عالم الجواسيس والخياناتعبد الله العمادي
المغول رغم وحشية أساليبهم مع الدول التي كانوا يغزونها، وهمجيتهم بعد كل انتصار، لم يكن ليحصل لهم ذلك لولا عامل مهم رئيسي في غالب حملاتهم الهمجية المتوحشة، هو التجسس عبر زرع عملاء من بني جنسهم، أو كسب ود خونة من أبناء الدول التي كانوا يخططون لاجتياحها ونهبها وإهلاك الحرث والنسل فيها.
قال فيهم الإمام السيوطي: "تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم. وقلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم، لأن الغريب لا يتشبه بهم، وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه ولا عسكر حتى يخالطوه..".
لا يهمنا كثيراً التوقف عند تاريخ المغول الوحشي، ولا ظهورهم الذي لم يضف إلى الحضارة الإنسانية شيئاً، سوى تخليد مشاهد البؤس والقهر وإهلاك الحرث والنسل والاستمرار في زرع الخونة هنا وهناك، لكن ما يهمنا هاهنا هو الوقوف قليلاً عند ظاهرة الجواسيس أو الخونة، وتأملها وما يدعو إلى ظهور تلك الدمامل في جسد الأمة.
لكن بادئ ذي بدء، لابد من القول إنه ليس هناك ما يمنع من تطبيق فكرة التجسس على العدو، لا من الناحية الشرعية ولا القيمية، بدليل قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). ومن تلك القوة، ما نسميه اليوم جهاز الاستخبارات، الذي يكون من صلب مهامه وعمله، حماية أمن ومصالح البلاد ومن فيها.
الجاسوسية اليوم صارت عملاً احترافياً يتطلب من القائم بهذا النوع من العمل، دقة ومهارة، وكياسة وفطنة، مع سرعة بديهة، لاسيما إن كان هذا "العميل" يعيش وسط بيئة معادية لبلده ودينه. العمل جد دقيق ويتطلب حذراً فوق المعتاد والمطلوب، وعدم مخالفة التعليمات.
حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه– طلب منه الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم– في إحدى الليالي الباردة لمعركة الخندق أو الأحزاب، أن يجمع قواه ويدخل خلف خطوط العدو، وطلب منه مهمة معينة لا يتجاوزها ولا يبادر بأي عمل من تلقاء نفسه، حتى لو وجده سهلاً وفي صالح المسلمين. ونجح في دخول معسكر المشركين، بل ووصل إلى القائد الأعلى لهم وكان يومها أبوسفيان، حيث يقول حذيفة عن مشهد اقترابه منه: "رأيت أبا سفيان يُصلي ظهره بالنار– من شدة البرد- فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تُذعرهم عليّ، ولو رميته لأصبته". المهم في القصة أنه نفذ المهمة وعرف معلومات غاية في الأهمية عن الحالة المعنوية لجيش المشركين، وعاد سالماً دون أن يكتشف أمره أحد، بعد معاناة من برودة ورهبة تلك الليلة، فأخبر الرسول الكريم ما رآه وسمعه، فكانت مكافأته كما يقول حذيفة: "فألبسني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت. فلما أصبحتُ قال: قم يا نومان".
العلقمي نموذج للخيانة
إذا عدنا إلى المغول تارة أخرى، فإنك لا تجد من يتحدث عنهم ودورهم في تخريب وتشتيت المسلمين، إلا ويذكر الوزير ابن العلقمي، كأبرز نماذج الخيانة في تاريخنا، والذي حاز على ثقة الخليفة العباسي المستعصم إلى الدرجة التي ترك له الحبل على الغارب يفعل في الدولة ما يشاء، وكان ذاك ما أراده وسعى إليه العلقمي، خاصة أنه كان يحمل ضغائن للخليفة العباسي بسبب اختلاف العقائد، وطمعه مما في يد المغول، فاستغل غفلة وثقة الخليفة فيه، وبدأ بالتواصل مع التتار في سرية تامة، من بعد أن بدأ في ترتيب ما يلزم لتهيئة عاصمة الخلافة لدخول جيش التتار بقيادة هولاكو واجتياحها، على أمل أن يكون له وضعه بعد ذلك في الدولة.
قال عنه ابن كثير: "ثم كاتَبَ التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشف لهم ضعف الرجال. وأوهم الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة، على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمئة راكب من القضاة، والفقهاء، والأمراء، والأعيان.. فتم بهذه الحيلة قتلُ الخليفة ومن معهُ من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتار".
ليس كل جاسوس خائناً
لا يمكن بالطبع القول إن كل جاسوس خائن. ذلك أن أمن الوطن يستدعي وضع العيون على شكل جهاز أمني مستتر، يقوم عمله أساساً تجاه أهل الريب والشبهات في مجالات السرقة والجرائم اللاأخلاقية وما شابه من جرائم تؤثر على الأمن الداخلي للبلد، وأهمية تتبعهم وملاحظتهم للحيلولة دون وقوع ضرر منهم على المجتمع ومن يعيش فيه. وإن كان هذا الأمر بالطبع يحتاج لتقنين، فالأمر ليس بهذه السعة التي يمكن تصورها حتى يتم إطلاق يد الأجهزة الأمنية بلا حدود وضوابط.
لكن الأهم من هؤلاء المؤثرين على الأمن الداخلي وسلامة المجتمع، أولئك الذين يقومون بأعمال التجسس لغير صالح بلدانهم وأمتهم ودينهم، فهذا ليس فيه أدنى شك أنه خيانة لله والرسول والأمة. وبالمثل يمكن أن يقال عن الذي يعمل داخل وطنه لكن على أهله، خدمة لزعيم فاشي أو ديكتاتور ظالم أو نظام سياسي أو لصالح جهاز مالي أو منفعة لمجموعة تجارية أو كتلة رياضية أو ما شابه من كيانات أو حتى لصالح أفراد.. ذلك عمل تجسسي بحت، وهو خيانة دون أدنى ريب.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هاهنا:
لماذا الخيانة؟
أن تكون عيناً للعدو في بلدك وبيئتك، أو عامل تسريب وتمرير معلومات وأسرار عن وطنك وشعبك للآخر المتربص، فهذا أمر غير مقبول –كما أسلفنا– وهو في العرف القانوني جريمة، وتسمى في بعض الأقطار بالخيانة العظمى الموجبة لأقصى العقوبات. وهو في العرف النفسي والاجتماعي نوع من أنواع الانحراف.. انحراف في التربية، والأخلاق والدين.
لكن السؤال بعبارة أخرى:
لماذا يتجه الإنسان إلى خيانة بلده وأمته ودينه؟
هل السبب هو بحث عن مكاسب مادية، أم لعلل نفسية تسيطر على الخائن، أم لخلل في النشأة والتربية الدينية والوطنية؟ أم هناك أسباب أخرى؟
الإجابة ليست بسهولة طرح التساؤلات، لكن من المهم جداً استقراء أحداث ووقائع من التاريخ كان للجواسيس والعملاء دورهم في خراب أوطانهم وهزيمتها، وبالتالي ضرورة دراسة المسببات والدوافع التي جعلتهم يرتمون في أحضان العدو، ثم لا يلبث أحدهم أن يختفي في ظروف غامضة!
لا شك أن الجانب التربوي والديني مهم جداً في هذه المسألة، فإن أي خلل في تلك الجوانب أو ضعف أو ضبابية في التعليمات والإرشادات، من شأنها أن تحدث نوعاً من التوهان عند الشخص، لا يدري أين الصواب من الخطأ، وبالتالي يكون عرضة وصيداً سهلاً لضمه إلى عالم الخيانة في صورها المتنوعة. أضف إلى ذلك، الجانب النفسي، حيث يكون الخائن عادة يشعـر بعقدة نقص منذ طفولته، بسبب تجاهل وعدم اهتمام به في كثير من نواحي حياته، وبالتالي مع نشأته وإدراكه للواقع، ربما يجد في الخيانة وتقدير من يعمل لهم، فرصة لسد ذاك النقص وإشعاره بأهميته، وقد يؤدي به بعد ذلك للانتقام ممن كانوا سبباً في تعاسته، أو ربما هكذا التفكير عنده.
الشاهد من هذا الحديث كله، أن التربية الإيمانية الصحيحة، عامل رئيسي أول، بل الأهم في ضبط وربط الإنسان ومنعه من الدخول في هذا التيه، وهذا العالم المنحرف غير السوي. ثم زرع الإيمان في أعماق القلوب، والمداومة على التذكير بأساسيات هذا الإيمان، عامل آخر مهم. مع أهمية استحضار مشاهد الخيانات في التاريخ القديم والحديث، ومآلاتها وعواقبها، كنماذج للدراسة، يتلقاها الفرد في مراحل التربية والتكوين المختلفة. ويأتي أخيراً، عامل رابع مهم متمثل في منع الظلم أن يقع على الأفراد، وأهمية سيادة العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع.
هي كلها عوامل تساند وتدعم بناء الشخصية الوطنية الملتزمة بدينها وحبها لوطنها، التي لن ترى في حب الوطن، بعد كل تلك العوامل، سوى أنه من الإيمان الموجب لرضا الله ورسوله الكريم.
والله دوماً كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق