حازم صاغية في ضيافة الجزيرة.. فلسطين وحماس وحزب الله!
ساري عرابي
في لقائه مع برنامج "المقابلة"، الذي يقدّمه علي الظفيري على قناة الجزيرة، سوف تجد مساحات للاتفاق والاختلاف مع الكاتب الصحفي حازم صاغية، كما أنك قد تكون مواظبا على قراءة مقالاته، محترما تجربته ومعرفته، حتّى لو كنت مصطفّا في مكان آخر سياسيّا وفكريّا. وبالرغم من أنّني لم أكن قد جئتُ إلى حيّز الوجود في سبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي كان لحازم صاغيّة فيها آراء مناقضة لبعض ما يذهب إليه الآن، فقد قرأت شيئا من كتاباته في تلك المرحلة لدواع بحثيّة، لاشتغالي في حقل الدراسات الفلسطينية، وهو أمر كفيل أن يمنح الدهشة حضورا وافرا، حين الاستماع لبعض آرائه إزاء المأزق الفلسطيني الراهن، لأنّها لا تستند إلى معطيات صلبة مستفادة من تلك التجربة الطويلة، بما يصحبها من معرفة غزيرة.
ساوى صاغية بين حماس وحزب الله، بعدّه لهما حزبين طائفيين دينيين قمعيين قَصْريين، فلما استدرك عليه المذيع، تحديدا في نفي الطائفية عن حماس، لانعدام أسباب وجودها فيها (ليست طائفة مقابل طائفة)، وكونها في جانب من حضورها الراهن تستند إلى أغلبية سياسية مكتسبة، استدرك صاغية بدوره على المذيع بكون هذه أغلبيّة غير أبديّة، ولكن حماس جعلتها أبديّة، وأنّها فَصَلت غزّة عن الضفة. وهنا يبدأ صاغيّة الحكاية من زمن - بوعي أو بدونه - يبدو مُفَضَّلاً له، بمعنى أنه يَفْصِل المشكلة الفلسطينية الداخلية عن سياقها التاريخي، وهو ما يعني أن الدوافع الأيديولوجية والسياسية تطغى على الحقيقة باختزال المشكلة الفلسطينية الداخلية في حماس، في ما انتقد به حماس تحديدا، أي تأبيد الأغلبية المؤقّتة وفَصْل غزّة عن الضفّة.
يمكن أن نجلّي زمنين في القصة أغفلهما صاغية، الأوّل بداية القصّة، وهو فوز حماس في انتخابات تشريعية، منحتها أغلبية، بالتأكيد هي أغلبية مؤقّتة يُفترض أن يُعاد اختبارها. وهنا تنبغي تجلية زمن آخر في القصّة، وهو أنّ حركة حماس وافقت أخيرا على انتخابات بشروط خصمها السياسي بالكامل، دون أن يكون لها أيّ شرط ، غير أنّ خصمها هذا هو الذي ألغى إجراء الانتخابات. ويمكن، والحالة هذه، التذكير بأزمنة أخرى في مسار هذه القصّة الطويل والكئيب، منها أنّ الاتفاق على إجراء الانتخابات ظلّ بندا ثابتا في كلّ اتفاقات المصالحة بين حماس وفتح، إلا أنّ الذي بيده الدعوة لإجرائها لم يفعل.
حركة حماس وافقت أخيرا على انتخابات بشروط خصمها السياسي بالكامل، دون أن يكون لها أيّ شرط ، غير أنّ خصمها هذا هو الذي ألغى إجراء الانتخابات. ويمكن، والحالة هذه، التذكير بأزمنة أخرى في مسار هذه القصّة الطويل والكئيب، منها أنّ الاتفاق على إجراء الانتخابات ظلّ بندا ثابتا في كلّ اتفاقات المصالحة بين حماس وفتح، إلا أنّ الذي بيده الدعوة لإجرائها لم يفعل
ما تعنيه القصة من مبتدئها إلى منتهاها، أنّ الذي أبّد أغلبية حماس، وحال دون اختبارها مجدّدا، هو خصمها السياسي الذي ألغى إجراء آخر انتخابات اتُّفق عليها. وفي طيّات هذه القصة، سوى ذلك من مفارقة، أنّ خصم حماس السياسي أبّد لنفسه أغلبيّته الرئاسية، منذ العام 2005 وحتّى الآن، فامتدّت الدورة الرئاسية الواحدة إلى أربع دورات، وهو أمر بالضرورة يستدعي تحميل الطرف الفلسطيني الآخر ما يجب عليه من المسؤولية، بما في ذلك فصل غزّة عن الضفّة؛ الذي في جانب منه ناشئ عن رفض الاعتراف العملي بتلك الانتخابات. إلا إذا كان، في هذه الحالة، تحديد الصواب والخطأ، ومن ثمّ تحميل المسؤوليات بدرجة ما، مرهونا بمفردتين لصاغية موقف نقدي ممن ينتسب إليهما أو يعيد توظيفهما، أي الدين والمقاومة، وعلى نحو قد يتحوّل إلى دوغما.
ليست القضية الدفاع عن حماس، أو مصادرة الحقّ في نقدها أو نقد المقاومة، فالأهمّ من ذلك هو معالجة صاغية للقضية الفلسطينية، حينما حمّل "إسرائيل" والعرب القدر نفسه من المسؤولية بوصولنا إلى "هذا المحل السيئ والمسموم"، بقوله: "إسرائيل ساهمت بجزء أساسيّ منه، ونحن ساهمنا بجزء أساسيّ"، مع أنّه، وبالتنزّل الجدليّ لهذه المقولة، فلا يمكن أن يكون أيّ خطأ عربيّ في معالجة القضية الفلسطينية؛ إلا انعكاسا للمشكلة الأصلية التي لم يتسبّب بها أحدٌ إلا "إسرائيل" ومؤسّسوها، وبهذا فيكون التعبير بـ"الجزء الأساسي" مغالطة فاحشة من حيث تعبيرها عن الواقع التاريخي، ومن حيث مضمونها الأخلاقي، إذ جعلت المتسبب الأساس بالمشكلة كمن يحاول حلّها فيخطئ!
ليست القضية الدفاع عن حماس، أو مصادرة الحقّ في نقدها أو نقد المقاومة، فالأهمّ من ذلك هو معالجة صاغية للقضية الفلسطينية، حينما حمّل "إسرائيل" والعرب القدر نفسه من المسؤولية بوصولنا إلى "هذا المحل السيئ والمسموم"
يحيل ذلك إلى الحلّ المقترح عند صاغية، وهو بجعل الدولة في الضفّة والقطاع هدفا تُحشد له الجهود وبما يستفيد من أيّ تحوّلات محتملة في العالم. وهو إذ يقدّم هذا المقترح، وللأمانة غير السحري بحسب ما قال، للتعقيد الذي وصلت له القضية، فإنّه يتحدث وكأنّ أحدا اليوم من الفلسطينيين يقول شيئا آخر!
قد يُغفِل المرء في غمرة تصفية الحساب مع أفكار قديمة له بعض الحقائق، من قبيل أنه ومنذ العام 1991 ومنظمة التحرير منخرطة في مفاوضات على أساس حلّ الدولتين، وبدفع إقليميّ ودوليّ ضخم، أثمر سلطة فلسطينية على أراضي الضفّة وغزّة. هذه السلطة تَعجز أن تتحوّل إلى دولة، لا بسبب طوباوية أهداف الفلسطينيين، ولكن لأنّ صاحب المشكلة الأساس، أي "إسرائيل"، لا يقبل من الفلسطينيين إلا المزيد من التنازلات، بما حوّل هذا الحلّ "الواقعي" إلى حلّ مستحيل، يدرك استحالته كلّ من يُلاحِظ الوقائع الاستعمارية التي كرّستها "إسرائيل" في الضفّة الغربية، وتُصرّ على جعلها مرجعية لأيّ مفاوضات (لا يوجد أدنى احتمال باستئنافها، على الأقل لهشاشة الحكومة الإسرائيلية الحاليّة، وهي متوقفة فعليّا من العام 2010).
ولستُ أدري إذا كان صاغية يعلم أنّ المفاوض الفلسطيني قد قَبِل بنسبية مرجعية الوقائع الاستعمارية المكرّسة من الاحتلال، فَقَبِل بتبادل الأراضي، وبقاء الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفّة!
وما ينبغي أن يكون من نافلة القول، إنّ حماس لم تكن المعطِّل لذاك "الهدف الواقعيّ"، فهي فعليّا انضمّت لمؤسساته بدخولها السلطة ابنتَه، ونظريّا قبلت بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، لا في سلسلة الوثائق اللا متناهية مع حركة فتح فحسب، بل ضمّنتها وثيقتها السياسية، ليتحوّل ذلك إلى مبدأ سياسيّ في فكرها وحركتها. ولستُ أقول إنّ حماس أحسنت بذلك، ولكنّه تذكير، على سبيل ملاحقة صاحب الدعوى إلى الباب، والتنزّل الجدليّ مع دعواه، وإلا فإنّني لا أرى في هذه التحوّلات إلا زيادة واقعنا بؤسا وسمّا!
حماس لم تكن المعطِّل لذاك "الهدف الواقعيّ"، فهي فعليّا انضمّت لمؤسساته بدخولها السلطة ابنتَه، ونظريّا قبلت بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، لا في سلسلة الوثائق اللا متناهية مع حركة فتح فحسب، بل ضمّنتها وثيقتها السياسية، ليتحوّل ذلك إلى مبدأ سياسيّ في فكرها وحركتها
يقول صاغية: "إنّ السلام إذا كان قد وصل بنا إلى هذا الحال، فإنّ الحروب لم تصل بنا إلى حال أحسن". هذا الجدل لا ينتهي، لكن يمكن القول إنّنا لسنا مضطرين أن نكون بين حرب مدمّرة، وسلام يُكرّس وقائع العدوّ بما يشطب وجودنا المستقبلي. وإذا كان صاغية يفاضل بين سعادة الفلسطيني وقداسة القضيّة، فإنّه، وعلى فرض التنافر في هذه المفاضلة، فإنّ مشهد اغتيال الشباب الأعزل المشلول بإصابته وهو مطروح أرضا برصاص الجنود المدجّجين في القدس قبل يومين، وتأييد حكومة هؤلاء الجنود لهم في جريمتهم، كافٍ، كما يُفترض، لإقناع صاغية بأنّ سعادة الفلسطيني، وتخليص العربي من "دول العصابات" - كما سمّاها - مرهون، بقدر ما، بالتخلّص من هذا العدوّ.
أخيرا، يخشى صاغية أن تصير المجتمعات العربية محافظة ترجو مجرد الاستقرار، بعد مآلات محاولات التغيير التي عانتها أخيرا، واصفا هذه النزعة المحافظة بأنّها بشعة، وتحكم على العرب لسنوات مديدة بمزيد من الركود والاستسلام. ونحن نرجو بدورنا أن يخشى علينا صاغية، لو هيمنت علينا آراؤه هذه، من النزعة المحافظة والركود والاستسلام، وأن نطلب سعادتنا ولو بالاستقرار في ظلّ الاحتلال!
twitter.com/sariorabi
المقابلة- مع الصحفي والكاتب اللبناني حازم صاغية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق