عندما يخجل القاضي من إعلان أحكامه
وائل قنديل
ما الذي يدفع قاضيًا إلى الاختباء والتخفي من إعلان حكم قضائي أصدره بحق متهمين لم يحصلوا على فرصة، هم ومحاموهم، للدفاع عن أنفسهم؟
ما الذي يجعل قاضيًا يكلف حاجبًا في المحكمة بالخروج من غرفة سرّية لكي يقول لجمهرة المحامين والمتهمين وذويهم بعد سبع ساعات من اللاشيء، لكي يلقي على مسامعهم جملة من بضع كلمات ركيكة "علاء حبس 5 سنين، والثاني والثالث 4"، ثم يعود سريعًا إلى السرداب الذي خرج منه، من دون أن يكلف نفسَه عناء نطق اسمي المتهمين الثاني محمد الباقر وهو محام، الأول علاء عبد الفتاح، والثالث المدوّن الشاب محمد أوكسيجين؟.
يقولون إن الحكم عنوان الحقيقة، والوصول إلى الحقيقة والبتّ فيها وإعلانها هو مما يشرّف القاضي، أي قاضٍ، ويجعله يشعر بالفخر وهو يخرج على جمهور العدالة لكي يتلو أحكامه، غير أن القاضي في محاكمة الناشط علاء عبد الفتاح والمحامي محمد الباقر والمدوّن محمد أوكسجين، لم يجرؤ على عقد جلسة المحاكمة، ولم يسمح للمتهمين ومحاميهم بالاطلاع على ملفّ القضية، أو معرفة الاتهامات التي يُحاكمون بها، لا شفاهة ولا كتابًة، كما لم يجرؤ على مواجهة المتهمين، والحضور في القاعة بالأحكام التي توصل إليها. وعوضًا عن ذلك، أرسل الحاجب ليعلن الأحكام في أقل من عشر ثوان ثم يختفي.
حتى بعد انفضاض الجلسة، وكما في شهادات المحامين المترافعين عن المتهمين، لم يتمكّنوا من الحصول على صورة من حكم المحكمة، تمامًا مثلما لم يتمكّنوا من الحصول على أوراق القضية، قبل المحاكمة، لكي يدرسوا ما فيها من تهم، ومن ثم يجهّزون الردود والمرافعات، لتكون محصلة هذه المشاهد العبثية كالآتي: متّهمون لا يعرفون تهمتهم ومحامون لم يقرأوا أو يدرسوا القضية ..
وقضاة لم يواجهوا المتهمين والمحامين، ولم يقرأوا نصوص أحكام أصدروها على مسامع أطراف القضية الأساسيين .. وأحكام قرأها حاجبٌ مسكينٌ ولم يعثر لها، حتى الآن، على أثرٍ مكتوبٍ في سجلات المحكمة.
وبعد كل هذه الكوميديا السوداء، مطلوبٌ من الجميع أن يصمتوا ولا يعلّقوا بكلمة واحدة على ما جرى، وأن يردّدوا خلف المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد حافظ، أن القضاء عادل ونزيه ومستقلّ، وأنه، بحسب ما ورد في ردّه على تصريحات خيبة الأمل الصادرة عن الخارجية الأميركية "ليس من المناسب إطلاقًا التعليق بأي شكل، أو التطرّق إلى أحكام تصدر من القضاء؛ تنفيذًا لقوانين واستنادًا لأدلة وأسانيد دامغة وقاطعة في إطار مسار قضائي عادل ونزيه ومستقل".
أي عدلٍ وأية نزاهة وأي استقلال في قضية يخجل القاضي من الظهور على أطرافها لتلاوة أحكامه عليهم؟. يتزامن استشعار القاضي الخجل من إعلان الأحكام في قضية الباقر وأوكسجين وعلاء عبد الفتاح مع إعلان قاضي قضية سرقة الآثار وتهريبها التنحّي عن نظر القضية استشعارًا للحرج، وهي القضية المتهم فيها أحد رجال الأعمال الموالين للنظام، ونائب برلماني سابق، أكثر موالاة للنظام.
في الحالة الأولى، لا أظن أن قاضيًا على وجه الأرض يمكن أن يتوارى ويختفي خجلًا من إعلان أحكام عادلة، إلا إذا كان قد استقرّ في ضميره أنه ليس في الأمر ما يجعله يشعر بالرضا والفخر بتحقيقه العدالة وإعطاء كل ذي حقّ حقّه، وقبل ذلك الرضا عن سلامة إجراءات المحاكمة من ألفها إلى يائها، بحيث يكون قد اطمأن تمامًا إلى أنه منح المتهمين فرصة الدفاع عن أنفسهم، والردّ من خلال هيئة دفاعهم على ما ورد في حقهم من اتهامات.
وأغلب الظن، كذلك، أن القضاء النزيه العادل المستقل الذي يتحدّث عنه الناطق باسم الخارجية، يستطيع التنحّي عن قضية، إذا استشعر الحرج، أو أدرك أنها غير مكتملة الإجراءات والأدلة، كما في قضية الآثار، ولا يقبل على نفسِه أن تنسب إليه أحكام لم يقدر على مواجهة الحضور في قاعة المحكمة بها.
والشاهد كذلك أن ثمّة سوابق في هذا النوع من القضايا، بعد انقلاب 2013 يبدو فيها القضاء خصمًا، وليس حكمًا، بين متخاصمين، بل أن بعضهم، مثل قاضي الإعدامات ناجي شحاتة، كان يظهر على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، لكي يعلن خصومته السياسيين الذين يقفون أمامه، متهمين، في قاعة المحكمة فيما بعد.
على ضوء كل ما سبق، لا يمكن النظر إلى وجود القضاء المصري في قاع جدول التصنيف الصادر من هيئاتٍ دولية، عن حال العدالة والاستقلالية، إلا باعتباره عن جدارة واستحقاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق