أقوى من بايدن .. أصغر من مصر
وائل قنديل
و كنت مكان عبد الفتاح السيسي، ولن أكون أبدًا، لأمرت باستدعاء الوفد المصري الذي رد على بيان الدول الـ 31 في اجتماعات الأمم المتحدة بجنيف، وقدمتهم لمحاكمة عاجلة بمجموعة من التهم، أولها الإساءة لسمعة الدولة المصرية، من خلال تقديم صورة شديدة القبح عن بلد كبير، لم يصغّره أحد سوى نظام يعاني بارانويا تجعله أسير وهم أن العالم كله يتآمر ضده. .. لكن هذا، بالطبع، لن يحدث، كون هؤلاء الذي أهانوا مصر في محفل دولي مهم إنما يردّدون الأوهام والأساطير ذاتها التي كان السيسي يبتز بها العالم: الحرب على الإرهاب، وحماية أوروبا من الإنسان الذي تطالب بحقوقه.
هؤلاء الذين تحدّثوا في جنيف، خلال المراجعة الدولية لملفات حقوق الإنسان على مستوى العالم، انتقلوا من حالة الإنكار، بوصفها وسيلة دفاع، إلى لوثة الهجوم وتوزيع الاتهامات الجزافية، كذبًا واختلاقًا، على دولٍ هي مضرب المثل في الحرص على تحقيق الحد الأقصى من معايير حقوق الإنسان.
استسلم هؤلاء للقول الشائع في عالم كرة القدم "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وهو منطق قد يصح في مواجهة بين طرفين متكافئين، أو على الأقل متقاربين في القوة والإمكانات، لكنه لا يصلح أبدًا حين يقرّر فريق واحد مهاجمة 31 فريقًا. ويزداد الموقف كارثيةً حين يكون فارق القوة والمهارة مثل الفرق بين منتخبي مصلحة السجون المصرية والماكينات الألمانية، مثلًا.
هنا يكون الهجوم انتحارًا، أو بالحد الأدنى إعلانًا عن حالة جنونٍ تمثل خطرًا على أصحابها وعلى العالم بأسره، الأمر الذي قد يكون من الملائم الحجْر على هذا الطرف المنتحر، كي لا يؤذي نفسه والآخرين.
حين استمعت للبيان الذي تلاه ممثل مصر الدائم في الأمم المتحدة، السفير أحمد إيهاب جمال الدين، وقد كان من قبل يشغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون حقوق الإنسان والمسائل الإنسانية والاجتماعية الدولية وأمين عام اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، وجدتني أدون "أخشى ما أخشاه بعد الرد الرسمي المصري على بيان الدول الـ 31 أن توصي منظمة الصحة العالمية باحتجاز الوفد المصري في مستشفى للسلامة النفسية".
مضمون الرد ومنطوقه يجعلك تتمنّى لو أنهم تركوا مهمة كتابته لأي من إعلاميي فضائيات السيسي الليليين، من جماعة "مصر لن تركع" التي ظهرت فترة حكم المجلس العسكري في العام 2011، ذلك أن كاتب البيان بدا وكأنه يعلن الحرب على العالم، مستخدمًا معلوماتٍ مغلوطة، وأخرى مزيفة، عن الحالة الحقوقية في الدول التي اتهمها بانتهاك حقوق الإنسان فيها، والافتراء على مصر.
الرجل، السفير إيهاب جمال الدين، كرّر ما قاله سلفه السفير عمرو رمضان مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، حين كان يتولى عرض الرد المصري في المراجعة الدورية السابقة في المكان ذاته عام 2017، معتمدًا آلية مهاجمة الدول الأوروبية التي انتقدت الملف المصري، فشنّ حملة خطابية فخيمة ضد ما اعتبرتها الدبلوماسية المصرية "مزاعم بيانات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وسويسرا"، ثم أعرب عن بالغ القلق المصري على الحريات وحقوق الإنسان في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا .
المختلف هذه المرة عن سابقاتها أننا بصدد إجماع من 31 دولة، معظمها كان يتغاضى عن انتهاكات النظام المصري حقوق الإنسان، بمبرّرات الحرب على الإرهاب، وبمحفّزات صفقات السلاح، قرّرت أن تتضامن في موقف واحد مشترك من الحالة المصرية، فضلًا عن تغير المناخ الدولي من الترامبية المتربّحة من التواطؤ مع الاستبداد، إلى مرحلةٍ جديدةٍ لا يتمتع النظام الدولي فيها بالصفاقة والوقاحة والرداءة التي سادت خلال فترة حكم دونالد ترامب.
لم يدرك الوفد المصري أنه، هذه المرّة، لا يواجه انتقادات متناثرة، كلًا على حدة، وإنما موقفًا دوليًا موحدًا اتخذ هيئة جبهة من 31 دولة، ناهيك عن أن النظام المصري، بالتزامن مع معركة جنيف، بدا مصممًا على إحراز الأهداف في نفسه, وعلى سبيل المثال، لا يفهم من الحكم الصادر على الناشطة سناء سيف بالسجن، ظلمًا وبطشًا وإرهابًا، في اللحظة التي كان يناقش فيها الملف الحقوقي في جنيف، سوى أن هذا النظام يقول للعالم بوضوح: اخبطوا رؤوسكم في الحائط، السيسي أقوى من سنغام (بطل الفيلم الهندي الشهير) ومن بايدن وأميركا وأوروبا، وكأن روحًا "كوريشمالية" قد تلبسته، فظهر في جنيف وكأنه ممسكٌ بمطواة مفتوحة، يهدّد بها العالم، ويصرخ، مثل إعلامه ولجانه الإلكترونية "من كسر كوبًا سيحاسب عليه، وسنأتي بكم جميعًا في أكياس وأجولة".
كل هذا الجنون تمارسه سلطةٌ على شعب مطلوب منه أن يصدّق أنها أمينة أو مؤهلة لخوض معركته الوجودية الأهم دفاعه عن حقوقه في مياه النيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق