الثلاثاء، 16 مارس 2021

فارس المنابر .. الشيخ كشك

 فارس المنابر .. الشيخ كشك


في ظلّ خضوع وخنوع علماء السلاطين لأسيادهم هذا الزمان.. وفي ظلّ ذلك الطغيان المتجبّر الذي لم يجرؤ على مواجهته أحد إلّا القليل في ذلك الزمان.. يخرج علينا شيخٌ كفيف طالما امتهن الخطابة منذ صغره لكي يكون شوكةً في حلق الطغاة.. ويا لها من شوكة..! من رجلٍ فاقدٍ للبصر أعطاه الله من نور البصيرة مالم يعطه من نور البصر.. إنّه فارس المنابر، عبد الحميد كشك.

كم نحتاج إلى مثل هذا الرجل اليوم.. اليوم وبعد أن صرتَ ترى العلماء والشيوخ والدعاة يتمسّحون ببركة “ولي الأمر” الذي يقصف بلاد المسلمين جهارًا نهارًا، والذين صاروا لا يعصون أمرًا ولا يخالفون دستورًا لملكهم سواء في الحقّ أو في الباطل.. ألا ليتهم يتعلمّون منه حقًا، كيف تكون كلمة الحقّ في وجه السلطان الجائر!

ولادته وحياته

ولد عبد الحميد كشك في العام 1933 بمحافظة البحيرة – مصر، وفقد البصر بعينه اليسرى وهو في السادسة من عمره بسبب بقايا حديد دخلت بجوفها (فقد بصره بالكامل لاحقًا)، حفظ القرآن ولم يتجاوز العاشرة من عمره بعد، وتابع تعليمه ودخل الثانوية الأزهرية وكان ترتيبه الأوّل على مستوى الجمهورية، ودخل الأزهر الشريف وكان الطالب الأوّل كذلك طيلة سنوات دراسته الأربع، بل وحتّى إنّه كان يقوم أحيانًا مقام الأساتذة ليشرح بعض الدروس لزملائه.

أوّل خطبةٍ ألقاها في حياته كانت وعمره 12 عامًا، عندما تغيّب خطيب الجامع مرةً من المرّات، صعد المنبر ليخطب مكانه، وخطب بالناس حاثًّا لهم على العدل والتراحم بينهم، ومطالبًا بتحسين أحوال القرية والكساء ﻷبنائها، مما شدّ اهتمام بالناس به.

كان دومًا ما ينشد قائلًا:

إن يأخذِ الله من عينيّ نورهما ففي فؤادي وعقلي عنهما نورُ

تمّ تعيينه كمعيد في كلّية أصول الدين بجامعة الأزهر، إلّا أنّه لم يستطع سوى إلقاء محاضرةٍ واحدة اعتزل فيها التدريس بعدها. عرف منذ ذلك اليوم أنّ مكانه ليس في الجامعات ومع المحاضرات، بل هو في المساجد، على منبر رسول الله.

تولّى الخطابة في عددٍ من المساجد، ثمّ استقر بمسجد عين الحياة في القاهرة، يخطب فيه لأكثر من 20 عامًا.

كلمته في وجه السلطان الجائر

عايش الشيخ عبد الحميد كشك كلًّا من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، لم يسلم أيٌّ منهم من لسان ذلك الشيخ الكفيف، الذي كان دومًا كالشوكة في حلوقهم. بينما كان الكثير ممن نحسبهم الآن – مشايخ ودعاة وعلماء – مختبئين خائفين من الحملات الأمنية والمخبرين، كان ذلك الشيخ الأعمى يصرخ جهارًا نهارًا بوجه أولئك الخونة!

’’الحمد لله الذي أفقدني بصري لكي لا أرى وجوه الطغاة! ’’ عبدالحميدكشك

جمال عبد الناصر


كانت فترة الستينيات من القرن الماضي مليئةً بالأحداث السياسية، خصوصًا بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر التي فشلت وتمّ اتهام جماعة الإخوان المسلمين بتدبيرها، مما أدى إلى حملة أمنية واسعة طالت كلّ ما له علاقة بهم، آنذاك كان من الصعب حقًا أن يخرج أحدهم لينتقد سياسات عبدالناصر، حيث كانت المساجد وأماكن العمل بل وحتّى الشوارع وحديث الناس اليومي مراقبًا بأكمله.

كان الناس خائفين من السلطة بشكلٍ كامل، بل وحتى خطباء المساجد، إذا تكلّمت السلطة عن الاشتراكية فحينها هذا يعني أنّ الاشتراكية من صميم الإسلام ويجب ترسيخها في الجوامع وفي كلّ مكان (يا للسخرية!). وإذا قالت أنّ

إلّا أنّ ذلك الشيخ الكفيف ورغم كلّ ذلك، بقي يهاجم تلك الحملات الأمنية التي تمّ شنّها ضد الإسلاميين طوال الوقت في خطب الجمعة وبعد الصلاة، كانت خطبه عبارة عن ما يعرف اليوم بـPodcast، خطبةٌ أسبوعية شاملة بها تعليقٌ على كلّ ما يجري دون أيّ مواراةٍ أو اختباء!

لم تستطع كلاب السلطة رشوته بالمال والجاه، ولذا لجئت إلى سجنه كالمعتاد. سُجن الشيخ عبد الحميد كشك في العام 1965 لمدّة عامين ونصف في سجن القلعة، وتعرّض هناك للتعذيب الشديد على الرغم من أنّه كان شيخًا كفيفًا فاقدًا لبصره!

بعد أن مات المقبور جمال عبد الناصر، ألقى الشيخ خطبةً يتساءل فيها عن حاله، “لمن الملك اليوم”؟ وكيف أنّ نهاية كلّ جبارٍ عنيد ستكون إلى القبر لا محالة! لم يرتح عبد الناصر من الشيخ كشك لا حيًا ولا ميتًا!

أنور السادات

بدأ صدام الشيخ عبد الحميد كشك مع السلطة في عهد السادات منذ أن تمّ البدء بالتمهيد لاتفاقية كامب ديفيد عام 1976، اعتبرها الشيخ خيانةً للإسلام والمسلمين وهاجمها بكلّ شراسة وضراوة في كلّ خطبة صلاة جمعة، بل وإنّه أصبح يكثّف من خطبه ودروسه اليومية وكان الناس يحضرون له بالآلاف.

كعادة كلّ الطغاة، اعتُقل الشيخ مرّةً أخرى عام 1981 هو وعدد من الشخصيات الأخرى التي رفضت اتفاقية كامب ديفيد واعتبرتها تطبيعًا مع العدو الصهيوني وخيانةً للأمّة ضمن قرار سبتمبر الشهيرة والتي طالت المئات من الناس، تمّ تعذيب الشيخ هذه المرّة بصورةٍ وحشية لدرجة أنّ آثار التعذيب بقيت على جسده.

للأسف لا يتعلّم الطغاة من بعضهم، وها هو ذا السادات يموت ويُرسل إلى قبره كسلفه عبدالناصر، ويخرج الشيخ عبد الحميد كشك من السجن مجددًا !

حسني مبارك

بعد خروجه من السجن، لم يعد الشيخ عبدالحميد كشك هذه المرّة إلى منبره حيث تمّ منعه من الخطابة بشكلٍ تام حتى في عهد حسني مبارك، فأخذ يؤلّف بالكتب التي تشرح العقيدة الإسلامية والتي تتحدث عن الأوضاع بمصر وأحوال المسلمين عمومًا الواحد تلو الآخر.

له أكثر من 108 كتاب مختلف يشرح مختلف الأمور المتعلّقة بها، ومن بينها كتاب “في رحاب التفسير” يفسّر فيه القرآن الكريم كاملًا. بقي دومًا ينتقد في كتبه ما كانت تقوم به السلطات المصرية طيلة فترة حياته.

وسبحان مغيّر الأحوال.

خطبه وكلماته

وهب الله تعالى هذا الشيخ الكفيف أسلوبًا مميزًا في الخطابة وصوتًا قويًا وعلمًا غزيرًا جلب قلوب الناس قبل آذانهم إليه، كانت كلمات الشيخ – رحمه الله تعالى –  صافيةً من قلبه، تخرج بصوته القوي مدويةً في المسجد يسمعها القريب والبعيد، طريقة إلقائه مختلفة تمامًا عن طريقة إلقاء الخطباء الآخرين. كان واسع الاطلاع جدًا، كان يقرأ ويخطب في السياسة والحوادث والأخبار والطب والفلك وغيرها، كانت خطبته جامعة شاملة تختلف تمامًا عن خطب غيره، فبينما كانت الشيوخ التقليديون يتحدثون عن نواقض الوضوء، كان هو يتحدث عن كامب ديفيد والأوضاع الراهنة ببلاده وعن خطايا الفنانين وما فعلوه بالمجتمع المسلم.

وفاته:

واللّه الذي لا إله غيره، أنا لا أرضى بمنبر رسول اللّه بديلا، لا أرضى بديلاً، كم من برقيات عرضت وكم من مناصب قدّمت وكم من إغراءات قيلت، وكم من مسؤولين زاروني في بيتي ليعرضوا المناصب، ولكنّي دعوت اللّه قائلًا: اللّهم أحيني إمامًا، وأمتني إمامًا، وتوفّني وأنا ساجدٌ بين يديك يا ربّ العالمين

كانت تلك واحدةً من أكثر الدعوات التي كان الشيخ – رحمه الله – يدعو بها، كان جلّ طموح حياته أن يبقى خطيبًا يخطب بالناس ويصلح حالهم، وكان دومًا يتمنّى أن يتوفاه الله ساجدًا بين يديه.

في 6 ديسمبر من العام 1996، وفي يوم الجمعة، أخبر زوجته أنّه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام، ورأى معه عمر بن الخطاب، وأنّ الرسول أمره: “سلّم على عمر”، فسلّم عليه ووقعًا ميتًا، فأخبرته زوجته عن حديث رسول الله بعدم قصّ الرؤيا التي يكرهها المرء على غيرها، فأجابها: “ومن قال لكِ أنني أكرهها.. إنني لأرجو والله أن تكون كما هي”.

قبل الصلاة، بدأ بصلاة بعض النوافل، وصلّى ركعتين.. وبينما هو في الركعة الثانية.. سجد السجدة الأولى.. ثمّ سجد السجدة الثانية.. واستجاب الله دعوته، ولبّى ندائه، وتوفّاه ربّ العالمين وهو ساجدٌ بين يديه! يا لها من خاتمةٍ لشيخٍ كفيف أفنى حياته في مقارعة الظلمة والظالمين إلى آخر رمقٍ من حياته! فرحمه الله تعالى وجزاه خيرًا عن الإسلام والمسلمين، وليت علماء السوء يتعلّمون منه اليوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق