الأحد، 14 مارس 2021

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (2 – 4) قناديل من علماء السلف

 القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل 

(2 – 4) قناديل من علماء السلف

كما أن هناك من يبيع دينه من المنتسبين للعلم؛ فهناك قناديل مضيئة تستعلي على الترهيب، كما تستعلي على الترغيب؛ فلا الدنيا تُطمعها ولا الترهيب يُرهبهم.

مقدمة

في المقال الأول تم بيان حقيقة ما يراد ببلاد الحرمين ورؤية (2030) وخطورة استخدام أهل العلم في هذا السبيل لشرعنة ما يراد بالأمة ولتطويع الجماهير، ودورهم في لَيّ ألسنتهم بالكتاب..

وفي هذا المقال بيان لمعنى التمندل والتحذير منه، ونماذج لقناديل من علماء السلف في مقابل من يتمندل بهم الحكام

معنى «التمندل» وحذر أهل العلم منه 

إن العلماء إزاء تبديل دين الله وتحريفه فريقان:

الفريق الأول: القناديل المضيئة

فريق القناديل الذين يضيئون لهذه الأمة طريقها ويحذّرونها من معاطب الهلاك بنور الحق والعلم الذي يحملونه ويَصْدَعون به في وجه الباطل.. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر نماذج مضيئة لهم، ليُهتدَي بها ويُقتدَى.

الفريق الثاني: مناديل الظلمة

فريق المناديل الذين يتمندل بهم الظلمة المبدلون المحرفون لدين الله تعالى ويستخدمونه في شرعنة أفعالهم وتحريفاتهم، والتمندل (1بأهل العلم ليس جديدا بل كان مما يحذره العلماء من سلف الأمة ويحذرون منه.

فقد ذكر الذهبي في سيرة «سفيان الثوري» رحمه الله أن رجلا نظر إلى سفيان وفي يده دنانير من ذهب فقال «يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟ قال: اسكت فلولاها لتمندل بنا الملوك» أي جعلونا مناديل لأوساخهم نحل لهم ما حرم الله ونحرم عليهم ما أحل الله. (2)

وقال «ابن الجوزي» رحمه الله تعالى:

ليس في الدنيا عيشٌ إلا لعالم أو زاهد، وإذا قنعا بما يكفي لم يتمندل بهما سلطان، ولم يُستخدَما بالتردد إلى بابه، ولم يحتج زاهد إلى تصنع. (3)

وقال الشيخ «بكر أبو زيد» رحمه الله تعالى التحلي بعزة العلماء:

صيانة العلم وتعظيمه، وحماية جناب عِزِّه وشرفه، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه ومن العمل به، وبقدر ما تهدره يكون الفوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وعليه فاحذر أن يتمندل بك الكبراء أو يمتطيك السفهاء فتُلاين في فتوى أو قضاء أو بحث أو خطاب. (4)

وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بعض المواقف المخزية لهذا الفريق من المنتسبين للعلم الذين تمندل بهم الظلمة، ليحذر منها وتتجنب.

نماذج مضيئة لقناديل العلم

إن تاريخ الإسلام مليء ـ ولله الحمد ـ بالنماذج المشرقة والقامات السامقة التي صدعت بالحق ولم تخف لومة لائم ورفضت أن يتمندل بهم الولاة الظلمة في تمرير الباطل وتحريف الحق.

ولقد حفل تاريخ العلماء بمآثر جليله سجلها العلماء الربانيون في مواقفهم الخالدة مع الظلمة والطواغيت تجلى فيها الصدق والإخلاص وشراء الآخرة بالدنيا، وتمثّل فيهم قول الله عزوجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (البقرة:207)..

فكانوا نجوما أنار الله عز وجل بهم في ظلمات الفتن، وهدى بهم فئام من الناس عند هبوب رياح الفتن وتلاطم أمواجها.
وبعض مواقف هؤلاء العلماء الربانيين أغفلها التاريخ؛ ولكن الله عزوجل لم يغفلها بل كان بها عليما .

سلاح الظلمة الذي قاوموه

وأكثر وأخطر ما يملكه الظلمة في استخدام العلماء وإسقاطهم أسلوب (الخوف والطمع).

وفتنة الدنيا، والطمع، وإيثار الدنيا، هي أكثر الأسباب المستخدمة في إسقاط العلماء، وإذا استعصى عليهم أحد في فتنة الطمع والإغراء ـ وقليل ما هم ـ استخدموا أسلوب الخوف والتهديد والإيذاء.

ومع ذلك كله فقد شهد تاريخ المسلمين في الماضي والحاضر من استعلى على فتنتي الخوف والطمع فثبّته الله عز وجل على دينه وجعله هاديا مهديا.

وأسوق فيما يلي بعض هذه النماذج التي هي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:

أعظم الأمثلة وأعلاها

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ضرب لأمته وأتباعه أروع الأمثلة في الصبر والثبات والتضحية والاستعلاء على كل ما تعرض له من فتنة الترغيب والترهيب.

ولسنا في حاجة لذكر هذه الأمثلة فهي أشهر من أن تُذكر، ونحن مأمورون بالتأسي به صلى الله عليه وسلم  في أموره كلها .

وكذلك سيرة أصحابه الكرام والسابقين من المهاجرين والأنصار، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون فهي أيضا أشهر من أن تذكر .

ومازال العلماء ومَن بعدهم يقدمون أعظم الأمثلة على صدعهم بالحق واستعصائهم على إغراءات الظلمة وترغيبهم، وعلى تهديدهم وترهيبهم.

[شاهد أيضا: نماذج لقناديل معاصرة من أهل العلم]

نماذج الاستعلاء على فتنة الترهيب والتخويف

فأما استعلاؤهم على فتنة الترهيب والتخويف؛ فمن هؤلاء:

إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

وثباته على الحق في فتنة خلق القرآن وصبره على السجن والتعذيب حتى فرّج الله عنه، وكانت العاقبة للمتقين وقصته في ذلك مشهورة مستفيضة .

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

وما تعرض له من البلاء والسجون والإيذاء، حتى كانت وفاته في سجنه الأخير..

كل ذلك في سبيل الثبات على الدين الحق وردّ كل ما يخالفه .

الإمام البويطي

سيد الفقهاء، «يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي»، صاحَب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر..

سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه، أي في «محنة خلق القرآن» فلم يجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدى بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى!! فأمر به أن يحمل إلى بغداد.

قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بـ «كُنْ» فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق.. ولئن دخلت عليه لأصْدُقَنّه يعني الواثق، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم».

وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.

الإمام نعيم بن حماد

هو العلامة صاحب التصانيف، وكان شديداً في الرد على الجهمية، حُمل إلى العراق في إبّان تلك الفتنة مع البويطي مقيدين..

وكان يقول:

«من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه».

قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية؛ فامتنع أن يجيب، فسجن ومات في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين، وجُرّ بأقياده، فأُلقي في حفرة، ولم يكفن ولم يصلَى عليه..

وأوصى نعيم بن حماد أن يدفن في قيوده وقال: «إني مخاصِم».

الإمام الخزاعي

هو أبو عبد الله «أحمد بن نصر الخزاعي»، كان أماراً بالمعروف، قوّالاً بالحق من أكابر العلماء العاملين، ومن أهل العلم والديانة.

حُمل من بغداد إلى سامراء مقيداً وجلس له الواثق..

فقال له: ماتقول في القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أفمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: فترى ربك يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية، قال: ويحك يُرى كما يرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر؟ أنا كفرت بمن هذه صفته؛ ما تقولون فيه؟

فقال قاضي الجانب الغربي: هو حلال الدم، ووافقه فقهاء، قال الواثق: ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده، ودعا بالسيف وقام وقال: إني لأحتسب خطاي إلى هذا الكافر؛ فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو مقيد.

قال الحسن بن محمد الحربي : سمعت جعفر الصائغ يقول رأيت أحمد بن نصر حين قُتل؛ قال رأسه: لا إله إلا الله. والله أعلم.

والأمثلة من علماء الأمة الذين صدعوا بالحق وصبروا على فتنة الإيذاء والترهيب كثيرة؛ منهم من قُتل ومنهم من عُذّب ومنهم من سُجن ومنهم من نُفي، كل ذلك وهم ثابتون ولم يبدلوا. وهكذا في زمن الفتن المدلهمات يكون لصوت الحق قيمته ولصيحته في وجه الباطل أثره.

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

نماذج الاستعلاء على فتنة الترغيب والطمع

أما فتنة الترغيب والطمع فقد ضرب العلماء الربانيون أروع الأمثلة في رفض أموال الظلمة وإغرائهم لعلمهم أنهم لم يُعطوها لله، بل لتكون وسيلة إلى استمالة العالم والتمندل به في تغيير أحكام الله عز وجل وتبرير أفعال الظلمة.

ومن هذه النماذج المضيئة ما يلي:

موقف سعد بن أبي وقاص .. صاحب رسول الله

قال الحسن «كان فيمن كان قبلكم رجل، له قدمٌ في الإسلام وصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال عبدالله بن المبارك: عنى به «سعد بن أبي وقاص» رضي الله عنه ـ قال: وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم، فقال له بنوه: يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدَم في الإسلام؛ فلو أتيتهم؟!

فقال يا بني آتي جيفة قد أحاط بها قومٌ؟! والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها.

قالوا: يا أبانا إذن نهلك هزالا، قال: يا بني لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أموت منافقا سمينا.

قال الحسن: خصمهم واللهِ إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان». (5)

سفيان الثوري

ولمّا دخل «سفيان الثوري» رحمه الله تعالى على «أبي جعفر المنصور» وسأله أن يرفع إليه حاجته فأجابه:

«اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً»، فطأطأ المنصور رأسه، ثم عاد عليه السؤال، فأجابه:

«إنما أُنزِلْتَ هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصِل إليهم حقوقهم».

فطأطأ المنصور شاكراً ثم كرر السؤال، ولكن سفيان تركه وانصرف.

طاووس بن كيسان

قال عبدالرزاق: سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يُحدث أن محمد بن يوسف أو أيوب بن يحيى بعث إلى «طاووس» بسبع مئة دينار أو خمس مئة، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك، فإن الأمير سيُحسنُ إليك ويكسوك.

فقدم بها على طاووس الجند، فأراده على أخْذها فأبى، فغفل طاووس فرمى بها الرجل في كوة البيت ثم ذهب وقال لهم: قد أخذها.

ثم بلغهم عن طاووس شيء يكرهونه، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به الأمير إليك. قال: ما قبضت منه شيئا.

فرجع الرسول وعرفوا أنه صادق فبعثوا إليه الرجل الأول فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن. قال: هل قبضت منك شيئا؟ قال: لا، ثم نظر حيث وضعه فمد يده فإذا بالصُرّة قد بنى العنكبوت عليها فذهب بها إليهم.

أبو عمر الزاهد

وقال الخطابي: بلغني عن «أبي عمر الزاهد» صاحب أبي العباس أن بعض الوزراء أرسله إليه يستعلمه مبلغ ما يحتاج إليه لقوته كل سنة ليجري به عليه.

فقال للرسول: «قل لصاحبك أنا في جراية من إذا غضب علي لم يقطع جرايته علي».

سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء

أبو محمد «عز الدين عبد العزيز ابن عبد السلام بن أبي القاسم» :

شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه.. ولا رأى من رآه مثله، علماً وورعاً وقياماً في الحق، وشجاعة وقوة جنان، وسلاطة لسان.

وقال عنه ابن حجر:

كان عالي الهمة، بعيد الغور في فهم العلوم.. وكان قائماً بالأمر بالمعروف، لا يخاف في ذلك كبيراً ولا صغيراً.

وذكر اليافعي أن الإمام «العز» كان جبل إيمانٍ لا يخشى سلطاناً، ولا يهاب سطوة الملك، بل يعمل بما أمر الله ورسوله به، وما يقتضيه الشرع المطهر.

الحسن البصري

وأحضر ابن هبيرة «الحسن» و«الشعبي»، فقال لهما: أصلحكما الله إن أمير المؤمنين «يزيد بن عبد الملك» يكتب إليّ كتباً، أعرف في تنفيذها الهلكة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته لم آمن سطوته، فما تريان لي؟

فقال الحسن للشعبي: يا أبا عمرو! أجب الأمير، فرفق له في القول، وانحط في هوى ابن هبيرة.

وكان ابن هبيرة لا يستشفى دون أن يسمع قول الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيد، فقال الحسن: أو ليس قد قال الشعبي؟ فقال ابن هبيرة: ما تقول أنت؟ فقال: أقول ـ والله ـ يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله، فظّ غليظ لا يعصى الله ما أمَره، فيخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابن عبد الملك شيئاً.

فبكى عمر بن هبيرة.

موقف معبّر .. وكيف يتحرر العالِم

قال الإمام «محمد بن عبد الوهاب» رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (هود:116).

“لولا بمعنى: هلّا.

وهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدين غريب لأن هذه الأمة تفعل ما فعلت الأمم قبلها ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لما كان الإنسان يتباعد هذا ويقول كيف أن العلماء لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر؟

فذكر سبحانه أن الآفة هي استحباب الدنيا على الآخرة واتباع ما أُترفوا فيه، فالعلماء لهم مدارس ومواكل، ولو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قطعت مواكلهم؛ فآفتهم ليست عدم العلم، بل ما ذكر الله.

وذُكر أن ملكاً من الملوك أرد ان يأمر بشيئ في رعيته على خلاف الشرع فجمع العلماء والفقهاء من أهل بلده يشاورهم، فلم يقولوا شيئاً وسكتوا، فتبين منهم رجل وأنكر عليه، وقال: هذا لا يجوز.

فقال الملك: اقطعوا علائق هذا المتفقه؛ فقالوا: إنه يأكل من غزْل أمه: قال: فلذلك اجترأ علينا”

[طالع: جريمة التبديل المرادة اليوم وأهمية موقف أهل العلم وخطورة استخدامهم]

الإمام النووي

لما خرج الظاهر «بيبرس» إلى قتال التتار بالشام أخذ فتاوى العلماء بجواز أخذ مال الرعية يستنصر به على قتالهم، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه، فقال: هل بقي من أحد؟ فقيل له: نعم، بقي الشيخ «محي الدين النووي».

فطلبه، فحضر، فقال له: اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع، فقال: ما سبب امتناعك؟

فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير «بندقدار» وليس لك مال ثم منَّ الله عليك وجعلك ملِكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حُقّ من الحلى، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليك بالبنود والصرف بدلا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية.

فغضب «الظاهر» من كلامه وقال اخرج من بلدي ـ يعني دمشق ـ فقال: السمع والطاعة، وخرج إلى «نوى» فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يُقتدى به؛ فأعاده إلى دمشق، فرسم برجوعه، فامتنع الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، فمات بعد شهر. (6)

خاتمة

اعتذر الحاكم لأنه علم مَن هو النووي، علماً وتقوى؛ ولكن النووي رفض هذا الاعتذار بإباء وشمَم، ليعطِي درسأ بليغاً بأن الحكام يحْرُم عليهم الإساءة الى مسلم فكيف للعالم ولو أتبعها بالاعتذار.


هوامش:

  1. في القاموس: تمندل (تَمَندَلَ بِالمِنْدِيل: مَسَحَ بِهِ يَدَيْهِ أو وَجْهَهُ، وتَمَنْدَلَ بِالمِنْدِيلِ: شَدَّهُ بِرَأْسِهِ كَالعِمَامَةِ). والمقصود المعنى الأول.
  2. سير أعلام النبلاء 6/ 628.
  3. الآداب الشرعية 1/ 218.
  4. حلية طالب العلم ص192.
  5. إحياء علوم الدين 1/ 69.
  6. من أخلاق العلماء ج9.

لقراءة بقية السلسلة:

  1. المقال الأول: بيان جريمة التبديل
  2. المقال الثالث: نماذج لقناديل معاصرة من أهل العلم
  3. المقال الرابع: نماذج لمن تمندل بهم الحكام الظلمة

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق