هل ستعود الإمبراطوريات؟
سيلين ساري
في ليلة حالكة الظلام، يُقتاد آخر أباطرة روسيا القيصرية نيقولا الثاني وأسرته إلى قبو المنزل الذي احتجزهم فيه الجيش الأحمر البلشفي لينفذ فيهم أبشع مذبحة عائلية عرفتها روسيا، تلك المذبحة التي أسدلت الستار على حكم أسرة رومانوف التي ظلت تحكم روسيا طوال 330 سنة.
تلك المذبحة التي أصبحت كشبح يخيّم بحزنه على مدينة يكاترينبورغ الروسيّة في تموز/ يوليو من كل عام، ليشعرهم بعقدة الذنب لأن أجدادهم لم ينصروا أسرة رومانوف في تلك الليلة، ولم يخفّف عنهم إنشاء كنيسة ضخمة تحمل اسم "معبد على الدماء"، مكان إعدامهم. وعلى أنقاض ودماء آخر القياصرة أقام لينن إمبراطوريته الجديدة.
الاتحاد السوفييتي الاشتراكي
ولأن الثورات الناجحة غالباً لا لون لها إلا الأحمر، قرر لينن بعد أن أطاحت الثورة البلشفية بحكم القياصرة ليس إعدام القيصر وحده كما كان يريد البلاشفة، بل إعدام الأسرة كلها بلا رحمة، معللا ذلك بخوفه من تأييد وتعاطف الشعب مع القيصر وعائلته، وأقنع البقية بأن إعدام أسرة القيصر ليس ضروريا لإرهاب العدو فحسب، بل أيضاً لإقناع رجاله بألا عودة إلى الخلف، فإما النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة.
ومن رماد الإمبراطورية القيصرية خرجت بيضة الولادة لإمبراطورية السوفييت الاشتراكية، التي كان الهدف الوحيد المعلن لها هو أن روسيا يجب أن تتحرر، لذا صدرت قوانين للعفو الشامل من الجرائم السياسية والدينية، وحرية القول، وحرية الصحافة والاجتماع، وإلغاء كل تفرقة بسبب الدين أو القومية، تلك القوانين التي لم يكن لها وجود على الأرض، كما أعلن عن تأسيس أول دولة اشتراكية في العالم سميت جمهوريات روسيا الاتحادية.
وخلال سبعين عاماً بعد الثورة البلشفية، أصبحت روسيا واحدة من أقوى دول العالم، حيث ضمت ما يزيد على مئة أمة وقومية مما جعل منها مجتمعا فريدا ذا قدرة فكرية جبارة، وثقافة رفيعة، كما تميزت بقوة إنتاج ضخمة ومساحة أضخم مما كانت عليه القيصرية، فهذه الإمبراطورية كانت تقوم على فكرة أكثر من القوة فطارت الفكرة لتحلق عبر المحيطات والبحار، فتبنتها دول أن لم تكن تنتمي للاتحاد السوفيتي كحكم فهي تنتمي إليه كفكر يقوم عليه حكمها واقتصادها.
فامتدت تلك الإمبراطورية الجديدة من النصف الشرقي للقارة الأوروبية حتى المحيط الهادي وبحر اليابان داخل القارة الآسيوية، معلنة عن أكبر إمبراطورية متصلة المساحة.
لم يكتف السوفييت بتلك المساحة الهائلة، بل تكونت أحزاب شيوعية في الكثير من بلاد العالم تؤمن بنفس الفكر وأصبحت روسيا وطن الاشتراكية والفكر الشيوعي وقبلتهما في العالم.
تلك الهيمنة العجيبة وما صاحبها من قوة عسكرية وتفوق بصناعة الأسلحة خاصة النووية جعل من الاتحاد السوفييتي القوى العظمى الثانية في العالم، حتى أفل نجمه، لتخرج من رماده مرة أخرى تلك البيضة التي يحاول بوتين من خلالها إحياء إمبراطورية روسية جديدة هجينة تحمل جينات القيصرية، ولكن بفكر عصري.
وكانت أولى خطواته لميلاد تلك الإمبراطورية تحالفه مع الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية في مسعى منه لإحكام قبضته على السلطة، بحيث يستمد القوة الروحية التي كانت تعطيها لقياصرة روسيا قديما.
بهدوء يستعيد بوتين ما كان لإمبراطورية القياصرة والاتحاد السوفييتي من مساحة، فأعاد إلى الأذهان فكرة جامع الأراضي الروسية، وهي فكرة قديمة تبرر سياسات روسيا التوسعية. ومن هنا برزت أهمية ضم القرم ومن بعده الخارج القريب بالنسبة له، فها هي أرمينيا وأوزبكستان وطاجيكستان والشيشان تدخل حظيرة الإمبراطورية الجديدة وتحالفها الأكثر صلابة من الصين الغول الاقتصادي المهول..
دائما ما كان نشاط السياسة الخارجية الروسية ضخماً، ولكن لم يكن بهذا الحضور العلني المدعوم بتواجد عسكري خاصة بمنطقة الشرق الأوسط.
فلطالما كان هاجس قياصرة روسيا وحتى الاتحاد السوفييتي هو البعد عن المياه الدافئة، وأن تظل تلك الإمبراطورية العملاقة حبيسة بحارها المغلقة الباردة، لذا خاضت مئات الحروب لتتخلص من هذا الكابوس، فكان البحث عن موانئ المياه الدافئة، بما فيها موانئ شرق البحر المتوسط، هو السبيل لذلك، لذا ظل أولوية ثابتة لدى الحكّام الروس منذ عهد بطرس الأكبر وربما قبله. وبوتين ليس مختلفاً عن أسلافه في ذلك، ولكن تدخله في سوريا جعله ينجح حيث فشل القياصرة والاتحاد السوفييتي..
ليس هذا فحسب، بل إن العلاقة بين روسيا وإيران ربما في المستقبل القريب ستضع لروسيا قدما ثابتة في مواني تلك المنطقة الهامة التي ربما تحاوزت أحلام القياصرة.
بل وتخطى بوتين هذا الحلم بإعادة إحياء فكرة مشروع الممر الشمالي والتي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي. وتولي روسيا أهمية كبيرة لهذا الممر، ويأتي ذلك ضمن خطة استراتيجية تهدف لتطوير منطقة القطب الشمالي الغنية بالموارد الطبيعية، هذا بجانب أن الممر يختصر الوقت عند نقل البضائع بين آسيا وأوروبا مقارنة بالطرق الملاحية التقليدية عبر قناة السويس..
فهل يؤسس بوتين إمبراطورتيه الجديدة التي سيكون سلاحها الأقوى هو السيطرة على أهم الممرات المائية، وعمل تحالفات ضخمة لمحور جديد تقوده روسيا بقوتها العسكرية والصين بقوتها الاقتصادية أمام محور أمريكا والغرب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق