فليسقط المعلم الوافد!
خواطر صعلوك
محمد ناصر العطوان
كانت المقاهي مفتوحة طوال الليل، والطلاب يتعلّمون في فصولهم، وموزّعو الصحف يتركون الجرائد عند أبواب المشتركين، ولكن في الرابع والعشرين من فبراير عام 2020م، جاءت أنباء أن هناك أزمة ستشغل العالم... حظر كلّي بسبب فيروس كورونا وتعطيل لمؤسسات الدولة ومدارسها.
خرج وزير التربية - وقد بدا مكتئباً عند وصوله المنصة - وقال للصحافيين: إن الحالة سيئة للغاية، ولا يمكن البت في شيء الآن.
وأغلق المطار أبوابه، وتشاجر عمال حمل حقائب المسافرين تحت جناح إحدى الطائرات الواقفة منذ زمن، وتشاجر الأزواج في المنازل، وخرج رئيس وزراء بريطانيا جونسون وهو غاضب للغاية، وقد ارتدى رباط عنق أسود، وأعلن أن على الجميع أن يتوقع فقد أحبابه.
التزم الجميع بالشروط الاحترازية الصحية ومنهم فئة المعلمين الوافدين، ورغم ذلك أُصيب البعض منهم بفيروس آخر رغم التزامه بالبقاء في آخر الصف وهو يقف على قدم واحدة، ووجه مثبّت في شاشة متابعة الأخبار على الفيس بوك... زملاء يموتون بعيداً عن أراضيهم، وأبناء يتم التعهد بهم لزملاء آخرين لأن الأبوين مصابان، ومن مات وحيداً وأطلق أصدقاؤه صلاة الغائب عليه، لم يتوقّع المعلمون أن يسجلوا غياباً في وفيات أصدقائهم! ولم يتوقعوا أن يتعرّضوا لاختبار مفاجئ ليس على الورق هذه المرة بل على الرزق.
وجاءت عطلة الصيف، وأشرقت شمس اللهيب، وخرج وزير التربية وهو يرتدي دشداشة بيضاء ليعلن السماح للمعلمين بالسفر إلى بلدانهم للاستمتاع مع عائلاتهم من دون المساس بمعاشاتهم، والسماح لهم بالسفر من دون إذن خروجية، وصور أربعين صورة سلفي معهم في مواقع التواصل.
وعند منتصف الليل أعلنت وزارة التربية تجديد الإقامات «online» قبل السماح للمعلمين بالسفر، فقام الكثير بإجراء خطوات الإقامة، وأصبحت الأمور على ما يُرام وسافر مَنْ سافر وكانت المفاجأة.
خرج الأرنب من القبعة، وأوقفت وزارة التربية تجديد الـ«online» للمعلمين العالقين من دون بقية الوزارات، ثم طلب من المعلمين العالقين التواصل مع سفارة الكويت في بلادهم بأوراق التجديد.
ومثلما لا يتعلّم المرء من الساحر تحديداً أفضل طريقة للإمساك بأرنب أبيض، رغم إتقانه عرض ذلك على المسرح - كذلك - فإن الوزارة اكتشفت فجأة أنها ليست في حاجة إلى غالبية الذين سمحت لهم بالسفر، وأسقطت إقاماتهم، ولأن حالات مثل هذه لا تتعلّق فقط بموضوع «التكويت»، ولكنها تتداخل في حالات أسرية إنسانية، فقد رفضت وزارة التربية طلبات الاسترحام واتهمت ديوان الخدمة أنه السبب.
أبوبكر حسين علي العُمري معلم متميّز، صاحب مبادرات في المدرسة، يحبه طلابه ويحبهم، وجد نفسه فجأة في هذه الأزمة يخوض رحلة عبر تركيا إلى الكويت مع ثلاثة من أبنائه، يطبخ ويغسل ويُدرس ويمسح الغبار عن النوافذ، ويأتي في الصباح ليدرّس في المدرسة، زوجته معلمة أسقطت إقامتها في عرض الأرنب السابق، كان وحيداً ويشعر بالتعب وسوء الحالة النفسية هو وأولاده، ومع فكرة أن يعود إلى وطنه وتضيع السنة الدراسية على أبنائه، ومع المغردين العنصريين في تويتر، ومع بعض الصحافيين المقيتين، بل ومع كل حالة وفاة من صداقاته على الفيس بوك أيضاً، في نهاية الأمر سقط مغشياً عليه من تورّم المرارة، وذهب إلى المستشفى، ولن أنسى نظرته التي كانت تقول: «أبنائي»!
ذهبت إلى الفراش في هذا اليوم وأنا أردّد جملة واحدة: المعلم الذي ساعدنا في نجاح أبنائنا، عليه أن يسقط اليوم... فليسقط المعلم الوافد... واللي اختشوا ماتوا... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله أبتر، وهل جزاء الإحسان إلّا...؟
قصة قصيرة:
يمكن للحصان أو الكلب أن يشعر بالحزن الدفين في الإنسان، بينما لا يشعر به أصدقاؤه أو أبناؤه أو زوجته... كما يمكن لهرّة أن تنظر إليك باهتمام بينما لا يُلقى لك بال في عملك أو مؤسستك أو وطنك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق