مهمة حربية خطيرة!!!
أ.د. علي محمد عودة
عبدالله بن أنيس رضي الله عنه أحد رجال المهمات الصعبة عند النبي صلى الله عليه وسلم.
والمهمة التي قام بها عبدالله بن أنيس مهمة بالغة الصعوبة وشبه مستحيلة، لا تستطيع حتى أقوى الجيوش في العصر الحديث القيام بمثلها إلا بتكاليف كبيرة ودراسات علمية صائبة للعملية وجُهد استخباراتي طويل ودقيق، وكتيبة من الجنود المُدربين تدريباً عالياً مع توفير الطعام وكل وسائل النقل لهم من طائرات وطوافات وأجهزة وأسلحة متقدمة!!!
فكيف استطاع رجل واحد من رجال النبي محمد صلى الله عليه القيام بها بمفرده؟؟؟
فبعد خسارة المسلمين في أحد طمع الكثير من الأعراب في المسلمين وظن بعض عتاة المشركين أن المسلمين في المدينة أصبحوا لقمة سائغة يمكن التهامها بسهولة!!!
وعَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي، وهو أحد زعماء الأعراب وشياطينهم، أخذ يجمع الجموع من الأعراب والأحابيش حول مكة ليباغت النبي عليه الصلاة والسلام
بالهجوم عليه في المدينة وأنه قد أظهر العدواة للنبي صلى الله عليه وسلم بهجائه وشتمه وتوعد بقتله.
والانتظار حتى يهاجم هذا الأعرابي المدينة قد يكلف المسلمين خسائر ثقيلة ودماء غزيرة، وخير وسائل الدفاع وأنجعها هو تدمير خطط هذا الأعرابي في مهدها.
فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم أحد الأبطال المغاوير من الصحابة، وهو عبدالله بن أنيس الجهني -حليف بني سلمة من الأنصار- الذي كان لا يعرف شيئاً من الخوف أبدًا مثلما وصف نفسه في سياق هذه القصة بأنه: «لا يهاب الرجال ولا فَرِقَ من شيء قط» وهذه الصفة من الصفات النادرة في الرجال، ويتمنى كل قائد عسكري أن تتوفر في بعض رجال المهمات الصعبة عنده.
قال عبدالله بن أُنيس: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة، فأته فاقتله، قلت: يا رسول الله أنعته لي -أي صفه لي- حتى أعرفه قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».
ولكم أن تتصورون صعوبة المهمة: فالمسافة بين المدينة ووادي عرنة تزيد عن 500 كم بكثير. فالطريق ليست مرصوفة وبخط مستقيم بين المكانين، إذ يلزم هذا البطل أن يسلك طرقاً وعرة نزولاً وصعوداً في أودية عميقة وهضاب مرتفعة ويتجنب الجبال العالية والحِرَار (جمع حرَّة) ذات الحجارة الحادة التي تنتشر بين مكة والمدينة. إضافة إلى الوحوش المفترسة التي كانت تكثُر في ذلك العصر.
ولم يحدثنا البطل عبد الله بن أنيس عن الصعوبات والأخطار التي واجهته في الطريق، وما عاناه من عطش وجوع، فهي لا تُشكِّلُ في نظره شيئاً، ولا غرابة في هذا، لأنه أرتقي في إيمانه حتى بلغ مرحلة اليقين!!! فلا يعنيه إلا تنفيذ الأمر النبوي والوصول إلى ذلك الشيطان «خالد بن سفيان بن نبيح» الذي عزم على البغي والطغيان والعدوان على الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله: (فخرجت متوشحاً بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن «الظعن جمع ظعينة» وهو الهودج فيه امرأة) يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة فأقبلت نحوه. فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما أن أُؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي، وأنا أُصلي أُومئ إيماءً نحوه، فلما دنوت منه، قال لي: من أنت؟ قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- فجئتك في ذاك. قال: إني لفي ذاك. فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد – يقصد مات – ثم خرجت وتركت ظعائنه مُكبات عليه).
لقد صاغ الإسلام عبدالله بن أنيس صياغة غير مسبوقة، فحين رأى خالد بن سفيان بن نبيح أخذته القشعريرة كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه له بهذا الوصف الدال على نبوته وصدقه، ولم يُنْسِه هول الموقف وطبيعة المهمة الخطيرة التي ينبغي عليه أن ينفذها عن أداء صلاة العصر التي حان وقتها وهو يتجه نحو ابن نبيح ، ولكنه لم يتوقف لأداء الصلاة كما يؤديها المسلمون لأن هذا سيكشفه لابن نبيح من ناحية وقد يفوته اللحاق به من ناحية أخرى.
وقد اجتهد في هذا الموقف العصيب فأدَّى صلاة العصر إيماءً وهو يتجه نحو ابن نبيح، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعله (وتُسمى صلاة الإيماء هذه بصلاة الطالب وهي باب في الفقه ناقشه العلماء، وليس هنا مكان عرضه).
عاد البطل عبدالله بن أنيس إلى المدينة بعد أن نفَّذ المهمة التي كلفه بها النبي صلى الله عليه وسلم ولينال منه الجائزة الفريدة التي لم ينالها أحد من البشر لا قبله ولا بعده
قال عبدالله: (فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: «أفلح الوجه»، قلت قتلته يا رسول الله، قال: صدقت، ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته فأعطاني عصا، فقال: امسك هذه عندك يا عبدالله بن أنيس، قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أو لا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن ذلك، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون يوم القيامة. «والمخصرة هي ما يختصره الإنسان بيده من عصا أو قضيب أو عكازه ونحوها». فقرنها عبدالله بن أنيس بسيفه فلم تزل معه حتى حضرته الوفاة فأمر بها أن تُضم معه في كفنه، ودُفِنا معاً).
ولعبدالله بن أنيس رضي الله عنه أبيات شعر جميلة صاغها بعد إنجاز مهمته.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فِي ذَلِكَ :
تَرَكْتُ ابْنَ ثَوْرٍ كَالْحُوَارِ وَحَوْلَهُ …نَوَائِحُ تَفْرِي كُلَّ جَيْبٍ مُقَدَّدِ
تَنَاوَلْتُهُ وَالظُّعْنُ خَلْفِي وَخَلْفَهُ … بِأَبْيَضَ مِنْ مَاءِ الْحَدِيدِ مُهَنَّدِ
عَجُومٍ لِهَامِ الدَّارِعِينَ كَأَنَّهُ … شِهَابٌ غَضًى مِنْ مُلْهَبٍ مُتَوَقِّدِ
أَقُولُ لَهُ وَالسَّيْفُ يَعْجُمُ رَأْسَهُ … أَنَا ابْنُ أُنَيْسٍ فَارِسًا غَيْرَ قُعْدُدِ
أَنَا ابْنُ الَّذِي لَمْ يُنْزِلْ الدَّهَرُ قِدْرَهُ … رَحِيبُ فِنَاءِ الدَّارِ غَيْرُ مُزَنَّدِ
وَقُلْتُ لَهُ خُذْهَا بِضَرْبَةِ مَاجِدٍ … حَنِيفٍ عَلَى دِينِ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَكُنْتُ إذَا هَمَّ النَّبِيُّ بِكَافِرٍ … سَبَقْتُ إلَيْهِ بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ.
هذه قصة مهمة عبدالله بن أنيس باختصار كما جاءت بأسانيد صحيحة.
أما ما قاله بعض المشايخ غفر الله لهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالله بن أنيس رضي الله عنه أن يأتيه برأس خالد بن سفيان بن نبيح، وانه احتز رأسه وعاد به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهي رواية ضعيفة جداً معضلة جاءت عن طريق الواقدي وقد وصفه علماء مصطلح الحديث بالكذب.
ومما يدل على كذبها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر البتة بقطع رأس قتيل مشرك وأخذها للتشفي منه في كل حروبه وغزواته وسراياه. والمثال على ذلك أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما حيث آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فضربوه وخنقوه وذروا التراب على رأسه ووضعوا سلا الجزور على ظهره عند الكعبة وهو ساجد وبقيت جثثهم يوم في بدر في أماكن مصرعهم دون احتزاز رأس أحد منهم، ناهيك عن عفوه عن قريش يوم الفتح الأعظم وفيهم من آذاه أشد الإيذاء، ومع ذلك قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ومثل هذه الرواية يستغلها أعداء الإسلام لوصفه بالإرهاب واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمر بقطع الرؤوس.
ويجب أن أُشير هنا إلى أنني ناقشت رسالة ماجستير لأخي وصديقي الدكتور بريك محمد بريك أبو مايلة العمري سنة ١٤١٢ هجرية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعنوان «السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة؛ دراسة نقدية تحليلية». وقد أشرف عليها الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري.
وقد طبعتها دار ابن الجوزي سنة ١٤١٧ هجرية. وهي موجودة بالنت يمكن قراءتها وتحميلها. وقصة عبدالله بن أنيس رضي الله عنه موجودة بها من صـ ١٥٣ حتى صـ ١٦١ بحواشيها وأسانيدها وليس فيها البتة حز رأس خالد بن سفيان بن نبيح حيث استبعد الدكتور بريك كل الروايات الضعيفة ولم يُثبت إلا الصحيح منها.
مصادر ومراجع أخرى.
— مسند الإمام أحمد.
— سيرة ابن اسحاق
–سيرة ابن هشام
— الهيثمي: مجمع الزوائد.
— البيهقي: دلائل النبوة.
— محمد الصوياني: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق