الثلاثاء، 16 مارس 2021

طبائع الحكم مع ابن خلدون مزايا البداوة على الحضر

 

طبائع الحكم مع ابن خلدون مزايا البداوة على الحضر


محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

لو كان لك الخيار، فأيهما تفضل: أن تكون من أهل البدو أم من أهل الحضر؟

أيهما أقرب إلى الخير: الرجل في البدو؟ أم المواطن في المدينة والحضر؟

هل تتحدى أخلاق الشعوب وفقا لسياسة السلطة؟ أم تتحدى سياسة السلطة وفقا لأخلاق الشعب؟

لماذا ينزع المواطن في الحضر إلى تعلم فنون العيش في البدو؟

ما العلاقة بين هذا كله وبين مبادرات التعليم المنزلي؟

 

”أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة و انغمسوا في النّعيم والتّرف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم … وتنزّلوا منزلة النّساء والولدان الّذين هم عيال على أبي مثواهم حتّى صار ذلك خلقا يتنزّل منزلة الطّبيعة وأهل البدو لتفرّدهم عن المجتمع وتوحّشهم في الضّواحي … قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السّلاح ويتلفّتون عن كلّ جانب في الطّرق و يتجافون عن الهجوع إلّا غرارا … ويتوجّسون للنّبئات و الهيعات ويتفرّدون في القفر والبيداء مدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشّجاعة سجيّة … وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السّفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم” ابن خلدون.

 

هنا ابن خلدون يشرح كيف أن أهل البدو أفضل من أهل الحضر، أهل البدو نشؤوا في البادية في الصحراء في القفار في التوحش لذلك نشؤوا على الفطرة الأولى ولذلك ابن خلدون يقول: ”فهم أقرب إلى الفطرة التي قال عنها النبي : ”كُلّ موْلودٍ يُولدُ على الفِطرَة فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجسّانه”” فهذا البدوي الذي نشأ في القفار، في الصحراء، في الضواحي بعيدا عن المدينة، ينشأ على الفطرة الأولى، ينشأ كما نشأ الإنسان الأول، بينما أهل الحضر الموجود في المدينة، هذا رجل نشأ في عادات وتقاليد ونظم وسلوكيات اصطنعها أهل المدينة، فهناك رسوم وآداب وعادات وتقاليد فبالتالي لا ينشأ على الفطرة الأولى التي نشأ عليها الرجل في البدو؛ ويلفت النظر ابن خلدون إلى أن أهل البدو أفضل من أهل الحضر حتى في الأخلاق وأن أهل البدو عندهم حشمة، وعندهم هيبة ووقار، وأكثر خشونة، بينما أهل الحضر تبسطوا في المجالس حتى ضعفت أخلاقهم، وانحلت أخلاقهم، كلمات الفحش والبذاءة تنتشر في أهل الحضر، لا تنتشر في أهل البدو، عدم احترام المنازل والمقامات موجود في أهل الحضر، غير موجود في أهل البدو، وهكذا فهو بشكل عام يقول بأن أهل البدو أقرب إلى الخير وأحسن في الفضائل من أهل الحضر، لكن أهم ما يتميز به أهل البدو عن أهل الحضر هو الشجاعة، ذلك أن أهل الحضر نشؤوا على مهاد الراحة، نشؤوا في الترف والنعيم، هؤلاء ينامون في بيوتهم، أو يسيرون في الطرقات وقد وكلوا أمر المدافعة عنهم يعني أمر حمايتهم والمدافعة عنهم موكلة إلى الحاكم، موكلة إلى الجيش أو الأمن (الشرطة)، فلذلك استنموا على مهاد الراحة، إلى أن صار ذلك لهم خلقا تخلقوا به، حتى صار كأنه طبيعة، تنزل منزلة الطبيعة، وبالتالي هذا الرجل الذي نشأ في الحضر يصير أكثر رخاوة، وأكثر نعومة، وأكثر ليونة، وإذا اعتدي عليه اشتكى إلى السلطان، لا يألف حمل السلاح، لا يستطيع أو لا يعتاد أن يواجه شظف العيش، لكن الموجود في البدو هذا رجل يمتشق سلاحه، مدل ببأسه، لا ينام إلا غرارا، يقظ منتبه للنبآت والهيعات، النبآت والهيعات يعني إذا حصل صوت إذا حصل صرخة إذا حصل طارئ، فتجده منتبها، يستطيع أن يعالج أمر نفسه، وبالتالي يظهر هذا أكثر ما يظهر إذا التقى البدوي بالحضري، يعني إذا مثلا واحد حضري أراد أن يعيش في البدو أو إذا التقوا في سفر فالحضري عادة ما يكون عالة على البدوي، والبدوي يقوم له مقام الأب، أو مقام الراعي أو مقام الوالي الذي يحمل عنه أمره ويصير هذا الحضري عيال على البدوي، فهنا مسألة البأس التي يصنعها عدم وجود السلطة عند البدوي مقابل مسألة ذهاب البأس التي يصنعها وجود السلطة في الحالة الحضرية كل هذا يؤدي إلى أن ننتقل نقلة سريعة، يقول ابن خلدون: 

”معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنّه ليس كلّ أحد مالك أمر نفسه … فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم ولا منع وصدّ كان النّاس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع … وأمّا إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس المضطهدة … وأمّا إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلّيّة لأنّ وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلّة الّتي تكسر من سورة بأسه بلا شكّ … ولهذا نجد المتوحّشين من العرب أهل البدو أشدّ بأسا ممّن تأخذه الأحكام ونجد أيضا الّذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التّأديب والتّعليم في الصّنائع والعلوم والدّيانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمّة الممارسين للتّعليم والتّأديب في مجالس الوقار والهيبة”

معنى فساد البأس ببساطة هو عدم قدرة الإنسان على أن يدفع عن نفسه شيئا من ظلم السلطان، هذا معنى فساد البأس، هذا معنى انكسار البأس وذهاب المنعة؛ فابن خلدون هنا يشير إلى أنه هذا الذي في البدو ليس عليه سلطة وبالتالي هو مكتمل البأس مكتمل المنعة، يدفعون عن أنفسهم، لكن الذي وجد في ظل سلطة في الحضر في المجتمع هذا عنده حالات، الحالة الأولى أن تكون الملكة تكون السلطة يعني، أن تكون سياسة الملك سياسة رفيقة عادلة، فلما تكون سياسة رفيقة عادلة حينئذ لا يذهب بأسه، هو لن يكون في حال مثل البدوي، لكن في النهاية موجود بشجاعة بإقدام بأمانة، لأنه يثق من وجود العدل، فبالتالي ليست لديه الإخافة، ليس لديه التخوف الجبن من أن تؤدي شجاعته أو نصيحته أو مواقفه إلى الإيذاء؛ لكن إذا كانت هذه السياسة كانت الملكة مخيفة لديها سطوة والمسألة مرعبة، فبالتالي يكسر هذا من بأسه ويذهب بالمنعة إلى حد ما، حين تكون السلطة مخيفة ومرعبة حتى ولو كانت عقوبتها قليلة، لكن وجود الإخافة هو يذهب من المنعة والبأس بقدر ما لهذه السلطة من الإخافة، طيب إذا كانت الملكة قاهرة تعمل بالعقوبة يعني ليست عقوبات خفيفة مثل الحالة التي قبلها، لا هذه تعمل بالعقوبة والإيذاء فإن هذا يذهب المنعة بالكلية ويذهب البأس بالكلية وبالتالي يصير هذا الذي نشأ في الحضر في المجتمع في ظل هذه السطوة ذاهب المنعة، وغير مستطيع لأن يدافع عن نفسه في وجه السطلة.

أيهما أفضل في هذه الحالة؟ بلا شك سيكون الأفضل في هذه الحالة هو الرجل البدوي الذي مازال محتفظا ببأسه و منعته، بخلاف هذا الرجل الذي تعود على نعومة الحضر ثم زادته سطوة السلطة وقوتها وقهرها زادته تكاسلا، أو بعبارة ابن خلدون ”لما يكون من تكاسل في النفوس المضطهدة”، من أجل هذا يفكر الزعماء الحقيقيين، يفكر مؤسسو الدول في أن يتعود أهل المدينة على فنون أهل البداوة، يعني لماذا تنتشر الكشافات والجوالات والبرامج التي تحاول أن تكسب مهارات البداوة لأهل المدينة، لأن هذا مفيد لأهل المدينة، القادة الحقيقيون يهتمون أن يكون الشعب مسلحا، لأن الشعب المسلح عملية احتلاله صعبة، عملية الاستبداد به صعبة، فلذلك انتشار السلاح والقدرة على التدرب عليه واستخدامه هذا يدفع ويحمل عبئا كبيرا عن الجيش الرسمي للدولة، يعني الجيش الرسمي للدولة إذا هزم تبدأ المقاومة الشعبية، أو قد لا يهزم لما يكون من مساعدة القوة الشعبية التي تعمل في المقاومة، فتدرب الناس على فنون القتال، وتدرب الناس على مهارات العيش في البدو وشظف العيش ومعرفة الاتجاهات من خلال النجوم وأكل ما يكون في الصحراء والمبيت على الأمور الخشنة والتيقظ والانتباه واكتساب هذه الصفات هي من الأمور التي يحتاجها الزعماء الحقيقيون الذين يهتمون بأن تكون دولهم دولا قوية، وأن تكون شعوبهم فيها منعة عن الاستبداد والاحتلال. ابن خلدون يلفت النظر أيضا إلى أنه هذه السطوة وهذا الأسلوب لا يوجد فقط في علاقة السلطة والرعية وإنما يوجد أيضا في علاقة طالب العلم بالشيخ، يعني الشيخ الذي يستخدم العقوبات، يعني الأستاذ الذي يكثر من الضرب هذا ينشئ في نفس الطفل هذا النوع من الانكسار وذهاب المنعة، وابن خلدون في مقدمته يطيل النفس في مسألة أن العلماء أو الشيوخ الذين نشؤوا في هذه الأحوال لم يكونوا على الهدي الأول، لأن النبي  كان حريصا على بقاء بأس الصحابة وبقاء منعتهم كما هو، وأن يكون وازعهم من الدين وازعا نفسيا يعني وازعا ربانيا وليس وازع الإخافة والسطوة، وبالتالي فحين تحول التعليم إلى عملية صناعية فيها العقوبة وتكرار العقوبة فإن هذا أنشأ جيلا من المتعلمين وجيلا من المتدينين، لم يكونوا على أهل الشأن الأول من البأس وذهاب المنعة.

ففي النهاية، الخلاصة المقصودة هنا أنه حتى إذا الإنسان إذا نشأ في أهل الحضر فيجب عليه أن يكتسب صفات العيش في البداوة، ولأجل هذا جاءت برامج الكشافة والجوالة وغيرها، ولأجل هذا تحرص الدول الحقيقية التي تريد تقوية شعوبها وتريد ألا تستذل بشكل عام على أن يكتسب عموم الشعب مهارات هي بالأصل كانت مهارات أهل البدو ولم تكن مهارات أهل الحضر.

الرجل الجاهلي المشهور بالكرم حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الكرم، كان الرجل يكرم ضيفه حتى أنه يذبح إبله ويعطي كل ما يملك، ضرب به المثل في الكرم مشهور؛ لكن الحقيقة يرتبط بالمعنى الذي حكيناه في قصيدة جاء فيها ما الذي لن ينفقه، ما الذي سيحتفظ به، وهذا هو الذي نريده هنا، فهو يقول:

يَقولونَ لي أَهلَكتَ مالَكَ فَاِقتَصِد

وَما كُنتُ لَولا ما تَقولونَ سَيِّدا

سَأَذخَرُ (1) مِن مالي دِلاصاً وَسابِح (2)

وَأَسمَرَ خَطِّيّاً (3) وَعَضباً مُهَنَّدا (4)

وَذَلِكَ يَكفيني مِنَ المالِ كُلِّهِ

مَصوناً إِذا ما كانَ عِندِيَ مُتلِدا

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق