يناير يأتي غدًا: عطر يخنق الطغاة
وائل قنديل
بين الفوبيا والبارانويا، يتخبّط الجنرال عبد الفتاح السيسي، متنقلًا بمواكبه الاستعراضية المصفحة، في هيئة "صاحب الدولة"، وليس الموظف العام الذي يجلس على قمة إدارتها، بصرف النظر عن أن هذا الجلوس جاء عبر وسائل شرعية محترمة، أم بالقرصنة والخطف والسطو المسلح.
احسب عدد المشاريع التي يحتفل بها، وعدد الضحايا الأبرياء الذين يتساقطون، ستجد أنه مع كل ستار يرفعه لتدشين مشروع من مشروعاته التي يمنّ بها على الشعب يسقط واحد من الشعب، ضحية جديدة للقهر والتعذيب والحرمان من العلاج في السجون، أو يزجّ ببريء جديد إلى المعتقلات، أو يصدُر حكم بالسجن على معتقل مظلوم، أو إعدام مواطنين بالجملة، أو تُضاف سنة جديدة من الألم لأطفالٍ حرموا من رؤية آبائهم وأمهاتهم طوال ثمان سنوات، هي عمر المأساة الإنسانية التي تغرق فيها مصر منذ قرّر شخصٌ أن يصل إلى السلطة بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن مذبحتين داميتين، هما الأكبر والأسوأ في تاريخ مصر، إضافة إلى عمليات قتلٍ متعدّدة خارج نطاق القانون، لا تتوقف.
على أن الثمن الأكبر المدفوع من أجل انتزاع السلطة، وهو أيضًا مكافأة هذا الانتزاع، كان اغتيال أحلام شعبٍ في التغيير والانتقال من حالة وطن الحاكم وحاشيته إلى حالة وطن المواطنين، يكونون فيه مصدر السلطة والعين التي تراقبها وتحاسبها، وتغيرها، عبر آلياتٍ ديمقراطيةٍ ملزمةٍ للجميع، إن رأت أن هذه السلطة غير جديرةٍ بإدارة شؤونها.
وعلى الرغم من أن الجنرال المهووس بمظاهر التسلّط واستعراض القوة قد أحكم قبضته تمامًا على مقاليد الأمور، وبات يتصرّف وكأنه هو صاحب الدولة والوطن والثروة وسلطة الإدارة والتخطيط والتنفيذ والمتابعة والمحاسبة، إلا أنه مع ذلك كله لا يزال مسكونًا بالجوع إلى مزيد من التسلط، والفزع من أطياف الحلم الذي قتله وأشعل النار فيه.
استباقًا ليناير من كل عام، يستدعي الجنرال طيف الثورة التي قتلها، مدفوعًا بيقين أنها لا تزال على قيد الحياة، هناك في مساحةٍ ما من الوجدان العام، وأنها ستنبعث من تحت رماد حريقها، مثل العنقاء، فتنتصب أمامه وتلاحقه أينما ذهب، تذكّره بتلك الأيام التي تملقها فيها وتصنّع الود معها، حتى امتدت يده وطعنتها في مقتل.
هذا اليقين، بالدرجة ذاتها من السطوع، لا يغادر الذين عرفوا هذه الثورة حقّ المعرفة، وآمنوا بها واحتفظوا بمحبتها، مدركين أنها ما زالت تعافر وتحاول النهوض، ولا تستسلم لوحشية السجّان، أو لبهرجة زفّة المشاريع والإنجازات، التي تتمنّى أن تكون حقيقية، وأن تزيد وتتوسّع، حتى وإن كانت قد أسّست على الدماء المراقة والأجساد المعذّبة والأرواح المزهقة، حتى لو كانت قد أقيمت فوق أنقاض الكرامة الوطنية المهدرة بتسوّل المنح والقروض ورهن القرار الوطني لمن يكرهون هذه الأمة.
لا أحد يكره أن تكون هذه المشروعات حقيقية، وذات فائدة للمصريين، ليس فقط لأنها من حصيلة عرق المصريين وبأموالهم، وإنما أيضًا انطلاقًا من يقين، لا يقلّ عن يقين الجنرال بأن هذا الحلم الجريح السجين سوف ينهض ويكتمل، وسوف يأتي اليوم الذي يعيد فيه هذا الشعب تسمية هذه المشروعات والإنشاءات بأسماء الضحايا والشهداء الذين أهدرت دماؤهم على أيدي الذين يمنّون على المواطنين بها، ويقايضونهم على حرّياتهم وكرامتهم.
هذه المشروعات التي نفذت بأموال الكفالات المدفوعة من أكثر من مائة ألف معتقل، والأموال التي نهبت من محبوسين صودرت شركاتهم ومصانعهم، وجرت عمليات قرصنة واستيلاء بالقوة على أصولهم وأرصدتهم بالبنوك بغير وجه حق، ومكافآت التفريط في جغرافيا الوطن (تيران وصنافير) وتاريخه (الشراكة مع الصهيوني لإخماد مقاومة الشعب الفلسطيني).
من كان يتصوّر أن محطة مترو الأنفاق التي وضعوا عليها اسم حسني مبارك سيصبح اسمها محطة شهداء الثورة على حسني مبارك في سنة 2011، تلك السنة التي تطارد الطغيان في صحوه ومنامه فيسبها مذعورًا مفزوعًا من ذكراها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق