أصل الحكاية موت جيمس بوند (1)
محمود عبد الهادي
فوجئ المشاهدون لفيلم جيمس بوند الأخير "لا وقت للموت" (No Time to Die) بقيام الممثلة لشانا لينتش -وهي بريطانية من أصل أفريقي- بدور "نومي" عميلة المخابرات البريطانية رقم 007، عوضا عن جيمس بوند بطل السلسلة بالأفلام الـ24 السابقة، حيث ظهر جيمس بوند في بداية هذا الفيلم متقاعدا من الخدمة، وعاد إليها في آخره، قبل أن يموت في نهاية الفيلم، في نهج هو الأول من نوعه في تاريخ السلسلة التي بدأت عام 1962 بفيلم "دكتور لا" (Dr. No) الشهير. فهل تسللت الحركة النسوية ودعوة المساواة بين الجنسين إلى سلسلة أفلام جيمس بوند، بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها وتحققها هذه الدعوة في الدول الغربية والعالم أجمع، بموافقة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؟
ترى خطة أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة أن المساواة بين الجنسين "قاعدة ضرورية لعالم مسالم ومزدهر ومستدام"، وكأنما الحروب والصراعات والقتل والدمار والتخلف والانحدار والاستبداد السياسي والظلم والقمع والتوتر والهيمنة الدولية بسبب اللامساواة بين الجنسين وبسبب عدم تمكين المرأة!
هذه السلسلة من المقالات ليست ضد المرأة، ولا ضد حصولها على حقوقها، ولكنها وقفة تأمّل في ما يتم الزجّ به من قيم وأفكار وبرامج ومشروعات تحويلية للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت شعار الدفاع عن المرأة وتمكينها والمساواة بين الجنسين، وقفة تأمل في مجموعة أفكار نادت بها بعض النساء الغربيات، ثم لم تلبث أن تحولت إلى حركة نسوية انتشرت بسرعة في دول العالم، ثم تحولت إلى خطط وتشريعات وسياسات وقرارات تتبناها الأمم المتحدة وتطالب دول العالم بالالتزام بها، وتدعو الإعلام والدراما والنخب إلى التعريف بها والترويج لها. كيف يحدث ذلك؟ ومن يقف وراءه؟
الهدف الخامس
لم يعد الحديث عن حقوق المرأة وتمكينها والمساواة بينها وبين الرجل مرتبطا بمنظمات المجتمع المدني، بعد أن انتقل إلى أروقة الأمم المتحدة بصفة رسمية، وأصبح بندا رئيسيا في اجتماعاتها المختلفة، وله منظمة خاصة تخطّط وتنفّذ، وفقا للموازنة السنوية المخصصة له، ووفقا للدعم الخارجي الكبير الذي يصله من الدول والمؤسسات ذات الاهتمام الخاص به، وتنفق وتتحرك وتتابع وتقيس تباعا مستويات النجاح، وترصد المشكلات والمعوقات وتعمل سريعا على تذليلها والتغلب عليها.
احتلت قضية تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة التي تبنتها الأمم المتحدة، وتعمل على تحقيقها بحلول عام 2030، وينص الهدف على "تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات"، وترى خطة أهداف التنمية المستدامة أن المساواة بين الجنسين "قاعدة أساس ضرورية لعالم مسالم ومزدهر ومستدام"، وكأنما الحروب والصراعات والتخلف والانحدار والاستبداد السياسي والظلم والقمع والهيمنة الدولية بسبب اللامساواة بين الجنسين وبسبب عدم تمكين المرأة!
وتعمل الأمم المتحدة على تحقيق هذا الهدف عن طريق:
- القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء والفتيات في كل مكان.
- القضاء على جميع أشكال العنف ضد جميع النساء والفتيات في المجالين العام والخاص.
- القضاء على جميع الممارسات الضارة، كالزواج المبكر والقسري، وختان الإناث.
- توفير الخدمات العامة والبنى التحتية ووضع سياسات الحماية الاجتماعية.
- تعزيز تقاسم المسؤولية داخل الأسرة المعيشية والعائلية.
- ضمان مشاركة المرأة مشاركة كاملة وفعالة، وتكافؤ فرصها مع الرجل، للمشاركة في القيادة وصنع القرار في جميع المجالات وكافة المستويات.
- ضمان حصول الجميع على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وعلى الحقوق الإنجابية.
- تخويل المرأة حقوقا متساوية في الموارد الاقتصادية، وحقها في التصرّف في الأراضي والممتلكات، والخدمات المالية، والميراث والموارد الطبيعية، وفقًا للقوانين الوطنية.
- تعزيز استخدام التكنولوجيا التمكينية، لدعم تمكين المرأة.
- اعتماد سياسات سليمة وتشريعات قابلة للتنفيذ، للنهوض بالمساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات على جميع المستويات.
وكغيره من أهداف التنمية المستدامة، ترصد الأمم المتحدة الآثار السلبية التي خلّفتها جائحة كورونا على التقدّم المحدود الذي تحقق في مجال حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، حيث ترى أن تفشّي الجائحة أدى إلى تفاقم أوجه عدم المساواة للنساء والفتيات في المجالات الصحية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، على حدّ قول الأمم المتحدة، التي تعتقد أن جائحة كورونا "توفر فرصة لاتخاذ إجراءات جذرية وإيجابية لتصحيح أوجه عدم المساواة التي طال أمدها في مجالات متعددة من حياة المرأة، وبناء عالم أكثر عدالة ومرونة"، حيث تعتقد الأمم المتحدة أن الجائحة أدت إلى زيادة حادة في العنف والتمييز ضد النساء والفتيات.
ودائما، تسوق الأمم المتحدة البيانات والإحصاءات اللازمة التي تدعم توجهها ومقاصدها من وراء تمكين المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين، وهي بيانات يسهل تفنيدها والرد عليها وإظهار حجم التضليل الذي ينطوي عليه الكثير منها، مما لا تسمح مساحة المقال باستعراضه. والنتيجة، أن هذا الهدف يسعى إلى إعادة تنظيم المجتمع البشري على قيم ومبادئ وتشريعات وسياسات موحدة، لا تلقي بالا لثوابت الدين، وخصوصية المجتمعات وأعرافها وتقاليدها، بزعم أن ذلك من إحدى ركائز تحقيق السلام والاستقرار والازدهار في المستقبل.
كيف تحولت مجموعة أفكار نادت بها بعض النساء الغربيات إلى حركة نسوية تنتشر بسرعة كبيرة في العالم، ولم تلبث أن تحولت إلى خطط وتشريعات وسياسات وقرارات تتبناها الأمم المتحدة وتطالب دول العالم بالالتزام بها، وتدعو الإعلام والدراما والنخب إلى التعريف بها والترويج لها. كيف يحدث ذلك؟ ومن يقف وراءه؟
منظمة دولية خاصة
تعزيزاً لدورها في تمكين المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، أنشأت هيئة الأمم المتحدة عام 2010 منظمة خاصة بهذا الهدف تحت اسم "هيئة الأمم المتحدة للمرأة" (UN Women) لدعم الدول الأعضاء في المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، حيث تعمل مع الحكومات والمجتمع المدني لتصميم القوانين والسياسات والبرامج والخدمات اللازمة لضمان تنفيذ المعايير بفعالية، وإفادة النساء والفتيات في جميع أنحاء العالم. وهي تعمل على الصعيد العالمي لجعل رؤية أهداف التنمية المستدامة حقيقة واقعة للنساء والفتيات وتقف وراء مشاركة المرأة على قدم المساواة في جميع جوانب الحياة، مع التركيز على 4 أولويات إستراتيجية:
- تمكين المرأة من القيادة والمشاركة في أنظمة الحكم، والاستفادة منها على قدم المساواة مع الرجل.
- تأمين الدخل والعمل اللائق والاستقلال الاقتصادي لجميع النساء.
- توفير حياة خالية من جميع أشكال العنف لجميع النساء والفتيات.
- مساهمة النساء والفتيات في بناء السلام والاستقرار المستدامين، والاستفادة المتساوية من برامج الوقاية من الكوارث الطبيعية والنزاعات والعمل الإنساني.
وفي جميع المداولات والاتفاقيات المرتبطة بخطة 2030، تعمل الأمم المتحدة للمرأة على وضع المساواة بين الجنسين على أنها أساسية لأهداف التنمية المستدامة، ولعالم أكثر شمولا. ومنذ انطلاقها عام 2010، شرعت المنظمة في عقد شراكات إستراتيجية مع المئات من مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات النسوية الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين على مستوى العالم، التي تنشط محليا وإقليميا ودوليا، وعلى صلة بالمستويات الرسمية والخاصة، ولا تجد مشكلة في الوصول إلى أصحاب القرار والحصول على الدعم والتمويل والإمكانات اللازمة للقيام بأنشطتها وفعالياتها.
كما أنشأت المنظمة العام الماضي ما يسمى "تحالفات العمل" (The Action Coalitions)، وهو تحالف عالمي يبتكر شراكات مع الحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية والقطاع الخاص، لتحفيزها على العمل الجماعي مع المنظمة، وزيادة الاستثمار العام والخاص في دعم المساواة بين الجنسين، وتحقيق نتائج قادرة على تغيير قواعد اللعبة لصالح النساء والفتيات في كل مكان في العالم. وقد أطلق هذا التحالف "منتدى أجيال المساواة" (Generation Equality Forum) بالشراكة بين منظمة الأمم المتحدة للمرأة والمكسيك وفرنسا، وينعقد سنويا في كل من المكسيك وفرنسا في موعدين مختلفين، وقد انعقد المؤتمر الثاني في مكسيكو سيتي مارس/آذار الماضي، وفي باريس يونيو/حزيران الماضي.
والمنتدى تجمع عالمي من أجل المساواة بين الجنسين يركز على المجتمع المدني، بهدف جمع الجهات الفاعلة معًا، وخاصة الشباب، لرسم المسار قدما نحو أجندة نسوية جديدة وجريئة وإنشاء شراكة تقدمية متعددة الأطراف بين الجنسين. وقد أعلن منتدى جيل المساواة المنعقد في باريس هذا العام عن التزامات وصفت بأنها "ثورية" وخطة التسريع العالمية للنهوض بالمساواة بين الجنسين مدتها 5 سنوات حتى عام 2026، وقد التزم المشاركون في المنتدى بدعم مالي لتحقيق هذه الخطة بلغ 40 مليار دولار، من بينها 21 مليار دولار من الحكومات ومؤسسات القطاع العام و13 مليار دولار من القطاع الخاص، و4.5 مليارات دولار من منظمات العمل الخيري. بالإضافة إلى ذلك، قدمت 440 منظمة مجتمع مدني و94 منظمة شبابية، التزامات قوية بسياسات وبرامج المنتدى الذي حضره نحو 50 ألف مشارك عن طريق الإنترنت، من بين ملايين النشطاء والمؤيدين المنتشرين في العالم.
إن المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في كافة المجالات وجميع المستويات ليسا مجرد مسألة إنسانية حقوقية تدعو إلى رفع الظلم عن المرأة واستعادة حقوقها، وإنما هي هدف متقدم من أهداف التنمية المستدامة 2030، وإحدى الركائز التي يعوّل عليها لتحويل العالم، وهناك آلاف التفاصيل التي يجرى مراجعتها وتعديلها في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والقضائية والثقافية والتعليمية في دول العالم، بما يحقق هذا الهدف بكافة تفاصيله، فهل سيتحقق؟ وكيف سيكون العالم بعد التمكين والمساواة الكاملة بين الجنسين؟ وكيف ستستقبل الدول العربية والإسلامية هذا التحول القادم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق