"ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلاَّ أحد حلَّين : الأول : تقتيلهم والقضاء عليهم . والثاني : تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنيَّة العلمانيَّة"[1]. كان هذا مقطعاً من كلام للرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في مذكِّراته ، وبالمقارنة نجد أنَّ "نيكسون" تحدَّث بالمنطق نفسه الذي بيَّنه الله ـ تعالى ـ للمسلمين، وكشف به خطط أعدائهم كما في قوله ـ تعالى ـ:( إنَّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملَّتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً) سورة الكهف. فالمنطق نفسه يتكرر على ألسنة زعماء الغرب وأعداء الإسلام الذين لن يتغيَّروا عنه في خططهم وتعاملهم تجاه المسلمين ، والهدف الرئيس وراء ذلك إطفاء نور الإسلام،كما قال ـ سبحانه ـ :(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره)، ولخطورة الموضوع وضرورة اطِّلاع الجميع عليه ناسب بيانه والأخطار المترتِّبة عليه لذلك ، سأكتب في هذه السلسلة عن هذا المخطَّط الشِّرِّير الغربي تجاه العالم الإسلامي ؛ فقد وجدت أنَّ ما ذكره الله ـ تعالى ـ في قوله :( إنَّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملَّتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً) وجدت ذلك يتحقق في زمننا بالشكل نفسه؛ فالاستراتيجيَّة المتبنَّاة من قِبَلِ أعداء المسلمين تجاههم تكمن في إحدى القوَّتين التي يحلو لبعضهم أن يسمِّيها بالقوَّة الصلبة [التقتيل] ، أو القوَّة الليِّنة [التذويب]! فأمَّا التقتيل فهو أمر لا ينكره ذو لُبٍّ سليم، وما فعله أعداء المسلمين خير شاهد على ذلك ، وصدق الله إذ يقول :(لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة وأولئك هم المعتدون) ويقول ـ جلَّ وعلا ـ أيضاً:(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمَّة). كما أني لن أطيل في سرد خطط الكفَّار ووقائعهم في سحق المسلمين وإبادتهم ، فلن تنصبَّ مقالات هذه السلسلة على الحديث عن جرائم الأمريكان تجاه الدول الإسلاميَّة التي لا زالت عالقة ولن تُنسى في أذهان البشريَّة جمعاء ، بل هي جارية على قدم وساق! كنت كتبت مقالاً مطوَّلاً حول الانهيار الحضاري لأمريكا ، ونُشِرَ في العديد من المواقع الإلكترونيَّة ولله الحمد [2] ، وقناعتي لا زالت ثابتة أنَّ هذه الدول مصيرها إلى اضمحلال وانهزام كبير ولكن بعد حين وهذا الحين ليس بطويل ! نعم ! لا تزال كثير من الدول الغربيَّة وأمريكا ـ على وجه الخصوص ـ متمسِّكة بنظريَّة "مورغينثاو" و"هينيري كسينجر" والتي تقول: إنَّ المصالح لا تتحقَّق بمعزل عن القوَّة ، كما أنَّ "توماس ب . م . بارينت" ـ المحلِّل العسكري الأمريكي واسع الاطِّلاع بشؤون مؤسسة الدفاع الأمريكيَّة ـ يقول :( إنَّ الدور الأمريكي الجديد ليس نشر المبادئ الديموقراطيَّة وقيمة حقوق الإنسان فقط ، بل الأهم هو نشر العولمة الرأسماليَّة وفرضها بقوَّة السلاح في مختلف أرجاء العالم ، إذا اقتضى الأمر ذلك)[3]. ومن يطالع كتابه (خريطة البنتاغون الجديدة ـ الحرب والسلام في القرن الواحد والعشرين ) سيجد أنَّ (توماس) يؤكِّد أنَّه إذا ما فشلت دولة في الانضمام إلى العولمة أو رفضت الكثير من تدفُّقاتها الثقافيَّة ؛ فإنَّها ستجد في النهاية القوَّات الأمريكيَّة على أراضيها، تكريساً لحكم القطب الواحد المسيطر على الجميع ؛ حيث يقول :( ونحن ـ أي : الأمريكان ـ مخوَّلون تاريخيَّاً لهزيمة كل التهديدات التي تقف في طريق سعينا لتحقيق الترابط العالمي ؛ لأنَّنا نعرف جميعاً الثمن الذي قد ندفعه ـ دولةً وعالماً ـ إذا ما سمحنا لأيديولوجيَّات عدم الارتباط بأن تسود. وأمريكا لا تطلب الكثير بل مجرَّد التزام دول العالم ببروتوكولات العولمة،وليس أكثر من ذلك!!) . والدلالة المثيرة في هذا الكلام تقضي بأنَّ الأمريكان يحاولون الهيمنة والسيطرة الكاملة على أي مخالف لهم ، وغرس روح التبعيَّة والذيليَّة لهم ، ولكنَّهم إذا لم يجدوا أنَّ الشعوب استساغت تلك الرؤى، فالويل والثبور لهم من عمليات سحق ومحق تطال كلّ من يعارضهم ! * سأحاول في هذه السلسلة تفكيك رموز أرى أنَّها أشدُّ فتكاً ، وأخفى خطراً على المسلمين من سياسة القتل والإبادة والتدمير؛ ألا وهي سياسة التخريب والتذويب من أعداء الإسلام لعقول المسلمين ، ومحاولة طمس لوامع وسمات التديُّن عند المسلمين ، وفكِّ عرى العقيدة الإسلاميَّة التي أُمِرَ المسلمون أن يستمسكوا بها ويعضُّوا عليها بالنواجذ. وخطر التذويب خفي لا يدركه إلاَّ القليل ، ذلك أنَّ أعداء الإسلام يحاولون غرس أفكارهم في بيئة لها القابليَّة لارتشاف واستقطاب الوافدات المتغايرة الغربيَّة ، والانمحاق المتتابع في المشروع الأمريكي والغربي . وعودة لكلام "ريتشارد نيكسون" المذكور في استهلال هذا الموضوع فإنَّه يرجِّح أن يقدِّم الأمريكان استراتيجيَّة الترويض والتخريب لدين المسلمين ، وتذويبهم في المجتمعات الغربيَّة؛ ونشر الشبهات، والتشكيكات بينهم ، وجعل هذا الخيار هو الأمر الذي له الأولويَّة على الخيار الآخر. ومن سياسة أعداء الإسلام في ذلك أنَّهم يمضون في بذر تلك الأفكار في البلدان الإسلامية بسياسة الهُوَيْنَى ، والمشي البطيء ، على منطق القاعدة اليابانيَّة:( نريد بطئاً ولكن أكيد المفعول) ولا يعنيهم أن يخرِّبوا العقول الإسلاميَّة خلال عام أو عامين ، بل لو كان ذلك خلال ثلاثين عاماً أو أكثر ؛ فلا بأس بذلك ما دامت طرقهم ووسائلهم ماضية ولا تعترضها العراقيل أو يناكفها المعارضون لها! لقد استوقفتني كلمة قالها أحد الأمريكان لمهاجر من المسلمين ، حين أخبره المسلم بأنَّه هاجر وعمل في أمريكا وبقي متمسِّكاً بدينه ؛ فقال له الأمريكي:( نحن لا يهمُّنا أن تَتَأَمْرَكَ أنت ، بل استقدمناك من أجل أنَّنا نريد أولادك!!)[4]. ومن هذا المنطلق فقد صدر العديد من الدراسات الأمريكيَّة التي تحاول تسليط الضوء على أهميَّة غزو الأفكار والعقول لمسلمي البلاد الإسلاميَّة ؛ لفرض الهيمنة والأيديولوجيَّة الغربيَّة على الساحة الإسلاميَّة . فهم يركِّزون في طروحاتهم الفكرية والاستراتيجيَّة ، فضلاً عن المستقبليَّة ، على الحديث عن هذا الجيل المسلم وهذه الأمَّة الولود، التي وقفت عقبة كؤوداً أمام مخطَّطاتهم؛ لأنَّهم يشعرون بأنهم في طريق الأفول والانهيار الحضاري ، ومن قرأ دراسة ( ما هي القوة ؟) لـ(نيل فيرجسون)[5] أيقن بما ذكرته عنهم ؛ حيث إنَّ هذا الرجل يقول بنصِّ الكلمة:(وإذا كنَّا نشهد ـ كما يجادل هنتنجتون ـ "صدام الحضارات"، فلا بدَّ أن يكون مما يستحق الاهتمام أنَّ حضارتهم ـ يقصد الحضارة الإسلاميَّة ـ تشهد نمواً بالمعنى الحرفي، أكثر من حضارتنا . وهي بالإضافة إلى ذلك حضارة أكثر شباباً بكثير ممَّا عليه حال الحضارة الغربية الهرمة)[6]. إنَّ من الأهميَّة بمكان أن نعلم بأنَّ أعداء المسلمين ـ زعماء وقادة وخبراء فكر وتخطيط ـ لديهم رؤية واضحة ، واستراتيجيَّة ثابتة تجاه الإسلام ، ونصوص القرآن خير شاهد على ما ندَّعيه فإنَّه ـ سبحانه ـ يقول :(إنَّهم يكيدون كيداً) ويقول أيضاً :( ويمكرون ويمكر الله) ، إلى غير ذلك من الآيات الموضِّحة لخطر أعداء الإسلام ضدَّ المجتمعات الإسلاميَّة. نعم ! لا نقول بأنَّ الخلل كلَّه في الكفَّار فحسب ، بل فينا ما فينا من التقصير والخلل الكبير ومن ذلك ضعف العقيدة ، وقصور الهمَّة ، ودونيَّة الإرادة لتغيير ما في النفوس والواقع المزري من أوهاق ومظاهر الضعف ، وضعف التدين ، وانفكاك الوحدة ، إلى غير ذلك من التقصير الكبير . بيدَ أنِّي موقن تماماً بأنَّ أعداء المسلمين لديهم من المكر والكيد الشيء الكثير ، أضف إلى ذلك ضغوطهم السياسية والاقتصاديَّة التي يمارسونها على من كانت له نيَّة في إصلاح المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة؛ كيف وقد أخبرنا الله ـ تعالى ـ بقوله:(ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزَّل عليكم من خير من ربِّكم) وقوله :(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم) وقوله :(ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقوله :(ودَّ الذين كفروا لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفَّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحق) وقوله :(ولا يزالون يقاتلونكم حتَّى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا ). أهميَّة معرفة الاستراتيجية الغربيَّة ضدَّ المجتمعات الإسلاميَّة : يقول (صن تسو):" إن من يعرف العدو ويعرف نفسه سوف تمتد حياته ليخوض مائة اشتباك ، وإن من لا يعرف العدو ولكنه يعرف نفسه قد ينتصر أحياناً وينهزم أحياناً أخرى . أمَّا من لا يعرف نفسه ولا عدوَّه فإنَّه سيُمنى بالهزيمة دائماً في كل اشتباك)[7] ولا ريب أنَّ من صفات المسلم الواعي؛ أنَّه يعيش عصره ، ويعرف مكايد أعدائه ، وسبل المجرمين للإطاحة بهذا الدين، من منطلق قوله ـ تعالى ـ :(وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) وقوله :(ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بينة).وفي عصرنا الراهن يسعى أعداء العقيدة الإسلاميَّة ، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكيَّة، إلى فرض أجندتهم وبرامجهم على الدول الإسلاميَّة على وجه الخصوص ؛ لأنَّهم يخشون من تململ قوَّة إسلامية تأتيهم على حين غرَّة ؛ فلا يستطيعون لردِّها قوَّة أو سبيلاً ، وقد يدَّعون دعوات كاذبة في احتلالهم لبلاد المسلمين ، بيدَ أنَّ المقصد الأساس في ذلك أنَّ هذه الحرب التي يشعلونها صليبيَّة المقصد ، براغماتيَّة الهوى ! وأمَّا من ظنَّ أنَّ أعداء الإسلام لا يخطِّطون ، أو أنَّه ليس لديهم استراتيجيات واضحة تجاهنا، وخطط خفيَّة أو معلنة ضدَّنا، فإنَّ من المؤكَّد أنَّ ظنه هذا يدحضه الواقع المشاهد ، الذي يكشف من خلاله بين الحين والآخر عن دراسات وخطط يعدها أهل الغرب تجاه العالم الإسلامي، وقد أسَّسوا الكثير من المراكز القائمة على الأبحاث والدراسات والتقارير الدوريَّة الاستراتيجيَّة وكذا المستقبليَّة ، بل إنَّ هذه المراكز هي النواة والقاعدة الصلبة والمحرك الأساس التي تنطلق من خلالها قرارات الولايات المتحدة الأمريكيَّة وكذا الدول الغربيَّة، باعترافهم هم . يتبع بإذن الله
ملاحظة: نُشِرَ هذا المقال في موقع الألوكة، على هذا الرابط: http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=35&ArticleID=619 --------------------------------------- [1] مذكرات ريتشارد نيكسون. [2] هذا المقال بعنوان :(أمريكا والانهيار الحضاري ... حقيقة أم وهم ؟!)نشر في عدَّة مواقع، منها : مجلَّة العصر الإلكترونيَّة ، ومفكرة الإسلام ، وهذا رابط له : http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news.asp?IDnews=416 [3] انظره في كتابه : (خريطة البنتاغون الجديدة ـ الحرب والسلام في القرن الواحد والعشرين ) وقد نشر الكتاب مترجماً إلى اللغة العربيَّة في جريدة البيان الإماراتيَّة ، وفي شبكة الأحرار الفكريَّة على الإنترنت. [4] ملامح المستقبل للدكتور محمد بن حامد الأحمري ، صـ191. [5] الدراسة منشورة في فصلية (هوفر دايجست) التي تصدر عن جامعة ستانفورد في عددها الثاني(2003م) ، وصاحب هذه الدراسة أستاذ في التاريخ الاقتصادي والسياسي في جامعة نيويورك ، والفائز بجائزة دولية في الدراسات التاريخية على كتابه عن الحرب العالمية الأولى. [6] صدرت دراسة أخرى لبوكنان وقد كان مرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكيَّة في انتخابات الرئاسة 1992 و1996م ، حيث ينطلق هذا الرجل من قناعة راسخة لديه بأنَّ الغرب عموماًوأمريكا على وجه الخصوص يتَّجهان نحو الموت والفناء والذوبان ! [7] الإمبراطوريَّة بعد احتلال العراق ـ دراسات وأبحاث مترجمة بالعربيَّة ـ ترجمة : تركي الزميلي
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق