الاثنين، 2 أغسطس 2021

آخر أوراق الربيع العربي….الكوميديا السوداء

 آخر أوراق الربيع العربي….الكوميديا السوداء


إحسان الفقيه
الكوميديا السوداء، ذلك النوع الذي يجعلك تضحك على ما يؤلمك، فالقالب فكاهة وتسلية، والموضوع قاس كئيب. 
بدأ هذا النوع من الكوميديا في السينما عندما أخرج ستانلي كوبريك فيلم «دكتور سترونج لاف» يتحدث عن خطر استخدام التكنولوجيا النووية الذي قد يؤدي لنهاية العالم، في قالب فكاهي كوميدي، حرص فيه على ألا تضيع رسالة الفيلم خلف الكوميديا، وألا تؤثر المواضيع الهامة الكئيبة على روح الفكاهة.
هنا تونس، حيث أحداث الكوميديا السوداء، سيناريوهات لم نكتبها نحن، ولم نشأ إضفاء طابع الكوميديا على أحداثها، بل هي في حد ذاتها تثير الضحك حتى البكاء.
حقا إنها كوميديا سوداء، فلم يكن رئيس تونس عندما تولى الحكم رجلا عاديا، بل كان أستاذا جامعيا وفقيهًا دستوريًا، وحقوقيًا بازرًا اشتهر بمداخلاته الأكاديمية للفصل في الإشكاليات القانونية المتعلقة بكتابة دستور ما بعد الثورة، وشغل قبل ذلك منصب الأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري بين عامي 1990، 1995، فكان هو الشخص الأنسب لتلك المرحلة من التحول الديموقراطي.
لكن الرجل الحقوقي أثبت للجميع أن للديكتاتور ألف وجه وألف ثوب، فالتفّ على الدستور، وقبض على المناسب السيادية في الدولة، فتخلّف السند الحقوقي لإجراءات هذا الحقوقي، فكأنك بلويس الرابع عشر حين قال: «أنا الدولة والدولة أنا».
الرئيس التونسي يرى أن رؤيته لمصلحة الشعب التونسي وعلمه بما فيه منفعته، كافٍ لأن يُقدِم على أي إجراء باسم هذه المصلحة، عائدًا بالدولة إلى العصور الغابرة التي قال فيها أحدهم لشعبه:(ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

«مرحبا بكم في بلد الحقوق والحريات، وفي بلد الدستور، وإذا وجدتم بعض الصعوبات في بعض المناطق فهي ليست صعوبات مقصودة، ربما قصدها البعض للإساءة إلى رئاسة الجمهورية، ولكنها إجراءات للحفاظ على سلامتكم، مرحبا بكم في تونس، حرية التعبير فيها مضمونة، لا مساس فيها بالحريات إطلاقا» 
هو جزء من حديث الرئيس التونسي إلى صحافيين من نيويورك تايمز الأمريكية استقبلهم في قصره بحفاوة، بعد إطلاق سراح واحدة منهم تم توقيفها لمدة ساعتين، فيما يبدو أنه اعتذار صريح للمراسلة الأمريكية.
لم يكن هذا المشهد يحمل أي صبغة كوميدية لولا إضافة مشهد آخر إليه، فهذا المتحدث بلباقة – وبعربية فصحى بطلاقة- عن الحقوق وحرية التعبير عن الرأي، قد اقتحمت قواته الأمنية مكتب الجزيرة وقامت بإغلاقه، وطردت جميع العاملين فيه، وصادرت مفاتيحه، ومنعت عناصره من العودة إليه، كما قاموا بمنع صحافيين محليين أمثال الصحافية التونسية أميرة محمد نائبة نقيب الصحافيين وبسام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، من دخول مبنى التلفزيون رغم استدعائهما لحضور برنامج حواري.
فيما يبدو كان الرئيس التونسي بحديثه عن حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، يقصد الإعلاميين والصحافيين التابعين للولايات المتحدة، أما غيرهم من الإعلاميين المحليين أو من التابعين لشبكات وقنوات لا تمجد إجراءات الرئيس، فهؤلاء ليس عليهم سوى النوح كما فعل الشاعر قريط بن أنيف الذي أغارت على إبله جماعةُ من بني ذهل بن شيبان:
لو كنت من مازن لم تَستبح إبلي 
                                  بنو اللقيطة مِن ذهل بن شيبانا
وحقًا، لم يتجاوز الحقيقةَ من قال: مَن أمن العقاب أساء الأدب، ولذا التزم قيس الأدب مع الأمريكان لأنه لا يأمن العقاب.
ثم تطالع الفصل الأغرب في تلك الكوميديا السوداء، حين تحاول توصيف المشهد في الأزمة التونسية، فالبداية كانت احتجاجات شعبية على كيفية مواجهة الحكومة لأزمة كورونا، ومن أجل الظروف المعيشية الصعبة، فإن قلنا إن الرئيس التونسي استجاب لمطالب الجماهير، فربما كان الإجراء الطبيعي أن يقيل رئيس الحكومة، لكنه لم يكتف بإقالة المشيشي، وإنما ألغى مجلس النواب، وقفز على منصب النائب العام، وأقال وزيري الدفاع والعدل، واعتقل بعض النواب، فما علاقة هذه الإجراءات كلها بالأزمة الصحية والاقتصادية؟!
جزء آخر يتعلق بهذا المشهد، هو اعتبار قرارات قيس سعيّد بأنها تطهير للدولة من الإخوان الذين تعبر عنهم حركة النهضة، هذا التطهير تطنطن حوله قوى علمانية محلية أثبتت أن مشكلتها ليست مع الديكتاتورية وإنما مع حاملي الفكرة الإسلامية وخاصة ما يعرف بتيار الإسلام السياسي، كما هللت لهذا التطهير القوى الإقليمية التي قادت الثورات المضادة للربيع العربي، فليس غريبا أن يخرج السفاح حفتر الذي أتى على الأخضر واليابس في بلاده ليقول: «نبارك انتفاضة الشعب في تونس ضد زمرة الإخوان الذين أنهكوا تونس ونهبوا مقدراتها».
بعيدًا عن هؤلاء وهؤلاء نتساءل: إذا كانت هذه الإجراءات انقلابا على الإخوان، فما هو حجم تمثيل الإخوان في الحكومة والبرلمان والمواقع السيادية؟
لم نسمع بأن هشام المشيشي رئيس الوزراء المقال من الإخوان، ولم نسمع بأن وزيري الدفاع والعدل المقالين من الإخوان، ولم نسمع بأن النائب العام الذي تولى قيس سعيّد منصبه من الإخوان.
أما حزب النهضة، فقد حصل في الانتخابات السابقة على 52 مقعدًا في البرلمان من إجمالي 217 مقعدًا، أي بنسبة حوالي 24% من المقاعد، ولذا لم يستطع تشكيل الحكومة مستقلا، فكيف يتحكم الإخوان في البرلمان، ووجود الغنوشي على رأس البرلمان لا يخوله تمرير قرارات فردية أو حزبية حتمًا، كما أن هناك قوى كبيرة في البرلمان من مختلف الاتجاهات السياسية.
لذلك لا مناص من القول بأن الإخوان كالعادة تم استخدامهم لتسويغ الانقلاب، فهذا الانقلاب على الدستور والحقوق في تونس سوف يمنح الرئيس الفرصة لإعادة رسم الخارطة السياسية بعد التخلص من كل الرموز التي قد تصدع رأسه، وخاصة حركة النهضة والتي كانت كلمة السر في نجاح انقلاب الرئيس، وهذا أمر بدوره يتسق مع توجهات قوى محلية معادية للإسلام السياسي، ويحدث ذلك برعاية ومباركة لأعداء الربيع العربي من خارج تونس، ورضى من دول غربية أبرزها فرنسا.
من تونس كانت بداية تفتح أولى أوراق الربيع، عندما احترق محمد البوعزيزي ظنًا منه أنه شمعة ينبغي أن تحترق لتضيء للآخرين، كانت مصدر الإلهام، والشرارة الأولى لانطلاق حلم الأمة في التحرر من الاحتلال الداخلي النائب عن غزاة الغرب، الحبة الأولى في العقد الذي انفرط، فتناثرت حباته في مصر وليبيا وسوريا واليمن، وكادت البقية أن تأتي.
وكما بدأت منها الشرارة أولا، عادت إليها الظلمة آخرًا، أتى طوفان الثورة المضادة لابتلاع مكتسباتها، خاف حكام القبائل من عدوى الديموقراطية وتداول السلطة أن تنتقل إليهم، فتتبعوا أوراق الربيع، يحرقونها ورقة ورقة، حتى كانت الورقة الأخيرة في تونس الذي شهد تحولا ديموقراطيا كبيرًا ينذر أبناء الشياطين ببقاء مخاوفهم من الربيع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق