رسالة جندي متأخرة
كلمة بعد النقطة
أنوار التنيب
أبي العزيز... بعد التحية
اعذرني... لم أود أن أضع العائلة في هذا الموقف المحرج، إذ تركتكم يوم حفل زفاف أختي من دون أن أبارك لها زواجها، وحزمت حقيبتي مغادراً من دون تذكرة للعودة.
سامحني أرجوك يا أبي... هذا فعل غير منطقي قمت به اليوم، لم أكن قد خطّطت له سابقاً، وإن كانت تعتريني منذ فترة أفكاراً سوداوية حاولت جاهداً التغلّب عليها.
منذ فترة وأنا أريد أن أفصح لك عما في قلبي، وشعور بالذنب يلازمني منذ عدّت من الحرب، أعلم أنك تلاحظ غضبي من أبسط الأشياء، ولكنّك لم تسألني عن السبب وكأنك تعرف الإجابة، لأنك كنت أول من دفعني إلى الالتحاق بالجيش والسفر إلى تلك الدولة البائسة، للدفاع عن الحق وعودة الشرعية الدولية ونشر السلام، وكنت متحمساً كأي شابّ يحلم بحمل علم بلاده على كتفه، ولكنني ومنذ وطئت قدماي ذلك البلد الفقير المعدم، وأنا أخجل من كل شعور بالكبرياء خالجني، وكنت كلما أنشدت مع الجنود السلام الوطني، أتمعّن بكلمات كتبت بعناية عن الخير والسلام والمحبة، ولكنني لم أجدهم في ما نفعله مع هؤلاء الناس العزّل، وقد ملأنا السجون بهم، وأتساءل لماذا نحن هنا؟
لقد قتلنا كل شاب يحمل سلاحاً يدافع به عن بلده، حتى كبار السّن لم يسلموا من رصاصاتنا، وأذكر ذلك الرجل المسنّ الذي كان يقف أمام منزله وطلبنا منه الدخول بحجة حظر التجوال، وعندما رفض صبّ زميلي عليه الرصاص وتركه مضرجاً بدمه وعندما عارضت فعله قال: لا عليك... هؤلاء المسنون هم الرأس المدبر ويحثون الشباب على قتلنا.
لم يشعر بتأنيب الضمير، وهو يسمع ابنه يصرخ «أبي... أبي»، بل أشعل سيجارته وقال: هيا لنبحث عن آخر !
لم أكن أعرف يا أبي أن الإنسانية تمحى من الإنسان إلا في الحرب، هذه الحرب يا أبي كانت مجرد خدعة لقد أوهموكم بأننا حققنا السلام المنشود، ولكننا لا نتردّد عن قصف منزل بمجرد الشك أن من يسكنه من أفراد المقاومة الوطنية، هذه الحرب كانت غير متكافئة، قنابل ورشاشات ومواد سامة وقاتلة، أمام بنادق وأسلحة بسيطة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يموت أحدنا بقنبلة بدائية زرعها أحدهم للنيل منا.
جراح الحروب يا أبي لا تندمل، كيف ستنسى الشعوب ما قاست؟ ما دمرناه بهم لا يمكن أن يمحى من الذاكرة؟
وفي اليوم الذي عدت فيه إلى الوطن حيث الناس تستقبلنا بالورود... والقائد يلبسنا شارات البطولة، أقسم لك بأنني تمنيت لو قذفنا الناس بالحجارة، فرائحتنا لا يحملها إلا المجرمون أمثالنا، وشارات البطولة ليست سوى شارات عار على جبيننا، ليس لها دخل بالسلام ولا الحرية كما يدّعي الإعلام ويكرّرهما عليكم.
سامحني يا أبي...
كل يوم أرى فيه أختي وهي تستعد لزواجها، وأنت تشاطرها فرحتها الكبرى، أتخيّل الفتيات البريئات اللاتي وقعن تحت أيدينا وأفسدنا عليهن حياتهن، وأتذكّر الآباء الذين حرمناهم رؤية أبنائهم وهم يحققون أحلامهم المستقبلية، ولكن نأمل أن يغفر لنا ربنا بهذا الندم الذي يلاحقنا إلى نهاية حياتنا.
بلّغ أختي أمنياتي لها بالتوفيق.
وداعاً... توقيع: ابنك البائس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق