في عهد أوباما.



إذا أقيمت علاقة حقيقية بين القاهرة وأنقرة، فإن لدى الجانب التركي مخططه الكبير في الاستثمار الجاد، وليس الاستثمار الطفيلي الذي تتبناه الإمارات


فعندما يسترد "الفاعل" السابق في المنطقة لياقته، فلن يوافق على انحراف السيسي عن المسار. وقد كانت رسالته للرئيس محمد مرسي أن مصر هي المجال الحيوي للاستثمار الإماراتي ولن نقبل بدخول قطر عليه. وإذا أقيمت علاقة حقيقية بين القاهرة وأنقرة، فإن لدى الجانب التركي مخططه الكبير في الاستثمار الجاد، وليس الاستثمار الطفيلي الذي تتبناه الإمارات.

فهذا التقارب التركي المصري، ولو في مرحلة اختبار حسن النوايا، لم يكن ليكون أبداً في الحالة الطبيعية لمحمد بن زايد، إذا تمكن ترامب من الفوز بولاية ثانية، لكنه الآن مستهدف من الإدارة الجديدة، وأي حضور له قد تكون عواقبه وخيمة عليه، لذا فانه يلتزم بالكمون، متفرجاً على ما يجري، لعله يجد ثغرة في هذا الجدار الصلب، وهو ما وجده أردوغان فرصة سانحة لأخذ السيسي بعيداً عن هذه الوصاية الإماراتية، وقائد الانقلاب العسكري في مصر هو "صيدة" سهلة لأي صياد ماهر!

فالسيسي مطالبه لا تتجاوز أمنه الخاص، وليست لديه مطالب متعلقة بالوطن وأمنه القومي، بل إنه يمكن أن يبدد كل هذا من أجل أمنه هو والذي لن يتأتى إلا باستمراره في الحكم، ولو كان الثمن هو أن يفرط في الغالي والنفيس!


السيسي مطالبه لا تتجاوز أمنه الخاص، وليست لديه مطالب متعلقة بالوطن وأمنه القومي، بل إنه يمكن أن يبدد كل هذا من أجل أمنه هو والذي لن يتأتى إلا باستمراره في الحكم


وقد رأينا كيف أنه فرط في التراب الوطني "تيران وصنافير"، لتثبيت أركان ولي العهد السعودي، واستمرار التبني السعودي له، بعد أن فقد الأب العائل للانقلاب، الملك عبد الله بن عبد العزيز. وله في هذا التفريط مآرب أخرى؛ فقد قام بتأمين أمن إسرائيل به، وقد أخبره توفيق عكاشة بعد الانقلاب بأن الوصول إلى البيت الأبيض يكون عبر البوابة الإسرائيلية، فاعتمد النصيحة وعمل بها!

ثم أقدم على التفريط في مياه النيل، بتوقيعه اتفاقية المبادئ الجائرة، والتي مثلت موافقة مصر كتابة على بناء السد بدون قيد أو شرط، ودون ضمان وصول قطرة مياه واحدة لمصر، وذلك للاعتراف الأفريقي بشرعيته، وكان الاتحاد الأفريقي قد رفض الاعتراف بالانقلاب في البداية.. أيضاً لتقديم "عربون محبة" لإسرائيل، عندما تلوح في الأفق إمكانية وصول المياه إليها، مقابل الوساطة لدى إثيوبيا. ثم إن تعطيش مصر، الصاحب بالجنب، هو خدمة للأمن القومي الإسرائيلي!

كما رأينا كيف قاد عمليات هدم وتهجير للمناطق القريبة من الحدود مع إسرائيل في سيناء، وقالها صريحة إن من مهامه الوظيفية حماية أمن إسرائيل!

فرصة أردوغان:

أعرف أن الأوضاع اختلفت الآن في العلاقة من القيادة الإسرائيلية في حال استمرار نتنياهو على رأس الحكومة ، مع حرص القيادة الأمريكية الجديدة على العودة إلى خطوط ما قبل ترامب في قضية الاحتلال. وقد فقد رأس الحكومة في إسرائيل نفوذه على البيت الأبيض، وصار يحتاج هو لكفيل يقربه للرئيس الجديد زلفى. ومع هذا التفريط في مرحلة نفوذه، هو الآن أفشل من أن يعوم نفسه، فضلاً عن تعويم محمد بن زايد، الذي أسرف في التطبيع حتى بدا الآن أنه تضحية بلا ثمن!

اعتبرها أردوغان فرصته التاريخية للتقارب معه والأخذ بيده وتعويمه، والثمن بخس كما تبين، وهو ترشيد خطاب قنوات المعارضة في تركيا، أو بالعربي الفصيح وقف استهدافه واستهداف حكومته وأركان حكمه وسياساته


ولأنه حاكم لديه هذه القدرة على التفريط الكبير، فقد اعتبرها أردوغان فرصته التاريخية للتقارب معه والأخذ بيده وتعويمه، والثمن بخس كما تبين، وهو ترشيد خطاب قنوات المعارضة في تركيا، أو بالعربي الفصيح وقف استهدافه واستهداف حكومته وأركان حكمه وسياساته، فماذا لو كان الثمن هو إغلاق هذه القنوات بالضبة والمفتاح؟!

فهل يمكن أن تكون علاقة بين بلدين كبيرين مثل تركيا ومصر، وبعد قطيعة طويلة، تدور حول أداء قنوات تلفزيونية، ووقف هذا المذيع أو ذاك؟ لكنه السيسي المشغول باهتمامه بأمنه، وهذه القنوات تضعف موقفه في الشارع، وهو الموقف الضعيف أصلا.

لقد استشعر القوم في القاهرة الحرج عندما تبين أن موقفهم من القنوات التلفزيونية يؤكد قوتها من ناحية وضعفهم من ناحية أخرى، فقالوا عبر عمرو أديب، المتحدث الرسمي، إن قنوات تركيا هي "تفصيلة بسيطة" للتفرغ لما هو أهم!

وما هو هذا الأهم؟ قال ملفات كثيرة، ثم حدد ملفا واحداً وهو ملف غاز المتوسط. وكأن هذا ما يشغلهم فعلاً، وكأن السيسي نفسه لم يضر بمصالح مصر بالتوقيع مع اليونان على "اتفاق النكاية" و"كيد النساء"، وهو وإن أضر بمصالح تركيا فقد أضر بالأمن القومي المصري، وبالتقارب فإن تركيا هي المستفيدة، وبإطلاق أول تصريحات عن المصالحة، هرولت اليونان في اتجاه تركيا، لتحقق أنقرة بذلك مهمة قومية لها، بأخذها بعيداً عن دوائر الهيمنة المصرية!

وبالتقارب مع مصر، فإن تركيا تكون قد حاصرت النفوذ الإيراني في العالم العربي، وبين البلدين تنافس قديم على المنطقة!

هذا فضلاً عن أن القاهرة بدأت كحديقة خلفية لمخطط الإمارات باستهداف تركيا، من خلال الإعلام الإماراتي الموجه الذي ينطلق من مصر، فضلا عن التعاون مع المعارضة التركية استعداداً للانتخابات القادمة، والتي لن يكون فيها موقف أردوغان قوياً كما المرات السابقة، بعد منافسة "إخوة يوسف" ومن أنصار نفس التوجه!

وإذ أخذت المعارضة التركية على أردوغان القطيعة مع مصر، مع أهمية العلاقات معها، والإضرار بالمصالح التركية، منطلقاً من أزمة الإخوان، فقد حرق الأرض تحت الاقدام بهذا التقارب، لنصل إلى بيت القصيد: ماذا عن المصالحة بين السلطة الحاكمة في مصر والإخوان؟!

آفاق المصالحة مع الإخوان:

المتفائلون بالمصالحة يجهلون أمراً مهماً، وهو أن السلطة المصرية كونت ثقافة خاصة بها في التعامل مع الإخوان، تنتهي بضرورة طي ملفهم بعد سنوات من التعامل المباشر، وأن تنازل الإخوان عن الحكم، وإبداء الرغبة في عدم خوض الانتخابات السياسية أو المنافسة في أي منتدى نقابي أو خيري، لن يكون سبباً في طمأنة أهل الحكم بعد كل هذه الخبرة. وما حدث في انتخابات 2010 هو القاعدة التي اعتمدها نظام مبارك واعتمدها السيسي في حكمه؛ أنه لا أمان للإخوان ولا ثقة في أي وعود في مرحلة الاستضعاف، وأنهم يستغلون الكمون في انتظار الفرصة. وفي دوائر الأمن الذي يتعامل مع الجماعة؛ لديهم قاعدة أن الإخواني تعطيه يدك يطمع في التهام ذراعك!

المصالحة بمعناها المعروف لن تحدث، لكن قد يتم اعتماد سياسة أمنية قائمة بالفعل؛ فليس كل الإخوان في السجون، فهناك قيادات خارجها بينهم وبين الأمن تفاهمات؛ لا يمنع من إخلال الأمن بها واعتقال من هم في حالة سكون وبدون ذنب


ولست هنا في معرض تقييم هذه الثقافة، ووجه الصواب والخطأ فيها، لكن هذه قناعة القوم. ومن هنا فإن المصالحة بمعناها المعروف لن تحدث، لكن قد يتم اعتماد سياسة أمنية قائمة بالفعل؛ فليس كل الإخوان في السجون، فهناك قيادات خارجها بينهم وبين الأمن تفاهمات؛ لا يمنع من إخلال الأمن بها واعتقال من هم في حالة سكون وبدون ذنب!

ولأن أردوغان ليس هو أربكان، ولأن السيسي ليس هو مبارك، ففي تصوري أن الرئيس التركي سيكون مهتماً بالمصالحة، لكنه لن يقف عندها كثيراً إذا وجد استحالة هذا، وسينتقل إلى ملف المعتقلين، لا سيما من الرموز الذين يعرفهم، وذلك لأسباب خاصة به، حيث تعاطفه الشخصي معهم ومع بعض الأسماء البارزة منهم. أيضاً يدرك أن صورته قد خدشت بهذا التقارب لدى قطاع كبير من مؤيديه في العالم العربي، ولا بد من تكون هناك إنجازات في هذا الملف، تؤكد أنه لم يبع بالرخيص.

الأمر يتوقف على غياب محمد بن زايد!

twitter.com/selimazouz1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق