نظرات وعبرات جماعة الإخوان المسلمين على مفترق طرق
محمود عبد الهادي
لم يتوقع أحد أن تصاب جماعة الإخوان المسلمين بهذا الصدع الرأسي الهائل الذي أصاب قيادتها، لتصبح بكيانين منفصلين، لكل منهما قيادة وأتباع، وبذلك تزيد مِعولا جديدا إلى معاول الهدم الفولاذية الضخمة التي تستهدف قواعدها وبنيانها، وخاصة في السنوات التي تلت ما يعرف بـ"ثورات الربيع العربي".
يحدث هذا الصدع في الوقت الذي تنتظر فيه الجماعة الاحتفال بذكرى مرور 100 عام على تأسيسها، فهل سيأتي هذا اليوم؟ أم ستتهاوى الجماعة ويذوي نجمها قبل أن يحين موعده؟ أم سيدرك قادة الكيانين وأتباعهما حجم المصيبة التي تسببوا فيها، والتي تتجاوز في خطورتها ونتائجها كافة المحن التي واجهتها الجماعة داخل مصر وخارجها على مدى تاريخها؟
هل يتدارك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين خطورة المصيبة التي أحاطت بهم، والهاوية التي ينحدرون إليها أم سيتركون الدورة تكتمل وتصنع فيهم ما صنعت في غيرهم؟ هل ستجتاحهم سنن الصعود والهبوط أم سيتداركون الأمر قبل استفحاله؟"
أسباب الخلاف والخبرات المهملة
لنبتعد عن التفاصيل التي تسببت في هذا الصدع، والحيثيات التي يسوقها كل طرف لإثبات صحة وسلامة موقفه، ليس لأن هذه التفاصيل لا قيمة لها، أو لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، وإنما لأن هذا الصدع أكبر من كافة التفاصيل، ولأن الخوض فيها لن يقود إلى الحل ولن يعالج الصدع الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم.
إن آخر ما كان يتوقعه المراقبون حدوث تصدع بهذا الحجم في قيادة الإخوان المسلمين لأول مرة في تاريخها، ليس لأن الجماعة ملائكية منزهة عن مثل هذه الخلافات، وإنما لأن المراقبين يتوقعون أن تكون الجماعة قد اكتسبت على مدى تاريخها كثيرا من الخبرات والأنظمة والحكمة والحنكة، ما تحصّن به كيانها في وجه العواصف والأزمات والزلازل التي مرت بها، ولكن كانت المفاجأة أن هذا التحصين لم يكن كافيا، ما أدى إلى حدوث هذا الصدع، وبذلك يقدم الإخوان لخصومهم وأعدائهم هدية فاقت تصوراتهم، وجعلتهم أقرب إلى تحقيق أهدافهم الإستراتيجية ضد الإخوان من أي وقت مضى. فهل يدرك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هذا الأمر ويستعجلون الخطى لرأب هذا الصدع قبل فوات الأوان، أم سيصيبهم ما أصاب غيرهم؟
أصبحت الخلافات والصراعات سمة غالبة من سمات معظم قادة وزعامات الدول العربية، التي أخفقت دائما في حل خلافاتها وأزماتها بما يحقق مصالحها وطموحات شعوبها، سواء في جامعة الدول العربية، أو الاتحاد المغاربي أو مجلس التعاون الخليجي، ومنذ حوالي 10 سنوات، ونحن نشاهد إخفاق العديد من الدول العربية في حل خلافاتها السياسية على الصعيد المحلي، وإيقاف صراعاتها المسلحة، في اليمن وسوريا وليبيا والعراق والصومال، وليس ببعيد عن ذلك؛ الخلافات الداخلية التي تشهدها تونس ومصر والسودان ولبنان وفلسطين. ورغم الخبرة التاريخية الهائلة المتوفرة في كيفية حل الخلافات والأزمات، ورغم الأدوات الإقليمية والدولية المتاحة لذلك؛ فإن عوامل ذاتية معينة تعمل دائما على تعقيد الخلافات والأزمات والصراعات المسلحة، وتصعيدها وإطالة أمدها، وعلى رأس هذه العوامل:
- تمسك كل طرف بموقفه.
- اقتناع كل طرف بأن الظروف تسير لصالحه، وأنه لم تمر سوى بضع أيام حتى يتمكن من السيطرة على الأوضاع وتؤول الأمور إليه.
- تغييب المصالح العليا وتقديم المصالح الشخصية والفئوية، التي تُعمي الأبصار، وتطيش بها الأذهان.
- سيطرة الغضب والنزوع إلى الثأر والانتقام، بغض النظر عن حجم النتائج والخسائر المترتبة على ذلك.
- تغليب الهوى والانفعال وردود الأفعال على العقل والحكمة، فلا صوت يعلو سوى صوت الإدانة والاتهام والخصومة والتهديد والوعيد.
- الانشغال بالتفاصيل المسببة للخلاف، وترك الخلاف نفسه يتفاقم وتزداد نتائجه فداحة.
- التمسك بالمواقف (المتقلبة) ووجهات النظر (المتغيرة) والمكتسبات الذاتية العارضة.
- عدم الاستعداد لتقديم أي تنازلات من شأنها المساعدة على تقريب وجهات النظر وحل الخلافات.
- اللامبالاة تجاه ضحايا الخلاف والنتائج الكارثية المترتبة عليه.
- عدم الانتباه للمؤثرات الداخلية والخارجية المغرضة، التي تحرّض على إذكاء الخلاف وتصعيده.
- الجهل بالمراحل التي يمر فيها الخلاف، فتزيده تعقيدا وتصلبا.
ولا شك أن جماعة الإخوان المسلمين تعي جيدا هذه العوامل، فقد سبق لها أن واجهت العديد من الأزمات العاصفة، وعايشت تجارب متنوعة من الخلافات والانشقاقات في صفوف الجماعات الإسلامية والواقع العربي والإسلامي، وقامت بجهود كبيرة للإصلاح ورأب الصدع. إلا أنها وقعت أخيرا فيما كانت تحذّر منه، وانحدرت باتجاه الهاوية التي سقطت فيها دول وأحزاب وكيانات عربية كثيرة. فهل يتدارك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين خطورة المصيبة التي أحاطت بهم، والهاوية التي ينحدرون إليها أم سيتركون الدورة تكتمل وتصنع فيهم ما صنعت في غيرهم؟ هل ستجتاحهم سنن الصعود والهبوط أم سيتداركون الأمر قبل استفحاله؟
دلالات وآثار واحتمالات
الصدع الذي حدث في قيادة الإخوان المسلمين لم يكن حدثا عاديا، لأنه يتعارض مع الأسس والمبادئ والقيم التي قامت عليها، ومنذ انقلاب يونيو/حزيران 2013 في مصر تعرضت الجماعة لتصدعات فردية محدودة على مستوى القاعدة، ولكنها هذه المرة أصابت القيادة، واستمرار الصدع أكثر من ذلك يشير إلى دلالات عديدة من بينها:
- استفحال الخلاف وتجذّره وصعوبة الرجوع عنه.
- استمرار الخلاف يعني وجود خلل في الأسس الفكرية للجماعة وأنظمتها ومناهجها التربوية.
- استمرار الخلاف يعني عدم وجود سلطة أعلى تفرض كلمتها على الطرفين.
- استمرار الخلاف يضفي المصداقية على الاتهامات التي توجهها الدول والكيانات التي أعلنت الحرب على الإخوان المسلمين.
- استمرار الخلاف يزيد الأمل لدى هذه الدول والكيانات بقرب تحقيق أهدافهم بالقضاء على جماعة الإخوان المسلمين.
- استمرار الخلاف يعني أن قيادة الإخوان لا تختلف عن غيرها من القيادات التي تتطلع إلى القيادة وتتنافس على السلطة.
ومن الطبيعي أن تترك هذه الأزمة نتائج وآثار كبيرة على جماعة الإخوان، في الجوانب التالية على وجه الخصوص:
- التنظيم الإداري والهيكلي.
- الأسس الفكرية والمناهج التربوية.
- الموقف السياسي الداخلي والخارجي، العربي والدولي.
وستؤثر هذه النتائج على قيادات الجماعة وكوادرها على حد سواء، وستجد الجماعة نفسها أمام واحد أو أكثر من السيناريوهات المحتملة التالية:
- حل الأزمةبالمسارعة إلى رأب الصدع وتوحيد الصف، وهو الحل الأقل تكلفة والأقدر على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وتنفيس الاحتقان النفسي الذي يعتمل في صدور كوادر الجماعة وأصدقائها، وهو السيناريو الوحيد الذي سيحافظ على كيان الجماعة من التفكك والانهيار والذوبان.
- التفككببقاء الصدع كما هو، وتحوّله مع مرور الوقت إلى عدة جماعات أو أجنحة تتنافس فيما بينها حول تركة الجماعة الأصل، وهذا السيناريو هو الأقرب إذا أخفقت الجماعة في رأب الصدع.
- الانقلابحدوث تغيير انقلابي مفاجئ، يتخطى الطرفين المتنازعين، وينشغل بترتيب أوضاع الجماعة والتعامل مع ملفاتها المختلفة بصورة مختلفة، وهذا الخيار ممكن الحدوث في حال استمرار الخلاف، وظهور مبادرات سريعة، نتحرك فيها كوادر الجماعة لتصحيح الأوضاع، وفرض حل جديد يقدم المحافظة على تماسك الجماعة على أي شيء آخر.
- الانهيارتفتت الجماعة تدريجيا، وذوبان كوادرها في غمار الحياة وطلباتها التي لا تنتهي، وهذا الخيار وارد الحدوث في حال استمرار الخلاف، وتعدد التصدعات، وظهور أجنحة وتيارات جديدة، وتفاقم الإحباط والقنوط لدى كوادر الجماعة.
إن جماعة الإخوان المسلمين في هذه المرحلة الحرجة تجد نفسها أمام مسؤولية كبيرة من أجل التعامل مع هذه الفترة الحرجة من تاريخها وتاريخ الدول العربية كي تكون أقدر على مواجهة سنن الحياة، ومقاومة الاندثار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق