مصر الجديدة: جمهورية الشلولو
وائل قنديل
"عندي مليون فدّان جاهزين اللي عايز يدخل يزرعهم ومش محتاجة حاجة غير رمي البذرة والزراعة".. هكذا صاح عبد الفتاح السيسي في واحدةٍ من حفلاته الاستعراضية أخيرا، والتي يعد فيها المصريين بالمنّ والسلوى، وفي اللحظة ذاتها ينهال عليهم بالمنّ والأذى.
بالطبع، لا يقول "الزعيم المبروك" الحاكم بأمره للشعب من أين له بالمياه اللازمة لاستزراع مليون فدّان جديدة، بينما ملايين الأفدنة القديمة تستغيث من البوار الذي يتهدّدها مع الفقر المائي الذي يعدهم به المسؤولون في الدولة، لكنها قوانين صناعة اللقطة المبهرة للرجل الذي يدير جمهوريته الجديدة بمفاهيم الحاكم بأمر الله الفاطمي.
إلى جنوب صعيد مصر، توجّه السيسي، تسبقه عشرات القنوات التلفزيونية التي أوقفت برامج البثّ الاعتيادية، وتحوّلت إلى عرض طرق مرصوفة، تخلو من المارّة، سوف يفتتحها الزعيم الذي يتناول الميكروفون بنهم شديد، ويستحوذ على كل الكاميرات والعدسات وهو يوبّخ وزراءه وتابعيه على الهواء مباشرة، فتنخفض ميزانية المشروع الواحد من تسعة إلى سبعة مليارات جنيه بنظرة واحدة من العين الحمراء الاصطناعية المصوّبة إلى "كامل" أو الجنرال الأقل حجمًا الذي يتولى حقيبة وزارة النقل.
من دون توضيح من "الوزير الكامل"، وكذلك من "الحاكم بأمره" لا يعرف أحد كيف ينفذ المشروع نفسه بتكلفةٍ تقل عن ميزانيته المخصّصة والمعلنة بنحو ملياري جنيه، ويحقق النتائج ذاتها ويؤدي الأغراض نفسها؟.
قبل هذه الواقعة الممسرحة بأيام كان السيسي يحث الشباب على الانخراط في التخصّصات العلمية وثيقة الصلة بالرقمنة والذكاء الاصطناعي، لكنه في لقطة المليارين لم يكلّف نفسه عناء مساءلة وزيره عن مصير هذا المبلغ الذي تم حذفُه من ميزانية المشروع، وكيف سيجري تنفيذُه بالجودة ذاتها، بعد الخصم، ولماذا خصّص له الميزانية الأولى (9 مليارات) إذا كانت سبعة مليارات فقط كافيةً لإنجازه؟
الشاهد أن جمهورية السيسي الجديدة لم تغادر عقلية "الإدارة بالشلولو"، والتي تألقت في التعاطي المبكّر مع عربدة جائحة كورونا في المجتمع، حيث قوبلت عربدة الوباء بعربدة الأداء، من خلال تكليف وسائل الإعلام بالتركيز على "المواجهة بالشلولو"، والذي هو أكلة مهجورة في التراث الشعبي في أقصى صعيد مصر، حيث تلك الخلطة العجيبة من الثوم والبصل والليمون ومسحوق أوراق الملوخية، تم استدعاؤها في برامج التوك شوز المصرية علاجًا ضد فيروس كورونا، ليصبح هذا الشلولو لاحقًا، وكما وصفته، نمطًا أو طريقة لصنع القرار السياسي والإداري، تتمسّك به كل النظم المستبدّة على مر العصور، وهي تتعاطى مع شعوبها بوصفها مجموعةً من الأطفال، لا يجب أن تُترك لهم مساحات للتفكير والاختيار والإبداع.
مثلًا، في مايو/ أيار 2017 كان السيسي يصرخ في الشعب "مصر مش طابونة"، ثم يقول "إحنا بنحاول ننظّم العمل كدولة، وألا يكون الموضوع ماشي بشكل غير علمي وغير منظّم، وبالتالي وضع اليد اللي موجود على الأراضي مش مقبول ولن نقبله".
في الشهر نفسه، كان "يشخط" في أستاذ جامعي ونائب برلماني تجرّأ وطالب في مؤتمر جماهيري بزيادة الحد الأدنى للأجور، وعدم رفع الدعم عن الطبقات الفقيرة، لينفجر فيه معنفًا "انت دارس الموضوع اللي بتتكلم فيه ده، انت دارسُه؟! انت عايز الدولة تقوم ولا عايزها تفضل ميتة، ادرسوا المواضيع كويس واعرفو البلد فيها إيه، 3 آلاف جينه حد أدنى بعد كام سنة، لا طبعًا أنا كان ممكن أسكت وأقولك طيب، بس لا طبعًا".
لكن الشخص الذي يغضب ويصيح في وجه الذين يتحدّثون من دون أن "يدرسوا المواضيع كويس" هو نفسُه يعود بعد شهور معدودة ليعلن عدم اعترافه بقيمة دراسات الجدوى وأهميتها قبل تنفيذ المشروعات، ويقول أمام منتدى أفريقيا 2018 المنعقد بمدينة شرم الشيخ "وفق تقديري، في مصر لو مشيت بدراسات الجدوى وجعلتها العامل الحاسم في حل المسائل كنا هنحقق 20-25% فقط مما حققناه".
هكذا، ينتقل السيسي من الكلام عن احترام العلم والتخطيط، إلى احتقارهما وازدرائهما بالممارسة العملية، ومن عدم الاعتراف بدراسات الجدوى، ثم ادّعاء أنه يدرس كل شيء ويفهمه ويعلمه من لدن الحكيم العليم.
هذه الفنتازيا في ممارسة السلطة تؤشّر إلى أننا بصدد دولة، كل مؤسساتها معطلة بالكامل، وتدار فقط بقرارات شخص، هو الحاكم بأمره، يبدو قريب الشبه بالحاكم بأمر الله الفاطمي في تناقضاته وتخبّطاته، حيث اشتهر باتخاذ القرارات وعكسها، وفرض القوانين ثم إلغائها وتعطيلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق