القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (3-4) قناديل معاصرة
مقدمة
في المقال الأول تم بيان حقيقة ما يراد ببلاد الحرمين ورؤية (2030) وخطورة استخدام أهل العلم في هذا السبيل لشرعنة ما يراد بالأمة ولتطويع الجماهير، ودورهم في لَيّ ألسنتهم بالكتاب..
وفي المقال الثاني تم بيان لنماذج توضح معنى التمندل، ونماذج لقناديل من علماء السلف رفضوا الخضوع للترغيب والترهيب.
وفي هذا المقال بيان لنماذج لقناديل مضيئة من علماء معاصرين قريبين من وقتنا، لبيان نماذج الخير لتشرئب اليهم أعناق المعاصرين..
قناديل معاصرة
شيخ الأزهر “الخضر حسين”
عندما قامت الثورة في مصر عام اثنين وخمسين قام الرئيس محمد نجيب متغطرساً وقال: سنساوي المرأة بالرجل في جميع الحقوق، وخرجت الصحف من الغد وفيها أن الرئيس محمد نجيب ذكر في خطابه أنه سيساوي المرأة بالرجل.
وكان شيخ الأزهر في ذلك الوقت «الخضر حسين» ـ رحمه الله ـ وهو تونسي، فعندما علم بالخبر اتصل بالرئيس محمد نجيب وقال له: إما أن تكذّب الخبر، وإما سأنزل غداً بكفني إلى السوق وأدعوا الناس الى مواجهتك.
فجاءه أعضاء مجلس الثورة جاءوا جميعاً إليه في مكتبه، في مشيخة الأزهر وقالوا له: ياشيخنا هذا الأمر صعب ولكننا نقول لك: هذا غير صحيح، قال: لا ينفع هذا الكلام، أريد كما أعلنت أمام الملأ، وإلا سأنزل غدا وأنا ألبس كفني والله لن أقف حتى أنتصر في هذه المعركة أو تذهب روحي.
قال له: يا مولانا أأنت مصر على موقفك؟ قال: نعم، فقام محمد نجيب وأعلن تكذيب الخبر وأنه مزيَّف، وكذا وكذا، وكيف يجوز لي أن أقول بهذا القول وهو يخالف الكتاب والسنة. (1)
وعند توليه مشيخة الأزهر كتب خطاب استقالته من نسختين احتفظ بواحدة عنده وأعطى الأخرى لمدير مكتبه قائلاً: إذا رأيتني ضعيفاً في موقف فابعث بصورة هذه الاستقالة التي عندك إلى المسؤلين نيابة عني. (2)
مفتي تونس “الطاهر بن عاشور”
موقف مفتي تونس «الطاهر بن عاشور» أمام حاكم تونس «أبو رقيبة» المبدل لشرع الله تعالى حينما أراد منه أن يفتي بإعفاء الناس من صيام شهر رمضان.
فقام المفتي بتلاوة آيات الصيام والأمر بصيام رمضان ثم قال بعد تلاوتها: صدق الله وكذب أبو رقيبة، ليخفي ذِكره في السجن ويرفع بعد ذلك في العالمين.
شيخ الجامع الأزهر
لما قدم السلطان العثماني «عبد العزيز» مصرَ، وزار الجامع الأزهر وصحبه الخديوي إسماعيل فلحظ الخديوي على شيخ الجامع كأنه غير مهتم، فهو مسند ظهره مادٌّ رجله.
فأسرع بالسلطان عنه، ثم كلف أحد رجاله وقد أراه الشيخ أن يذهب له بصُرّة يريد أن يعرف حاله، فلما جاء الرسولُ ليعطيه قبض الشيخ عنه يده، وقال له: قل لمن أرسلك إن من يمد رجله لا يمد يده. (3)
الشيخ حسن الطويل” مع “رياض باشا”
العالم الأزهري الجليل كان من عزة النفس والثقة بالله على جانب رفيع دخل عليه «رياض باشا» وهو يدرّس لطلابه بدار العلوم، فما غيّر موقفه أو بدّل جلسته..
وحين هَمّ الزائر بالخروج قال له الأستاذ: لماذا لا أكون وزيراً معكم يا باشا؟
فدهش الزائر، وقال: أي وزارة تريد؟ فقال وزارة المالية لأستبيح من أموالها ما يستبيحون. (4)
الشيخ “الشربيني” واللورد “كرومر”
تولى الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر في وقت اشتد فيه الصراع بين الاستعمار البريطاني الذي كان يمثله اللورد كرومر، وبين الوطنية الأصيلة المستمدة من الدين والأخلاق، وكان الأزهر في تلك الأثناء هو القلعة الحصينة العنيدة بجنود الوطن والإيمان والكفاح..
وكان الاستعمار الغاشم لا يهاب شيئًا أكثر من سلطان العلماء؛ لأن قوة الشعب حينذاك كانت مستمَدة من عزتهم وصدقهم، وكان اللورد يرى ـ على حد فهمه ـ أن تفاهمه مع الشيخ الشربيني مما يخفف حدة الصراع الرهيب، فأراد أن يقابل شيخ الأزهر في منزله.
وفي الوقت الذي حدده الإمام حضر اللورد ومعه زوجته، وحرص الإمام الأكبر على عدم القيام له إذا دخل عليه؛ لأنه لا يليق بشيخ الإسلام أن يقوم لكافرٍ ظالم.
فأمر خدمه أن يدخلوهما في حجرة الانتظار في الدور الأرضي من المنزل، وبعد برهة، نزل إليه الشيخ فقام هو وزوجته ـ وكان ذلك هو المطلوب ـ فسلم عليه ولم يسلم على زوجته!!
وأخذ كرومر يتودد إلى الشيخ، يتزلف إليه ويتملقه، والإمام لا يعيره التفاتًا أو اهتمامًا بما يقول، بل إنه أعطى ظهره لزوجة اللورد لكي لا يراها.
فاعتبر اللورد أن ذلك إهانة له، ولزوجته على وجه الخصوص، ولكنه لم يستطع أن ينصرف، ثم طلب من الشيخ أن يأذن لزوجته كي تصعد إلى الطابق العلوي من المنزل لزيارة حرم الإمام ولتجلس معها حتى تنتهي المقابلة..!
ولكن الشيخ أبى، وأجابه على الفور في عنف، فقال: أنا آسف، إنها تحرم على نسائنا المسلمات، كحرمة الرجل الأجنبي سواءً بسواء لاختلاطها بالرجال..!!
وهنا لم يستطع اللورد إلا أن يسرع في الانصراف مدحورًا، ثم أبلغ حكومته خطورة بقاء الإمام في منصبه كشيخ للأزهر، ولم يلبث قليلاً حتى ترك منصبه غير آسف..
وفضّل أن يفوز برضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ورضى بلاده، على أن يفوز برضى عميد الاستعمار وحكومته، ولو كان من وراء ذلك ملك الدنيا.
الشيخ “محمد بخيت مطيعي” مفتي الديار المصرية
لطم الاستعمار البريطاني لطمة قاسية حين أصدر فتوى شرعية في مقاطعة الانجليز فسرت مسرى النار في الهشيم.
هذا الشيخ الجليل الذي رفض ثروة مغرية قدّمت إليه حين أصدر فتوى إسلامية في وقف من الأوقاف وقال كلمته الجليلة
العلم في الإسلام لا يباع. (5)
خاتمة .. موقف معاصر من بلاد الحرمين
الشيخ عبد الله بن حميد
ونختم هذه المواقف بموقف فضيلة الشيخ «عبدالله بن محمد بن حميد» رئيس المجلس الأعلى للقضاء في كتابته للملك خالد في بلاد الحرمين يستنكر فيها ظهور منكرات كثيرة في البلاد ويهدد بالإنكار العلني في حالة عدم التجاوب.
والرسالة طويلة تقتطف منها مايلي:
من عبدالله بن محمد بن حميد إلى حضرة صاحب الجلالة الملك خالد بن عبدالعزيز ـ حفظه الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد؛
سلمك الله ـ جرى البحث معكم عصر يوم الاثنين الموافق (12/5/1399هـ)، في بعض الأمور الهامة وطلبت من جلالتكم الاجتماع بكم وبالأمير «عبد الله» النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني والأمير سلطان وزير الدفاع والطيران والمفتي العام لبحث بعض الأوضاع الهامة في المملكة شفوياً.
ولكن حيث لم يحصل ذلك اضطررت أن أكتب لكم ما كنت أريد أن أبحثه معكم ومعهم، وأن أذكّركم بما سبق أن كتبته لجلالتكم برقم (507) وتاريخ (28/3/98هـ) ولسمو الأمير فهد برقم (1918) في (21/11/98هـ)، بما تجدون صورة مشفوعاً بهذا.
والله يعلم أني لكم محب وناصح أمين، ولكن الى الله المشتكى؛ لم نجد منكم تجاوباً ولا تأثّراً بما يقع في البلاد من شرور وأضرار وانحراف، لا بالنسبة لوسائل الإعلام، ولا بما يظهره الأجانب الكفرة من شعائر دينهم ورفع صلبانهم، ولا منع المحرمات الظاهرة مما هو مذكور في كتابينا المشفوعة بهذا؛ مما يهدد كيان الدولة ويسبب زوالها…
إنني أكتب لكم وأنا في قلق شديد والأسى يحزّ في نفسي، ويعلم الله أنني لم أدخر لكم نصحاً ومحبةً، وقد كتبت لجلالتكم سراً عن كثير (كما في كتابينا المرفقة صورهما) من المنكرات التي بدأت تظهر أعناقها وتعلن أمام الخاص والعام سواء بواسطة أجهزة الإعلام أو مايرتكبه السفلة من الناس دون وازع من سلطان أو ضمير.
وتكلمت معكم مشافهة؛ تارة بمفردي وتارة مع أعضاء هيئة كبار العلماء، لكن لم أرَ أي أثر لذلك.
وقد استفرغت الوسع في النصيحة ولم أجد ما أبرر به لما حل بهذه البلاد من الأمور العظيمة التي يندى لها الجبين، ولم يبق أمامنا من المعذرة بين يدي الله سبحانه وتعالى إلا المبادرة بالإنكار علناً، وأن نقوم بكتابة الرسائل وبيان حكم الله ورسوله في ذلك.
والدافع لذلك كله هو ما يعلمه الله من الشفقة عليكم والنصح لكم ومحبتكم وإبراء لذمة الجميع. والله على ذلك شهيد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
في (20/9/1399هـ)
هوامش:
- زهر البساتين 1/ 492.
- زهر البساتين 1/ 493.
- أخلاق العلماء.
- زهرة البساتين 1/ 488.
- زهر البساتين 1/ 491.
لقراءة بقية السلسلة:
- المقال الأول: بيان جريمة التبديل
- المقال الثاني: نماذج لقناديل مضيئة من السلف
- المقال الرابع: نماذج لمن تمندل بهم الحكام الظلمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق