الاثنين، 15 مارس 2021

قراءة في كتاب بروتوكولات حكماء العرب

 

 قراءة في كتاب بروتوكولات حكماء العرب




أسم الكتاب: بروتوكولات حكماء العرب


الكاتب :الدكتور محمد عباس
الناشر: دار الماحى للنشر والتوزيع
 

بروتوكولات حُكّام العرب للدكتور محمد عباس .. هي أهم وأروع رواية عربية أُلّفَتْ فى نصف القرن الأخير.. وقد شرّفنى صاحبها بكتابة تقديم لها فسعدت بهذا الشرف؛ إذ قرأت الرواية كاملة وأنجزت مقدّمتها فى يوم ٢٥ فبراير سنة ٢٠١٣م. إنها رواية غير عادية وقد ألهمتنى تقديمًا غير عادي.. ولكنها للأسف الشديد لم تُنشر حتى هذه اللحظة.. وأظن أنه قد آن الأوان لننفض عنها غبار النسيان ونستحضرها إلى الأذهان.. ولقد وجدت أن المؤلف قد ضمَّنها فى موقعه الخاص .. واستجابة لرغبة الكثيرين من الأصدقاء أضع المقدمة ورابط الرواية أمامكم.. حسبةً لله ؛ فالرواية تلقى ضوءًا كاشفًا على الأوضاع الراهنة، كأنها قد وُضعت خصيصًا لتعميق فهمنا لما يحدث الآن.. قلت فى المقدمة:
أحد خصوصيات هذه الرواية المتفرِّدة هو استخدام الإيهام بطريقة عبقرية ؛ فالدكتور محمد عباس، يتخذ من الإيهام تكتيكًا فنيًّا للدفاع والهجوم والمراوغة فى آن واحد.. وهنا ينبغى ألَّا ننسى ثلاثة حقائق تشكل الخلفية المتميزة لهذه الرواية:
أولها- أنه شرع يكتبها وينشر حلقاتها فى الصحف إبتداءً من سنة ٢٠٠٠م خلال فترة من أبشع عهود الطغيان والاستبداد التى مرت بمصر،
وثانيها- أن المحتوى الموضوعي الأساسي يتضمن هجوما كاسحًا على النظام الحاكم؛ يُعرِّى فلسفته ومواقفه، ويكشف أساليبه الخفية، وآلياته فى القهر، والنهب و الإفساد،
وثالثها- أنه ينطوى على رسالة لا تخطئها عين الخبير؛ خلاصتها أن الأمر لا يمكن السكوت عليه، وأن ثورة شعبية تلوح فى الأفق البعيد، لا مفرَّ منها، وأن المسألة هى مسألة حياة أو موت، مسألة وجودية؛ فإما أن يستمر هذا النظام فى االحياة ويموت الشعب، وإما أن يهبَّ الشعب ليستخلص وجوده ويقضى على النظام.. وليس هناك اختيار ثالث..
ومن هنا نفهم الوظيفة الحتمية للإيهام بشكل مكثَّف: حيث يستخدم المؤلف فيه تكتيك الحلم برموزه وتهويماته اللامنطقية درْعًا واقيًا لامتصاص الصواعق المحتملة من قِبَلِ السلطة الغاشمة؛ فالحلم يضع على الوقائع الصارخة غلالة ضبابية ويخلع على الحقائق تهويمات تزعزع من صلابتها فى عيون المتربصين، ويأتى فى هذا السياق، إيراد أسوأ الأخبار على ألسنة الآخرين، وبث النوادر والفكاهات الّلاذعة الساخرة فى ثنايا الرواية على سبيل التمويه، ولكنها ترد دائما كجزء لا يتجزأ من التطور الدرامي للرواية..
نعرف من أساليب المراوغة الشهيرة المنديلَ الأحمر الذى يلوّح به مصارع الثِّيران الأسباني أمام الثور الهائج، فيطيش صوابه ويهرول مندفعا ذات اليمين وذات الشمال ينطح المنديل حتى ينهك قواه ، وفى لحظة خاطفه يخرج المصارع سيفه ليهوى به على رقبة الثور المنهك فيسقط صريعًا على الأرض.
الجمهور المشاهد يعرف الحيلة؛ فهو يرى السيف طول الوقت فى اليد اليُمنى للمصارع الرشيق مختفيا وراء ظهره، ويمسك أنفاسه من الرَّوْعِ حتى تأتى اللحظة الفاصلة.. وهكذا يعبث المؤلف بعقل الطاغية ورجاله، مستفيدًا -إلى أقصى المدى- بهامش الحرية الذى أتاحه النظام، بينما جمهور القراء فاهمٌ لأبعاد المعركة غير المتكافئة، ومدرك لمرامى المؤلف، ويتجاوب مع أحداث الرواية على أساس هذا الإدراك...
إنها لعبة خطرة، محفوفة بالمهالك بالنسبة للمؤلف، يدركها تمامًا ويعلم أنه معرض لأهوال محتملة، ولكن ماذا تفعل الأهوال فى قلب جسور يؤمن بأن الحياة والموت فى قبضة خالق الحياة والموت، وأن الشهادة فى سبيل غاية نبيلة هي أقصى ما يتمناه إنسان مؤمن عميق الإيمان.. وأن الأمانة التى حُمِّلت إليه، لا يمكن التخلص من تبعاتها مهما كانت الأعذار والصعوبات..
فى تاريخ الأدب العربي والعالمي سنجد نماذج قريبة الشبه من رواية محمد عباس من حيث استخدام تكتيك الإيهام لظروف سياسية واجتماعية مشابهة؛ نضرب لذلك مثلا بـ"مزرعة الحيوان" لجورج أورويل ، و كليلة ودمنة التى أجراها صاحبها على ألسنة الحيوانات، حتى لا يقع تحت طائلة السلطة الباطشة..
ولكن الإيهام الأوقع فى كتاب "كليلة ودمنة" ليس هو استخدام الحيوانات لتقوم بدور الشخصيات الإنسانية، وإنما لأن مؤلّفه الحقيقي ليس بيدبا الفيلسوف الهندي كما جاء فى مقدمة الكتاب على لسان عبد الله بن المقَفَّع، الذى ذكر أنه ترجم الكتاب فقط، ولم يفطن العرب أن المقدمة الافتتاحية كانت جزءًا لا يتجزأ من هذا العمل الأدبي المتفرِّد، أتاحت لصاحبه أن ينتقد مجتمع عصره دون أن يتعرَّض للأذى، وقد انطلت الحيلة على الأجيال العربية على مدى ثلاثة عشر قرنا من الزمان، حتى جاء باحث عبقري متخصص فى الأدب الشعبي هو "الدكتور محمد رجب النجار" الذى أكّد –فى دراسة تحليلية متعمِّقة- نسبة الكتاب إلى ابن المقفع تأليفًا على الأصالة، وأنه ليس ترجمةً لكتاب هنديّ، لا وجود له فى تاريخ الأدب الهنديّ.
هذه الحيلة الفنية هى بذاتها التى لجأ إليها الدكتور محمد عباس ليوهمنا أنه تلقَّى نصوص "بروتوكولات حكماء العرب" من شخص مجهول الهوية أرسلها إليه على شكل مخطوط غريب، فى ظروف غريبة وبشروط مفروضة عليه هى أكثر غرابة؛ فهو لا يستطيع أن يبوح حتى عن كيفية وصول البروتوكولات إليه، إلا إشارةً أو تلميحًا، بل يوهمنا أكثر من ذلك بأنه تورَّط فى الأمر دون إرادة منه، ولا رغبة فيه.. لقد جاءته "البروتوكولات" بالبريد ولكنه فشل فى معرفة البلد التى صُدِّرَت منها، ولم يستطع أن يستنبط من كلامها من أيّ البلاد جاءت، ولا حتى الفترة الزمنية التى كُتِبت فيها..
يقول:
" أثناء قراءتي كنت أظن أحيانا أنها كتبت أمس أو اليوم وأن من كتبها قد تعمد أن يدسَّ فيها أحداثا قديمة تنصُّلًا مما قد تجرّه عليه من متاعب.. وفى أحيان أخرى كنت أؤكد أنها كُتبت منذ ألف عام.. لكن المرسل المجهول دس فيها ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم وما قد يحدث غدا ... بل أحيانا كان يشير إلى حرب بالصواريخ زمن السيف... وكان يرمز إلى حرب بالسيوف زمن الصواريخ.. ولست أدرى لماذا فعل ذلك؟.. لماذا حرص على كل هذا الغموض.. أهو مجرد الإخفاء لأصْلِ نصٍّ خطيٍر كهذا؟ .. أم أنه بالغموض يُعَظِّمُ تأثير قوة الأسطورة فيما يكتب..؟!"
هذه الأسئلة نفسها هى ما يجب أن نوجِّهها إلى المؤلف، وهى التى يجب أن نحاول استخلاص الإجابة عليها من قراءتنا للنص.. الذى يصفه بقوله: "أصارحكم القول يا قراء.. أنني في كل مرة كنت أشعر بخيبة أمل فظيعة.. إذ ما أكاد أضع يدي على يقين حتى يختفي.. رغم أن السطور تَشِفُّ حتى تكاد تنطق.. والمعاني تَرِقُّ حتى تكاد تُرى.. لكنها لا تنطق أبدا ولا تُرى..".
هذه الخاصية الزئبقية المتقلِّبة بين الشفافية الناطقة المرئية وبين الغموض الملتبس المبهم، يرتبك المتربّص فى حيرته، كما يرتبك الثور أمام المنديل الأحمر، وينعم القارئ الفطن بوضوح رؤيته السِّرية المُخْتَلَسَة، حتى ليكاد يلمس بيده أحداثا واقعية ، ويرى شخصيات بعينها وأسمائها؛ يتعرف عليهم من واقع خبرته اليومية فى الحياة.
هناك خصوصية أخرى ينفرد بها هذا النص الأدبيُّ، لا بد أن نلفت النظر إليها؛ فوظيفة الإيهام عند محمد عباس على نقيض وظيفته فى الروايات التقليدية الأخرى؛ ففى هذه الروايات -رغم أنها من صنع الخيال- إلا أن المؤلف يحشد فيها أسماء أشخاص وأماكن وعادات وأحداث اجتماعية أو تاريخية مألوفة، مما يكتنف حياتنا اليومية؛ بحيث نظن واهمين أن المؤلف يسرد لنا قصة حياة واقعية لأناس حقيقيين وأحداث حقيقية.
أما محمد عباس فإنه يفعل عكس ذلك تماما فهو يبدأ من الحقيقي والواقعي؛ بمعنى أنه يلتقط من الواقع كتلة من الحقائق التى قد تكون صادمة بالغة الإيلام، ثم يمضى فى عرض تفاصيلها، ويحلل أبعادها ومراميها، ويكشف لنا عن تأثيراتها الخطيرة فى حياتنا ومستقبلنا.. ولكنه –فى كل هذا- يقدّمها إلينا فى إطار درامي ، يريد بذلك أن نتمثّل واقعنا نحن المأساوي، لا لِنُمَصْمِصَ شفاهنا يأسًا ثم نمضى، ولكن لكي نعقد العزم على أن هذا الواقع لا يمكن أن نستهين به أو نغفل عنه، وأننا لا يمكن .. ولا ينبغى أن نتملَّص من مسئوليتنا تجاهه، وأنه قائم فينا حتى نعمل على تغييره فى عقولنا وفى واقع حياتنا على السواء.. !!
محمد عباس يبدأ بنفسه كمثال على الموقف الذى يتلطَّف فى دعوتنا إليه حيث يقول: " أقرأ فأفهم فأعلم وأعرف فتلزمني الحجة أمامكم وأمام المُرْسِل المجهول وأمام الأمة وأمام التاريخ، وأمام الله يوم القيامة فيهولني عِظَمُ الأمر الذي وقعت فيه..."
لم أحاول التعريف بالدكتور محمد عباس فهو معروف لدى قُراء العربية من مؤلَّفاته الغزيرة الجسورة، و من كتاباته الصحفية المتدفقة كالسيل، والتى ملأت القلوب والأسماع وحرّكت الجماهير الغاضبة ضد السلطة الباغية المنحرفة فى موقعة " وليمة لأعشاب البحر".. لقد أصبحت مؤلفاته ورواياته علامات بارزة فى طريق ثورة الجماهير ضد الظلم والطغيان، فهو مؤلف كتب: "رأيت الملك عاريا" و " الحاكم لصًّا" و "الوعى ينزف من ثقوب الذاكرة" و "مباحث أمن الدولة" و "اغتيال أمة" و " من مواطن مصري إلى الرئيس مبارك"..
وهو الذى وصف ثورة الشعب فى ميدان التحرير -بتفاصيلها المذهلة- كما وقعت بعد ذلك بسنوات، وهو الذى تجرَّأ على مخاطبة الدكتاتور مبارك فى أوج سطوته، وسأله مجابهًا مستنكرًا فى العديد من كتبه ومقالاته: كيف يواجه خالقه وسيده عندما يسأله يوم القيامة عن ظلمه ، وجرائم رجاله فى حق هذا الشعب الذى استأمنه على الحكم فخان أمانته..؟!
فى حوار له مع صحيفة الوسط اللندنية، يكشف لنا سر الشخصية الرئيسية الغامضة التى تهيمن على المشهد خلال فصول الرواية؛ توحي لحكام العرب كيف يسيطرون على شعوبهم وكيف يستمرون فى السلطة..؟ وكيف يتصرفون فى المواقف المختلفة والأزمات الطارئة..؟ وكيف يخاطبون الناس..؟ وكيف يتعاملون مع شعوبهم..؟ وكيف يختارون مساعديهم..؟ والأهداف التى يجب أن يسعوا إلى تحقيقها..؟. يقول:
" كنت أتخيل فيها أن لكل مهن الدنيا مراجعها فمن يريد أن يتعمق فى مهنته يرجع إلى هذه المراجع.. كما يوجد العباقرة الذين يشكلون مراجع حية.. كل المهن ما عدا حكم الشعوب.. تخيلت أننى عثرت على عبقرى راح يعلِّم مجموعة من الناس كيف يحكمون عالمنا العربى.. والحقيقة أننى كنت أرمز به للشيطان.. وراح الشيطان يوسوس للحكام.. وكان مما وسوس به لأحدهم: كيف يخدع شعبه حتى يجعل هذا الشعب هو الذى يطالب ويلح فى أن يتولى ابنه الرئاسة من بعده..."
ليس الشيطان إذن هو المرجعية العليا لحكام العرب فحسب ولكنه الشخصية الأساسية الملهمة والمسيطرة فى هذه الرواية، والأستاذ الوحيد للمدرسة التى يتخرجون فيها ، فهم تلاميذ دائمون للشيطان قبل التخرج وبعده، لا يمكنهم الاستغناء عن نصائحه وتوجيهاته وتحذيراته، وقد بيّن لهم بالأمثلة كيف ضيَّع بعضهم سلطانه وانتهت حياتهم بالقتل أو السجن لغبائهم.. ولأنهم لم يتبعوا نصائحه ويخضعوا لحكمته، ويتنبّهوا لتحذيراته.
توجد قاعدة جوهرية فى بروتوكولات حكماء العرب كما يعرضها المرجع الأعلى فى حديثه لهم حيث يقول: "الأمل الوحيد في احتفاظكم بأماكنكم هو أن تفكروا بطريقة مختلفة اختلافا كليا عن طريقة تفكير العامة والدهماء والجماهير... فعندما أقول كلمة الحرية مثلا.. فلابد أن يختلف المعنى عند الحاكم عنه عند المحكوم.. بل هو التضاد الكامل.. فعندما نتكلم -فيما بيننا فقط وليس أمام الدهماء- عن الحرية فإننا نقصد حريتنا نحن في الحكم وليس حريتهم.. بل إن أي قدر من الحرية يُمنح لأولئك السوقة هو انتقاص واستلاب لحريتكم .. [ولكن انتبهوا] لإنكم إن منعتم الحرية تماما عن رعاياكم فإنهم سيثورون عليكم لتفقدوا الحكم.. فإذا ما أسرفتم في منحهم الحرية سيثورون أيضا عليكم وستفقدون الحكم ... إن الجماهير كالعبد الخسيس.. إذا جاع سرق وإذا شبع زنَى.. لذلك فإنكم مع مثل هذا العبد يجب أن تعطوه من الطعام ما يكفى بالكاد لأغراضكم في استخدامه بحيث لا يجوع ولا يشبع...".
ثم يؤكّد هذا المعنى فيقول: "عبقريتكم ونجاحكم يعتمد على استعمال نفس الكلمة للدلالة على المعنيين المتناقضين.. أن تقول الكلمة تقصد بها معنى في رأسك بينما يفهم سامعك نفس الكلمة لكنه يفهم منها المعنى المضاد تمامًا.. وأن تطبقوا هذا المفهوم على كلمات: الاستقلال والرفاهية والديمقراطية والتنوير والدستور والسلام والحرب والإرهاب والتعصب والتطرف والتمدن والحضارة والعلم والجهل والبداوة والتقدم والرحمة والأمن والأمان والأمانة والإيمان والتنوير والعلم ونزاهة الانتخابات وحرية التعبير وحرية المرأة.. "
يستتبع هذا فى منطق البروتوكولات أنه لا يوجد حق وباطل، ولا خير و شر.. ولا أمانة و خيانة.. ولا صواب و خطأ.. ولا حلال –بالطبع- ولا حرام.. إنما يوجد فقط قوة وضعف.. مفيد وضار.. مكسب وخسارة..
الصواب فى منطق البروتوكولات هو كل ما تستطيع أن تثبته بالقوة مهما كان خطؤه.. والباطل هو كل ما يقوله الآخَرُ الذى لا يملك سيفا يهددك به دفاعا عن حقه مهما كان صوابه..
الدين نفسه لا يخرج عن هذه القاعدة، وبها يمكن استخدامه والتلاعب به حتى لتكفير الجماهير بالدين الصحيح، ولكن هذا "لن يكون تحت راية الكفر بل تحت راية الإيمان؛ فالدهماء يحتاجون للإيمان لأنه عزاؤهم الوحيد من التعاسة والحرمان، ولكن الإيمان الذى تسمح به البروتوكولات ليس هو الإيمان بالله بل الإيمان بالحاكم، والكفر لا يعنى الكفر بالله بل الخروج على الحاكم.. "
هذا الانقلاب فى القيم والمعايير لا بد أن نستخلص منه أن خير النتائج في حكم الشعب هى "ما يُنتزع بالعنف والإرهاب والتزوير وتعذيب المعارضين، لا بالمناقشات والحوار معهم ... ولكن بشرط ألَّا تعترفوا أبدا أنهم معارضون أو أنكم إرهابيون."
لا ينبغى أن ننسى أبدا أن صانع هذه الشخصية الشيطانية المروِّعة هو المؤلف نفسه، وأن صناعتها لم تأت من فراغ وإنما من تحليل عميق لواقع السلطة المستبدِّة فى علاقتها بالشعوب، إن المؤلف هو الذى يضع على لسان الشيطان المعلّم نصائحه للحكام.. ولكى يجسِّدها للقارئ يقتحم مجرى حديثه من وقت إلى آخر ليجرى على لسانه شاهدًا من الواقع الملموس كمثال على صدق تحذيراته و العبرة المستخلصة من مخالفتها.. يقول الشيطان:
"لقد بلغ انزعاجي مبلغا عظيما عندما لا حظت أن بعضكم مثلا مارس بغباء منقطع النظير تزوير الانتخابات بطريقة لم تحدث في التاريخ عندما استدعى جيشه كله ليحول بين الناس وبين الوصول إلى صندوق الانتخاب.. وكان العالم يرى ويصور ويعرض.. والغبيّ يظن أنه كسب المعركة بينما هو قد خسر شرعيته كلها في نفس اللحظة.. " هنا نحن أمام مشهد واقعي يعرفه كل الناس، ويعرفون زمن حدوثه ومكان حدوثه ويعرفون أن الرئيس المخلوع مبارك هو المعنيُّ بهذا المثال..
فى هذه الواقعة وأمثالها -التى تتكرر فى ثنايا الرواية كثيرا- يشعر القارئ بحضور قويّ للمؤلف الذى يمسك بخيوط اللعبة من وراء ستار، وفى هذه اللحظة بالذات يتزايد التفاعل بين المؤلف والقارئ، الذى لم يعد مجرد متلّقٍّ برّانيٍّ، بل مشارك متوحِّدٍ مع المؤلف فى رُؤيته ومشاعره ليصبحا معًا عنصرا من عناصر الحدث الدرامي.. غاضبيْن من واقع شرِّيرٍ لا بد من القضاء عليه.. وفى هذا تتمايز الأعمال الدرامية درجات كثيرة تتراوح بين الدراما "الرسالة" والدراما "المُتْعة الخالصة"؛ ولا أضمِّن فى هذا التصنيف القصص والروايات الهابطة التى تخاطب الغرائز السفلى فى الإنسان، فهذه لا يمكن اعتبارها أدبًا حقيقيا، وإنما تصنف مع السفاهات التى تعكس أمراض المجتمع....
بروتوكولات محمد عباس ليست مجرد رسالة ، ولا " آنا كارنينا" تولستوي مجرد متعة أو "الفن من أجل الفن"، وإلا فَقَدَ كلاهما جدارته الأدبية و قيمته الإنسانية.
ولكن يمكن القول بأن موقعهما بين الطرفين مختلف؛ فالأولى أقرب فى موقعها من الرسالة، والثانية أقرب إلى الفن الخالص، ولكنهما معا منغمسان فى الواقع بدرجات مختلفة، وكلاهما يتوجَّه بقوة لنقد مجتمع بعينه نقدا كاسحا، رافضا للأسس االفاسدة التى قام عليها؛ يركز محمد عباس على نظام الحكم الفردي الجائر، ويركز تولستوي على نفاق الطبقة الأرستقراطية، ويزدرى القيم المتكلّسة والقيود التى تفرضها على المجتمع كنيسة عقيم متسلطة، ، لقد كانت "آنا كارنينا" الشخصية الأساسية فى الرواية ضحية لقاعدة أرثوذكسية تحرم الطلاق وتحرم الزواج الثانى، تضطر إلى الانفصال ماديا عن زوجها، بعد أن انفصلا عاطفيا ووجدانيًّا سنين عددًا؛ فقد كان زواج مصالح طبقية، غاب عنه الحب الحقيقي وانعدم التوافق والتراحم، ولكنها تجد أن الطلاق محرّمٌ فى الكنيسة .. ومنكرٌ فى المجتمع، وأن الزواج الثاني أشد إنكارا، فتقع فى صراع نفسي ينتهى بها إلى جنون، يدفعها إلى الانتحار تحت عجلات القطار..
نهاية مأساوية مدوِّية.. تحمل إلى المجتمع دعوة لتغييرٍ واجبٍ.. وهذه رسالة لا يمكن إنكارها، رسالة تعززها معرفتنا بفكر تولستوى الفلسفي فقد كان مناهضا للكنيسة وأفكارها الجامدة المتخلِّفة، ونعرف هواه الإسلامي الذى لم يصرِّح به ولكنه عبر عنه فى روايتين، يحملان عشقا فطريا للعيش فى مجتمعات القوقاز المسلمة يسماحتها وعفويتها وشجاعتها واستهانة أبنائها بالموت دفاعا عن حريتهم، كانت الرواية الأولى بعنوان "القوقازيون"، والثانية بعنوان "الحاج مراد" التى لم تُنشرفى حياته وإنما تمّ نشرها بعد وفاته..
كتب تولستوي سنة ١٨٦٥ رسالة إلى صديق له قال فيها: " يهتم بعض الأدباء بقضايا تحرير المرأة وغيرها من القضايا، ولكن هذه القضايا الاجتماعية غير ذات قيمة فى عالم الأدب، بل لا يصح أن يكون لها مكان فيه على الإطلاق فحلّ هذه المشكلات ليست من وظائف الفنان، فليس للفن أهداف اجتماعية، ولكن مهمته الأساسية أن يجعل الناس يحبون الحياة بكل أبعادها.
فإذا قيل لى أنه يجب عليّ أن أكتب لعرض الرأي الصحيح فى جميع المشكلات الاجتماعية، فلن أضيع من عمري ولا ساعتين فى كتابة مثل هذا الكلام فى رواية لى ، ولكن إذا قيل لى أن أكتب ما يجذب أطفال اليوم لقراءة رواياتى بعد عشرين عاما ، وأنهم سوف ينفعلون بها سرورا وحزنا فسوف أكرّس حياتى وكل طاقتى لها".
وكانت رواية "آنا كارنينا" نتاج هذا التكريس؛ نعم فيها المشكلات الاجتماعية ولكنها منسوجة بحياة ومصائر شخصيات حية ومتألقة..
كانت رسالة تولستوي إلى صديقه بهذه الحرارة والتأكيد تعبر عن اقتناعه وطموحاته الفنية، ولكنها فى نفس الوقت تمثِّل نوعًا معقَّدا من الإيهام، يحب أن يُشاع عنه، لتغطية ميلٍ فى أعماقه لنقد المسيحية الأرثوذكسية، دون التعرُّض لسطوة الكنيسة المتربِّصة..
وقد يتمادى الأديب فى إيهام واضح متعمّد -ومنحرف فى نفس الوقت- كما فعل فولتير الذى كان يكره الكنيسة الكاثوليكية ويريد مهاجمتها ولكنه لم يجرؤ خوفا من محاكم التفتيش الرهيبة فكتب مسرحيته "التعصب" يصبُّ جام غضبه على شخصية النبي محمد بدلا من الكنيسة.. وكان يعتقد فى ذلك الوقت أن محمدا ليس بأفضل من نبي من أنبياء العهد القديم الذين لا يحظون باحترامه..
كان فولتير ناقمًا على الكنيسة الكاثوليكية وعلى كهنتها و خرافاتها وتسلّطها ، ولكنه لم يكن ملحدًا كافرا بالألوهية فهو القائل: " يجب أن يكون لنا دين، ولكن يجب ألا نؤمن بالكهنة" وهو القائل:" أنا أؤمن بوجود إله واحد إيمانًا مبنيًا على العقل"..
هذا الإيمان العقلى هو الذى دفعه لمزيد من البحث عن الحقيقة فى الإسلام ونبي الإسلام.. وقد بهرته الحقيقة التى غابت عنه؛ فكتب ينصف الإسلام وينصف نبيه وكأنه يعتذر إليه" ولذلك نستطيع بكل اطمئنان وثقة أن نقول أن فولتير لم يكن يقصد بمسرحية "التعصب" الهجوم على شخصية محمد التاريخية الواقعية، وإنما كان يقصد الكنيسة الكاثوليكية، وقد اتخذ من محمد درعا واقيا للإيهام والتَّخفِّى من سطوة الكنيسة، ومع ذلك فقد أدرك معاصروه هذه الحيلة وصوَّب إليه أنصار الكنيسة نقدًا مريرًا..
يعجب الإنسان كيف تمكن حُكَّامُ العرب من السيطرة على جماهير شعوبهم، وخداعهم وسحقهم وإفساد حياتهم على هذا النحو المذهل.. ولكن يزول هذا العجب بقراءة بروتوكولات محمد عباس، فهذه البروتوكولات تجيب على أسئلة كثيرة تؤرِّق عقولنا و لا نجد لها إجابة شافية فى أى مصدر آخر.
من هذه الأسئلة : مالذى يجعل حاكما يعين وزيرا شاذًا جنسيًّا..؟ وكيف سيتعامل معه زملاؤه فى مجلس الوزراء..؟ وكيف ستتسرَّب سيرته العفنة لتلوِّث الألسنة والأفئدة والمجتمع بأسْره، ويصبح الشذوذ والانحراف مادة مألوفة يتناولها الناس بجرأة بعد أن كان الحديث عنها أو حتى الإشارة إليها من المحرمات والرذائل المنكرة.
إنها تجيب أيضا على سؤال: إذا كان الملك أو الرئيس يعرف أن فريقا من شعبه قد كشف أنه لص وجلَّاد وخائن لشعبه، ومجرم وكافر، فما الذى يجعله مطمئنا محافظا على توازنه، قادرا على قلب الحقائق بحيث يبدو أعداؤه هم المجرمون واللصوص والجلادون والكفرة..؟!
وتجيب على سؤال آخر على جانب كبير من الأهمية وهو لماذا يتعامل صاحب السلطان مع العدوّ الخارجيّ بالاستسلام والتبعية إلى درجة الانسحاق .. ومع أعدائه فى الداخل وهم جماهير الشعب بالقهر والتمزيق والسحق والفتنة والقتل..؟!
وما هى الحكمة فى أن يحيل الحاكم عملية قتل أعدائه إلى النيابة والقضاء..؟ وكيف ينجح فى تطويعهما لخدمة أغراضه وتحقيق مآربه..؟ وكيف يطوّع رجال الدين أيضًا لنفس الغرض..؟ إذ يحاصر المعاندين و المعارضين منهم والمتمردين على سلطته، ويختار أكابر شيوخهم ليصبحوا مجرد موظفين عنده يوجهون فتاويهم لخدمة مصالحه.. فيحرِّمون الحلال ويحلِّلُون الحرام..؟
محمد عباس يجيب فى روايته بتحليلاته الدقيقة وباقتداره المعهود عن هذه الأسئلة فلا يدع مجالا لحيرةٍ أو شكّ..
بهذا التحليل والاقتدار يقتحم العلاقة المعقدة شديدة التناقض بين الحاكم العربي وبين أعدائه فى الخارج والداخل لكي يحتفظ بسلطته الدائمة: فهو مضطر للخضوع والاستسلام للعدو الأجنبي، ولكنه دائم الإنكار لهذه التبعية أمام شعبه.. ولأنه لم يأت إلى السلطة عن طريقها الشرعي وباختيار الإرادة الحرة للجماهير، فهو مضطر إلى استخدام أبشع أساليب القهر والعنف والإفساد لشعبه ، ومع ذلك تجده منكرًا –على طول الخط- استخدامه لهذه الأساليب.. تساعده فى إنكار الحقيقة وتزييف الواقع كل الأجهزة والمؤسسات التى دأب على إفسادها وتطويعها لخدمة مصالحه..
هذه الإشكالية بالغة التعقيد لا تكاد تتضح معالمها أمام المستفسر الحائر، ولكنها تتجلى بتفاصيلها الدقيقة وتناقضاتها المثيرة فى رواية محمد عباس؛ ولا ينبغى هنا أن ننسى ونحن نقرأ الرواية إن الأمر فى موضوع السيطرة على الشعوب ليس بالبساطة التى نتصورها، بل هو كما يرد على لسان الشيطان بطل الرواية: " معقد بدرجة لا يمكن أن يفهمها إلا داهية.." ويأتى الالتباس من حقيقة أنه "ليس هناك فارق حقيقي بين السياسة والحكم من ناحية وبين النصب والاحتيال من ناحية أخرى.." وتلك هى القاعدة الذهبية للحكام .. لذلك لا يدخر بطل الرواية نصيحة تمكِّنهم من السيطرة إلا قدّمها، مصحوبة بتحذير واضح لعدم الانحراف قيد أنملة فى تنفيذها..
من أبرز نصائحه لهم مراعات خصلة العبودية واستمرائها فى كل من يعمل تحت إمرة الحاكم: إبتاداءًا من الوزراء، والشيخ الأكبر، والمحافظين ورؤساء تحرير الصحف وجميع المسئولين الكبار فى الإعلام والثقافة والتعليم والصناعة والتجارة والزراعة..
هذه الإلهامات الشيطانية لا بد أن تقودنا إلى تحذير مركزي من "الإيمان بالله" ؛ فالله عنصر خطر.. علينا أن نعزله عن حياتنا كلها..!" والسبب ببساطة شديدة كما يحذر الشيطان:
"لِكَيْ يكون كل شيء مُبَاحًا لكم .. عليكم أن تبتعدوا عن فكرة الله.. فبغيابه لا تصبح الفضيلة فضيلة ولا الرذيلة رذيلة ولا الخير خيرا ولا الشر شرا ... ولا الحق حقا ولا الباطل باطلا... ثمة تعارض كامل بين استمراركم واستمرار الإيمان بالله.. وفى وجود الله لا توجد لكم أي مشروعية وليس مباحا لكم أن تحكموا وتسودوا... (الشيطان وليس الله) هو ما يجب أن يعتمد عليه كل حاكم..!"
هذه النقطة بصفة خاصة تحظى بتأكيد غير عادي من صاحب البروتوكلات فهو يرى أن الكفر هو الهيكل الخرساني للحكم والكفار هم لَبِناتِه... وأن كل عضو جديد في نادي الكفر سيتحول إلى داعية، وبهذا التراكم المستمر تتشكل قوة هائلة كقوة الإعصار تعصف بالمجتمعات ووحدتها عصفا شديدا.
ويمضى فى نصائحه مفصّلًا تفصيلًا مذهلًا حيث يقول: "فإن عجزتم عن ذلك فإن عليكم أن تقتحموا الدين من الداخل.. انشروا البدع..روِّجوا للكفار على أنهم مفكرون إسلاميون كبار.. وتحدثوا عن (الإسلاميين الحقيقيين على أنهم إرهابيون..) ثم دعوا أجهزتكم تروِّج للفاحشة وتنشرها فليس أقدر من الكبائر على هدم إيمان المؤمنين.. قد تعجزون مع الجيل الأول من المؤمنين.. لكنكم ستصيبونهم في مقتل عندما تستدرجون أبناءهم وأسرهم لتخيّبوا آمالهم ولتحطموا قلوبهم..
هوِّنوا من أمر الكبائر واجعلوها حرية شخصية كما جعلتم من الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه.. اجعلوا الزِّنا حبًّا.. والخَنا تقدُّمًا.. والخمر مشروبا روحيا والدعارة شطارة والتحرير تعهيرا.. والعفة جمودا.. والطهارة انغلاقا.. باختصار: ادفعوهم إلى الخجل مما درجوا على الفخر به، وإلى الفخر بما درجوا على الخجل منه..."
لا تعجب بعد هذا كله إذا قلت لك: أن فى البروتوكولات دور للإيمان بالغيب؛ يتظاهر به الحكام أمام الرعية، ولكنه إيمان من نوع مختلف تماما عن الغيب الذي يؤمن به الرعية.. فغيب الحُكّام يعني أن كوارث الإهمال كغرق العبّارة المعيبة وعلى متنها ألف إنسان، وحرائق قطارات الصعيد كلها قضاء وقدر.. وأن الناس تُعساء محرومين لأنهم أَخْيار، لا لأن حكامهم أشرار، ولأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.. وأن الأيام القادمة أسود من الأيام الماضية؛ والدليل فى الحكمة الشائعة (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع..).
يقول الشيطان لتلاميذه:"لا تعارضوهم في هذه المفاهيم أبدا.. لكنكم ستحاولون دائما تدمير إيمان الناس دون أن تظهر لأي واحد منكم أي بصمة.. هل سمع واحد منكم أنه أمكن التقاط بصمة للشيطان..؟! .. أريدكم أن تفعلوا مثله..."
ليس فى البروتوكولات قصة حب بشري مثيرة مثل بقية الروايات التقليدية، وهذه خصوصية تميز هذه الرواية ؛ فالإثارة لها مصادر أخرى تتسق مع موضوعها الخطير، من أبرزها اكتشاف الحقائق المزلزلة تحت أستار كثيفة من فنون التمويه والتنكّر والتزييف.. إنما هناك دور خطير للكراهية يوصى بها المعلم الأكبر حيث يقول للحُكَّام:
"اكْرهوا ما استطعتم.. فبِمَدَى قدرتكم على الكراهية يطول حكمكم وتدوم انتصاراتكم.. انثروا حولكم الكراهية والحقد والبغضاء والحيرة والحسد.. بالكراهية تفتِّتون قوة الآخرين وتفرقون جموعهم... غذُّوا الصراع في كل مكان.. بين الأغنياء والفقراء.. بين الطوائف والأحزاب والهيئات... بين الأحزاب السياسية.. بل بين الأفراد بعضهم البعض.."
إنه يثنى على الحكام براعتهم فى تسخير الصحافة والإعلام لتبييض صحائفهم وتسويد صفحات معارضيهم: " إنكم تستطيعون اختلاق الحكايات وتدبير الشهود وتزوير الوثائق واصطناع المستندات وحتى شرائط التسجيل بالصوت وبالصورة.. نعم.. الكذب ليس عيبا وعليكم أن تمارسوه بقدر ما يفيد .. وكذلك اللصوصية وكافة الموبقات الأخرى.."
ولأن كل هذا يعبر عن منظومة واحدة متكاملة لا يفتأ المعلم الأكبر يذكِّر الحكام بنصيحة جوهرية طالما أشار إليها فى دروسه.. يقول: "إن أعظم استثمار للرؤساء والملوك والأمراء .. ليس الاستثمار في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا .. وليس حتى في عمولات السلاح وصناعة المخدرات وتهريب الذهب .. وإنما في توظيف القضاء والنيابة ورجال الدين لصالح سياسة الحكم...!"
والمعلم الأكبر عبقرية ملهمة -يرى المستقبل بوضوح رؤِيته للماضى والحاضر- لا ينسى أن يدعم تلاميذه بنصائحه لمواجهة المخاطر المحتملة إذا ساءت العلاقة بين الحاكم وجماهير شعبه إلى درجة الانفجار، وأعلن الرعاع والدهماء الثورة.. يقول لهم: " في البداية يجب أن نواجههم بمنتهى القسوة والعنف.. اسحقوهم بالدبابات والطائرات.. وتذكروا أن فائدة الجيوش القصوى ونتائجها المبهرة تقبع في مواجهة الشعوب وليس في مواجهة جيش خارجيّ..".. ثم يمضى يصف الخطوات التالية فى المواجهة كأنه ينظر إلى ماحدث بعد ذلك فى تونس ومصر وليبيا وما يحدث الآن فى سوريا...!!
هذا المعلم العبقري لا يفرط فى أداء واجباته –فى أي مناسبة سانحة- نحو إعداد تلاميذه وخلصائه من الحكام، فتراه يستدعى أحد الملوك الجدد إلى جواره ليدشِّنه فى بداية عهده، بأداء القسم الأعظم أمام زملائه.. وياله من قسم مروِّع، إنه يتألف من ثمانية وخمسين بندًا، كل بند منها جريمة كبرى أو خيانة عظمى أقل عقاب لها فى عدالة الدنيا هى الإعدام شنقًا أو رميًا بالرصاص، و فى العدالة الإلهية الدرك الأسفل من النار.. هذه بعض عينات منها:
•" أقسم بالقسم الأعظم ألَّا تكون هناك دولة في العالم أقرب إلىّ ولا أحب إلى قلبي من دولة إسرائيل .
• أقسم بالقسم الأعظم ألا أتوانَى عن إضعاف جيش بلادي وإفساد تدريبه واستبعاد كل عناصر الخبرة والفكر والدين والوطنية والقومية منه ، وكذلك إحالة كل الكوادر المحترفة إلى التقاعد [المبكر] .. خاصة أولئك الذين اشتركوا في حروب ضد إسرائيل.. وأن نتعقبهم ونضطهدهم وننكِّل بهم جزاء وفاقًا على ما ارتكبت أيديهم.. ولكي يكونوا عبرة لمن يعتبر..
• أقسم بالقسم الأعظم .. أن أنتقى أسوأ القواد وأغْبى الوزراء و أخس المستشارين .
• أقسم بالقسم الأعظم أن أولّى من القضاة شرارهم وأن أصفِّى خيارهم، حتى أفسد القضاء .
• أقسم بالقسم الأعظم أن أُعْلى القوانين الدولية على قوانين الإسلام وأن أجعلها حاكمة عليه متحكمة فيه .. وأقسم أن أفْصِمَ عرى الإسلام عروة بعد عروة حتى لا يبقى منها شيء.
• أقسم بالقسم الأعظم أن أجعل من محاولة أي فرد أو فئة أو جماعة أو حزب يحاول إحياء الإسلام عبرة لمن يعتبر .. وأن أجعل من هذه المحاولة أكبر الجرائم وشر الفتن.. وألا تأخذني رأفة ولا شفقة بمن يرتكبها..
•أقسم بالقسم الأعظم .. أن أكون مخلصا في هدم الأمة الإسلامية.. وأن أبذل الرخيص والغالي لمنع وحدتها .."
كنت فى السابق أندهش من حاكم مثل المخلوع مبارك وهو لا يدع فرصة أو مناسبة إلا ويلقى باللوم على الشعب؛ فالشعب هو المسئول عن نقص القمح والطعام لإفراطه فى الإنجاب وزيادة عدد السكان.. وفى نقص السلع الغذائية بالأسواق وارتفاع أسعارها لسوء استخدامه لها، وهو المسئول عن كل أنواع الفساد والرشاوى فى المجتمع... وكان يزعم دائما أنه يتعب ويسافر كثيرا إلى الخارج ليوفر للشعب احتياجاته.. ولولا سفرياته لجاع الناس.. حتى قرأت البروتوكولات وفهمت مصدر هذا الخبث وهدفه .. فسيده وأستاذه الأكبر يقول فى نصائحه:
" سوف تتحدثون عن تخلّف الشعب.. عن جهله.. عن قلة إنتاجيته وزيادة استهلاكه.. عن غبائه وعدم قدرته على الفهم... وكل هذا مجرد تمهيد للبطش والقمع لشعب لم يربّ ويجب أن يساس بالحديد والنار... نعم .. عليكم أن تدفعوا شعوبكم للشعور بالإثم والعار لأنهم سبب كل هزيمة وأنه لولاكم لساءت الأمور إلى غير حد.. عليكم أن تزرعوا في أذهان الناس أن العار يجلِّلهم والخطيئة تحيط بهم وأنهم هم المسئولون عن كل ما حدث.. وأنكم تعالجون المصائب التي تسببوا فيها .. بحكمة الفلاسفة وصبر أيوب.. نعم .. يجب – والحال ذاك - على الشعب الجاحد أن يقوم بالتكفير الدائم عن تخلفه لمحرريه ومنقذيه.. هذا الشعب المحكوم عليه بالذنب الدائم ، لن يعارض ولن ينتقد ولن يطمع في الكثير .. فإن أقصى ما يطمح إليه هو التوقف عن ارتكاب ذنوب جديدة، أما ما حدث فقد حدث ولا غفران له.. إن الملك أو الرئيس يقوم هنا بدور المخلِّص.. بدور من يحمل خطايا شعبه على كاهله ويقوم هو بدفع ثمن أخطاء غيره.. فطوبى لمن يفعل ذلك..!"
ألمحت إلى مصدر من مصادر الإثارة فى رواية البروتوكولات، التى تختلف عن الروايات التقليدية فى أنها تخلو من قصة حب بشري يدغدغ العواطف، ولكنها تنطوى على ألوان أخرى من الإثارة تتسق مع الطابع الجاد للقضايا التى تتناولها، وتحفر تحت الأبنية السطحية الظاهرة لتصل إلى المضامين والأعماق بعيدة الغور؛ فى التركيبة العقلية والتشكيل النفسي لطبقة من البشر شديدة الخطورة بالغة التعقيد، من الحكام الذين استمرأوا الاستبداد والتسلط على شعوبهم..
من أهم مصادر الإثارة فى هذه الرواية العجيبة: الغموض والسرية التى أحيطت بالمخطوط الذى تضمّن النص الأصلى للبروتوكولات، وفى الحيرة والاضطراب بل الفزع الذى أصاب الكاتب الذى أوكلت إليه مهمة تبليغ محتواها إلى الناس، وقد ألمحنا إلى هذا فيما سبق..
ومع حتمية التبليغ وإعلان محتواها للناس كرسالة أخذها الكاتب على عاتقه تبقى أسرار أخرى، ومغامرات تكتنف هذه المهمة، وتتطلّبها ضرورة الإبقاء على سريتها بعيدا عن أعين الشرطة وأمن النظام حتى لا يدمروها.. وهى مهمة شاقة أوقعت صاحبها فى مشاكل لا حصر لها.. يتجلى هذا فى واحدة من حوارات المؤلف إذ يصرح بأنه : احتار أين يمكن أن يخفيها..؟! لقد فكر أن يخفيها في قمة مئذنة الأزهر لكنه اكتشف أن الأزهر قد اخترق الأعداءُ رأسه .. وأن من اختُرق رأسه فَقَدَ مناعته وبأسه.. ويقول: حذرني المجهول من أن أخفيها حتى في الكعبة .. " فقواعد الأعداء هناك قريبة .. وما من أحد يعلم مخططاتهم...!".
وهكذا يبلغ الصراع ذروته فى أعماق نفس ممزقة بين الرسالة التى أخذ صاحبها على عاتقه تبليغها للناس.. كل الناس.. وإصراره على إخفائها عن أعين السلاطين ورجال الشرطة حتى لا يدمروا المخطوط .. وبين المحاذير الغليظة من جرَّاء إذاعتها على الملأ ، من ناحية، وبين يقينه أن ما يذيعه أمر جللٌ يحرص مصدره الأعلى على ألا يعرف ما فيه إلا ملك أو رئيس.. وأن من يكشف أي حرف فيه محكوم عليه بالموت.. عبٍّر المؤلِّف عن موقفه الرعيب فيقول وهو يتوقع أسوأ مصير: " وها أنذا واحد من الرعاع وقد عرفت.. ونسخت .. وكتبت .. ونشرت.. تُرى.. ماذا سيفعلون بي وقد أذعت سرهم وهتكت سترهم وكشفت أمرهم...!
لقد عانى فى أحلامه و كوابيسه المروعة مطاردات الشرطة المتواصلة، وتلقَّى أشد أنواع الرعب والتعذيب على أيديهم لإجباره على الصمت وتسليم المخطوطة إليهم .. فيراوغ ويحاول الهرب دائما.. ولكن تظل كوابس الشرطة تلاحقه بلا هوادة ولا ملل..
وإذ يصل الصراع إلى ذروته وتستبد الحيرة بصاحب الرسالة يأتيه إيحاء المرسِل المجهول فيدعوه إلى الذهاب إلى الحج.. فيستجيب مسرورا لهذه الدعوة التى جاءت فى وقتها المناسب.. يقول معبِّرا عن مكنون مشاعره: إنه يذوب شوقا إلى لقاء ذلك الرجل المجهول.. وجها لوجْه، ليستفسر منه عن أشياء كثيرة مغلّفة بالغموض، ولكن الرجل لم يصرح بأنه سيلقاه.. يقول:
بعد أن ألححت عليه بالسؤال تلو السؤال لم أجد عنده إجابة سوى عبارة واحدة مكررة: "-اذهب إلى الحج.. اذهب.. قلت هل ألقاك هناك..؟ قال: اذهب.. قلت هل أسمعك هناك.. ؟.. قال : اذهب.. قلت هل تفسر لي هناك.. ما لم أستطع عليه صبرا..؟.. قال: اذهب.. قلت هل تعلمني كيف نواجه مخطَّط الشيطان ..؟ قال: اذهب.. قلت هل تبصِّرني كيف أنقذ أمتي مما ورد في البروتوكولات..؟!" ...
ثم يتابع متوجِّها إلى القراء: " هل سيكتفي بكشفها كي تبحثوا أنتم عن ترياق لها..؟.. أم أنه سيمنحني الترياق..؟ أم أن الترياق سيأتي في ومضة كشف مذهلة قد تومض في رأسي بغتة و أنا واقف في عرفات .. أو وأنا أطوف وأسعى..؟!
بهذا الشوق فى قلبه وتلك التساؤلات المُلِحّة فى رأسه يذهب إلى الحج .. وفى المقابل الموضوعيّ يذهب الدكتور محمد عباس بالفعل إلى الأراضى المقدسة فى عمرة خطط لها أن تكون زيارة طويلة، يتفرَّغ فيها للعبادة فى رحاب الحرمين الشريفين يبثهما مكنونات قلبه ويفتح أعماقه لما تجود به الأجواء المقدّسة من وجدانات.. ويستلهم فى رحاب رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم، الحلول التى يطمئن إليها عقله وقلبه كنهاية لأزمته المستغلقة..
فى خضم هذه الأجواء غير العادية: في المدينة المنوّرة حيث توجد الرحمة كلها وأمام الكعبة حيث يوجد الجلال كله.. تنبثق الحلول غير العادية، وأول ما انكشف له هناك أن رسالته قد تحدّدت بشكل قاطع لا شك فيه ولا غموض، فيعبر عن هذا بقوله: " أصرخ في كل من ركع لله ركعة أو صام يوما أو نطق بالشهادتين: قم واجه معي بروتوكولات حكام العرب..أقولها مُعّذّبًا مُمَزّقًا نازِفًا.. لكنني لا أفقد الأمل في النصر الموعود أبدا.. قم واجه معي بروتوكولات حكام العرب...!"
هَهُنا: فى رحاب الحرمين تُسْكَبُ العبرات.. ولقد بكى كثيرا حتى غسلت الدموع الحارة من قلبه كل ماسوى خشوعه وتبتله لله، وكل ما سوى حبه وأشواقه إلى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.. حتى اهتمامه بالمُرْسِلِ المجهول الذى ذهب أملا فى لقائه قد تضاءل..
الأجواء الروحانية التى تهيمن على الإنسان فى رحاب الحرمين الشريفين وتنزعه انتزاعا من علائق الدنيا كلها لتضعه مباشرة أمام عالم الخلود الأزلي يصورها محمد عباس تعبيرا عما استجدَّ فى مشاعره من تحولات وهو جالس فى الحرم المكيّ يقرأ القرآن.. فيقول:
"ساعتها كنت أحس كما لو أن خواصًّا جديدة أضيفت إلى سمعي وبصري وقلبي وعقلي؛ فأصبحت أسمع ما لم أكن أسمع و أرى ما لم أكن أرى و أحس بما كان لا يمكنني الإحساس به؛ فأفهم ما لم أكن أفهم، بل حتى صوتي قد تغير وأصبح لنبراته في ترتيل القرآن رنين لم أسمعه قبل ذلك أبدا. كان الصوت طوفانا ملموسا ومحسوسا من النور ولم تكن الحنجرة مصدره بل من القلب كان يأتي .. ولم أكن-ساعتها- أسمع بأذني وحدها.. كان القلب أيضا هو الذي يسمع وكانت نياطه هي التي تهتز... كنت أبحر في بحر القرآن ذلك الإبحار الممتع الذي يجعلني لا أريد أن أعود إلى الشاطئ أبدًا، تمنيت أن أظل على هذا النحو حتى أموت ".
انكشف له هناك أيضا شيء جديد، لم يكن قد فكر فيه من قبل، فقد استغرقه التركيز سابقا على أصحاب الجلالات وفخامة الرؤساء.. ولكنه هنا شرع يتساءل: " لماذا وَقَرَ بخاطري أن الأمر قد اقتصر على ذلك الحكيم الشيطاني الذي يعلمهم حكمة الرؤساء والملوك.. لماذا لم أتصور أن لذلك الحكيم الشيطان أتباعا وتلاميذ ومساعدين.. وأن هؤلاء الأتباع والتلاميذ والمساعدين أقل قدرا من أن يحاضروا بين الملوك.. لكنهم يذهبون إلى الآخرين.. لماذا لم أضع بين احتمالاتي أن واحدا منهم يذهب إلى علمائنا كي يمسخ من يستطيع أن يمسخه منهم خنازير وقردة..؟ لماذا لم أضع في حسباني أن واحدا منهم يذهب ليعلم الصحفيين كيف يكذبون وكيف ينافقون..؟ وأن آخر يذهب إلى القضاة يدربهم كيف يكونوا من قضاة النار..؟ كيف يتعلمون القانون لا ليطبقوه بل ليهدروه..؟!"
" لماذا لم أتصور أن واحدا منهم يذهب إلى جهاز العسس.. فيعلمهم كيف يكونون أشد ضراوة من الوحوش وأكثر شراسة من كلاب الصيد..؟ لماذا لم أتخيل أن آخر يذهب إلى الوزراء.. وآخر لوكلائهم.. وآخر للشعراء وآخر للكتاب وآخر.. وآخر .. وآخر.....! كيف جاز لي أن أتصور أن الرجل الشيطانيّ كان فردًا لا هيئة أخطبوطية تحيط بنا كما تحيط خيوط العنكبوت بذبابة.. كيف انطلى على عقلي الكليل أن يحسب ولو للحظة أنه واحد وليس مؤسسة هائلة.. وأنني إذا انتويت الجهاد والتصدي لن أواجه فردا.. بل جيشا عرمرما.."
وهكذا يتضح لمحمد عباس [هناك] أن المهمة أوسع وأكبر من أن يحملها فرد واحد وأن ثورة الشعب بل الأمة باكملها هى المطلوبة ..!!
فى اللحظات المناسبة قرب النهاية التى حدد محمد عباس مقدماتها، يظهر الرجل المجهول فجاة فى الواقع.. أو الحلم.. لا يهم.. فالرؤي هنالك يمتزج فيها الواقع بالأحلام، المهم أنه يظهر فى قلب الشعائر وهى تتبلور وتتجسد فى ذروتها بالصعود فى اتجاه عرفة.. يتعرف عليه المؤلف فيهرول نحوه مسرعًا ولكن قبل أن يصل إليه إذا به يصرخ صرخة هائلة فيسقط على الأرض.. يقول متابعا:
" أنْكَبُّ عليه فيسُرُّ لي بكلمات فأنكبُّ على يديه .. فتهولني برودتهما، وأكتشف أنه قد قُبِض، فأصرخ صرخة عظيمة وأسقط مغشيا عليَّ، فيحملني الرهط إلى الخيمة تصرعني الحمى فأفيق على الثلج على رأسي وقدميَّ فيُغْشَى عليَّ فأفيق فأسمع من يقول منهم: أنت إذن؟! فأقول : أنا ماذا؟.. فيقولون: قلتَ كل شيء تحت وطأة الحمى فيُغشى علىّ.. فأفقت فسمعتهم يقولون: انتشرت البروتوكولات جميعها بين الحجاج جميعهم.. فغشى علىّ فأفقت.. فسمعت من يقول لن يستطيعوا حبسها عنا بعد اليوم .. فجزاك الله عنا خيرا .. فالآن فهمنا ما التبس علينا فغشى علىّ فرأيت الرجل.. كان حيا.. وكان يطير في الهواء ويحلق في السماء فنظر إلىّ باسما.. قال : أولم تفهم..؟ قلت بلى..."
لم تنته ملحمة البروتوكولات بعد؛ فلا يزال الرجل المجهول حيًّا، وما زال المخطوط الأصلي فى خطر ورجال الشرطة يبحثون عنه ويتعقبونه فى مطاردة مشهودة أمام أعين الحجاج .. صرخ فيهم الرجل: "احملونى إلى جبل الرحمة.. العسس يتبعونا ورجال السلطان يحاصروننا.. سيستولون على أصل المخطوط.. الغوث الغوث والنجدة النجدة.. ساعدوني يا حجاج عرفات.. في يدكم أن تغيِّروا التاريخ لكن افهموا واجتمعوا واتحدوا.. النجدة..! يكادون يصلون إلينا..... احملوني إلى جبل الرحمة".. فحملوه وهو يهتف ويهمس ويبكى هاتفًا: " لبيك اللهم لبيك..لبيك.. لن أترك المخطوط يقع في أيديهم أبدا.. سأنقذه .. سأضعه حيث لا يستطيعون الحصول عليه أبدا.." وأخيرا يجد أصل المخطوط فى مكانه الذى خبَّأه فيه.. فيبعثره فى كل اتجاه وهو يصيح:
" هذا هو أصل المخطوط.. هذا هو السم والترياق.. لا تضيعوه أبدا.. وتذكروا أن هذا هو الأصل.. لا أصل غيره.. أصول المخطوط معكم جميعا.. كل واحد منكم يمسك ورقة منها.... ولن تعودوا [إلى الأصول] إلا إذا اجتمعتم جميعا.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.."
وتمضى الرواية تسجل لنا المشهد الأخير قبل أن يسدل الستار على النهاية حيث يقول الراوى: " في تلك اللحظة فوجئنا بفرقة من الشرطة مدججة بالسلاح تصعد بسرعة نحونا يهتفون في مكبر صوت:
- " إرهابي.. سلم نفسك..سلم نفسك..! وفي وقت قليل جدا كانوا قد حاصروه.. لم يُبْدِ أي مقاومة.. فقبل أن يدركوه كان قد سقط على الأرض.. وضعوا القيود في يديه.. لكننا سمعنا قائدهم يقول: لا داعي للقيد.. إنه ميت.. وحملوه معهم بعد أن تركوا بعضهم يسألون الناس: هل يوجد من يعرفه فأنكر الجميع وأنكرنا... كانت الشمس على وشك الغروب.. فهرعنا إلى الخيمة فكتبنا هذا الإقرار على عجل ليشرح للناس اللحظات الأخيرة لأخينا.. وأخذنا أغراضنا وأغراض الشهيد –نحسبه كذلك- وغادرناها وبدأت النفرة ونحن نتهامس بأن ننهي المناسك بأقصى سرعة قبل أن يصل العسس إلينا.. وكان الهواء ما زال يردد الأصداء: اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد..!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق