ابن تيمية يُهدي خمسة مواقف إلى الثابتين في وجه المستبدّين والمُبطِلين
محمد خير موسى
في العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، تُوفي شيخ الإسلام، المُجابه للطغاة والطغيان، المجاهد للمحتلّين والغزاة، الإمام ابن تيمية، يرحمه الله تعالى. وافاه الأجل بسجن القلعة في دمشق، وقد ضرب أمثلة نادرة في توافق فعله مع قوله، ثباتًا في زمن المحنة، ووضوحًا في الرؤية زمن الضبابيّة.
الموقف الأوّل: ما يصنع أعدائي بي؟
أُلقِيَ بابن تيمية داخل سجن القلعة في دمشق، وظلَّ فيه عامًا وبضعة أشهر، وقد عُرِضَ عليه إخراجه مِن السجن مقابل تخلّيه عن بعض فتاواه، فأبى، وكان يقول:
“ما يصنع بي أعدائي؟ إنّ جنّتي وبستاني في صدري، أين رُحت: فجنّتي معي ولا تُفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وإخراجي مِن بلدي سياحة، وقتلي شهادة”.
إبطال إرهاب العدوّ بقلب تهديداته إلى فرص ومِحَنِه إلى مِنَح هو فنٌّ لا تطيقه إلّا النفوس الكبيرة والإرادات العظيمة.
فالعدوّ لا يملك إلّا تهديد مخالفيه بأحد ثلاثة أمور، القتل والسجن والنفي، فعندما يتعامل المرء مع هذه الخيارات على أنها فرص لإدراك نعيمٍ لا يفقهه الطغاة والغزاة، فعندها تغدو التهديدات هشيمًا تذروه رياح العزائم الصادقة.
الموقف الثاني: الثغور خير من المجاورة في المساجد الثلاثة
يقول ابن تيمية: “المقام في ثغورِ المسلمين كالثغور الشاميّة والمصريّة أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعًا بين أهل العلم، وقد نصّ على ذلك غيرُ واحدٍ من الأئمّة”.
فكيف إن كان الثغر هو أحد المساجد الثلاثة فيكون الرباط فيه أعظم بكثير. وعلى هذا، فإنّ الرباط في المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه والمرابطة في الثغور الذي تذود عنه أعظم بكثير من المجاورة والاعتكاف والعبادة في المسجد الحرام والمسجد النبويّ.
وكذلك فإنّ الرباط في وجه الباطل المستشري على الأرض الشاميّة والأرض المصريّة أعظم من المجاورة في المساجد الثلاثة، فدفع الباطل وهدم أركانه من أعظم القربات إلى الله تعالى.
الموقف الثالث: تحرير مفهوم الفتنة
يقول ابن تيمية: “الله يقول {وقاتِلوهُم حتّى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ كلُّهُ لله}، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلّا تكون فتنة، فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرضِ فؤاده، وتركِه ما أمر الله به من الجهاد”.
فالجهاد -جهاد المحتلّين والغزاة وجهاد المستبدّين وجهاد الطغاة المجرمين- ليس فتنة، وليس هو السبب في إراقة الدماء، وليس هو السبب في الفوضى، وليس هو السبب في تدمير البيوت والممتلكات، ولا السبب في تهجير الناس وحصارهم والتضييق عليهم، بل السبب في ذلك هو فعل الاحتلال وفعل الطغيان والاستبداد. وكم يحاول الغزاة وعملاؤهم والطغاة وأعوانهم قلب المفاهيم وتحميل الضحية جرم الجلّاد وإيهام الناس بأنّه المتسبّب في بلائهم، فلا بدّ من تحريرِ حقيقة الفتنة على الدوام عند كلّ مواجهة، وبين يدَي كلّ مجابهةٍ يستنفد فيها الباطل وسعه للتلبيس على أهل الحقّ وتشويش الصورة عليهم.
الموقف الرابع: اقتلوني ولو كان القرآن على رأسي
في وقعة شقحب -وهي بلدة على تخوم دمشق- أو ما تُعرف أيضًا بمعركة مرج الصُّفَّر التي وقعت في 2 رمضان سنة 702هـ، الموافق 20 أبريل/نيسان سنة 1303م، بين المسلمين والمغول، وكانت من أشدّ المعارك وأعتاها، التبس الأمر على المسلمين في القتال، حيث إنّ التتار كانوا يُظهرون الإسلام ويرفعون راياتٍ عليها شعارات إسلاميّة.
عندها وقف ابن تيمية في جيش المسلمين من أهل الشام خطيبًا، وكان ممّا قاله، كما ينقل ابن كثيرٍ في تاريخه “وكانَ يقولُ للناسِ: إذا رأيتموني مِن ذلك الجانبِ ـأي جانب التتارـ وَعلى رأسي مصحفٌ فاقتلوني، فَتشجّعَ الناسُ في قتالِ التتارِ، وقَوِيَتْ قلوبُهم ونيّاتُهم، ولِلَّهِ الحمد”.
هكذا بكلّ وضوح، مَن وقف في صفّ الغزاة والطغاة وأعلن تأييدهم ودافع عنهم وعن باطلهم فهو خائنٌ مجرم، ولو نطق بآيات الله تعالى ولبس العمامة والجبّة وخاطب الناس بقال الله وقال رسول الله ﷺ.
الموقف الخامس: ابن تيمية والتثبيط الإعلاميّ والذباب الإلكتروني
يقول ابن تيمية: “السلقُ بالألسنةِ الحادّة يكون بوجوه:
تارةً يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فإنّكم أنتم الذين دعوتُم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم. فإنّ هذه مقالةُ المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارةً يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلّا فلو كنّا سافرنا قبلَ هذا لَما أصابَنا هذا.
وتارةً يقولون: أنتم -مع قلّتكم وضعفكم- تريدون أن تكسِروا، وقد غرّكم دينُكم، كما يقول الله تعالى {إذ يقولُ المنافقونَ والذينَ في قلوبهم مرضٌ غرَّ هؤلاءِ دينُهم، ومَن يتوكّلْ على اللهِ فإنَّ اللهَ عزيزٌ حكيم”}.
وتارةً يقولون: أنتم مجانين، لا عقلَ لكم، تريدون أن تُهلكوا أنفسَكم والناسَ معكم.
وتارةً يقولون أنواعًا من الكلام المؤذي الشديد. وهم مع ذلك أشحّة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم”.
هكذا، هو إعلام الباطل وذبابه الإلكترونيّ، يجتهد في تحميل اهل الحقّ مسؤوليّة ما يفعله الغزاة والطغاة تارةً، ويجتهد في تشويه صورة أهل الحق لاغتيالهم معنويًّا في نفوس الناس تارةً أخرى، ويسلّط سهامه الحاقدة على القضايا العادلة بغية نزعها من نفوس أهلها وأبنائها تارةً ثالثة.
هذا ابن تيمية، وهو يتحدّث عن واقع اليوم، كأنّه يعاين ما نحن فيه تشخيصًا وعلاجًا، ويُهدي إلى الثابتين في وجه الباطل المُستعلي هذه المواقف، ليزدادوا ثباتًا.
هذا هو ابن تيمية، الذي قال ابن الورديّ في رثائه -يوم قضى نحبه مسجونًا مظلومًا- قصيدة طويلة، منها:
عثا في عِرضِهِ قومٌ سلاطُ
لهمْ مِنْ نثرِ جوهرِهِ التقاطُ
تُوفِّيَ وهْوَ محبوسٌ فريدٌ
وليسَ لهُ إلى الدنيا انبساطُ
قضى نحبًا وليسَ لهُ قرينٌ
ولا لنظيرِهِ لُفَّ القماطُ
فيا للهِ ماذا ضمَّ لحدٌ
ويا للهِ ما غطّى البساطُ
وحبسُ الدرِِّ في الأصدافِ فخرٌ
وعندَ الشيخِ بالسجنِ اغتباطُ
سيظهرُ قصدُكم يا حابسيهِ
ونيتُكُمْ إذا نُصِبَ الصراطُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق