السبت، 17 سبتمبر 2022

قراءة في كتاب الحياة السائلة

قراءة في كتاب الحياة السائلة


اسم الكتاب:الحداثة السائلة
اسم المؤلف:زيجمونت باومان 
ترجمة: حجاج أبو جبر
تقديم :هبة رؤوف عزت

إن كتاب الحياة السائلة هو نص شارح، يقوم بتنزيل الإطار الكلي للحداثة السائلة على ما نعيشه في زمن السيولة في دائرة اليومي والشخصي. يفصّل زيجمونت باومان، في هذا الكتاب، تجلّيات الحداثة في أحوالنا اليومية، في خياراتنا الحياتية… وفي مشاعرنا… ورؤيتنا لما يمر بنا من أزمات. هذا الكتاب هو كتاب عن العيش في عالم حديث سائل، إنه كتاب عن حصار الفرد من قبل كل الأحوال التي تمنيه بالحرية.. حيث تهبط المعاني في ظل الحياة السائلة من سموّها لتسكن دائرة السوق وتغدو سلعاً.

تفكك الروابط الاجتماعية، طغيان النزعة الفردانية، ضعف الانتماء الديني والوطني، تحول الإنسان من العيش في سبيل مبدأ أو فكرة؛ إلى كائنٍ يمضي حياته لاهثًا خلف تلبية رغباته الاستهلاكية التي لا تنتهي، ذوبان السرديات العامة وانعدام المرجعية، سهولة الانسلاخ من الهوية، غياب كامل للثبات وسيولة تامة تحكم الحياة، قابلية كل شيء للاستهلاك، خوف دائم من المستقبل المجهول، وفقدان الجدوى من تجارب الماضي .. ما الذي يحدث؟ هل هي لعنة أصابت الإنسان؟ هذا ما جنته الحداثة وما بعد الحداثة على العالم، إذ صيّرت الناس إلى حالة وصفها زيجمونت باومان بالسيولة، ويشرح تجلياتها على الحياة اليومية للإنسان من خلال كتابه الحياة السائلة، الذي سنحاول استعراضه في هذا المقال لفهم نظرية باومان.

عن سلسلة السيولة، وموقع كتاب “الحداثة السائلة” منها
من هو زيجمونت باومان؟
عرض الكتاب:
ماذا يعني أن تكون الحياة سائلة؟
هوية.. حتى إشعار آخر!
بين الشهيد والبطل والشهير
الثقافة تحت إدارة السوق
عصر الخوف الدائم
الاستهلاكية.. من تلبية الرغبات إلى “خلق” الرغبات
الطريق إلى خارج الأزمة
عن سلسلة السيولة، وموقع كتاب “الحداثة السائلة” منها
كتاب الحياة السائلة جزءٌ من سلسلة معروفة بسلسلة السيولة، ألفها زيجمونت باومان وشرح فيها نظريته. وهي بالتحديد ثمانية كتب: الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الحب السائل، الأخلاق السائلة، الأزمنة السائلة، الخوف السائل، المراقبة السائلة والشر السائل. وخلاصة نظريته فيها أنه يفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة، على مستوى التراتب الزمني وعلى مستوى الأسس الفكرية.

فالحداثة تُوصف عند باومان بأنها مرحلة صلبة، على الرغم من الثورة التي حدثت على المرجعيات الدينية والأخلاقية، إلا أن الإنسان استمر في الارتكاز على أسس ثابتة تتمثل في سيادة العقل والمبادئ الناتجة عنه؛ بينما مرحلة ما بعد الحداثة، كانت ثورة أيضًا، لكنها ثورة على الثبات ورسوخ، فلا سلطة لأي شيء على الإنسان وإن كانت آتية من العقل نفسه، فلا حقيقة ولا مرجعية.

هذه خلاصة النظرية إذن، لدينا حداثة وما بعد حداثة، صلابةٌ وسيولة. ولا يعنينا كيف تم التحول بين الحالتين؛ لأن التحولات الفكرية الكبرى على مر التاريخ غالبًا ما تتم على فترات متفرقة وبطريقة متدرجة. إنما الذي يعنينا هو وصف الحالة النهائية التي نعيش فيها الآن: السيولة.

يقع كتابنا في الرتبة الثانية من ترتيب السلسلة، فالكتاب الأول “الحداثة السائلة” يصف الإطار العام لنظام السيولة، بينما تأتي الكتب التي بعده لتصف حالة كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية (الحياة اليومية، الثقافة، الحب، الخوف…) في ظل هذا النظام. وبهذا فإن الفكرة العامة لكتاب الحياة السائلة يمكن اختصارها في سؤال: ما هو أثر الحداثة السائلة على حياة الإنسان؟ 

من هو زيجمونت باومان؟
زيجمونت باومان (1925 – 2017) هو عالم اجتماع بولندي، عرفت عنه تحليلاته التي تربط بين الحداثة والهولوكوست؛ حيث يرى أن العلاقة بينهما هي كالعلاقة بين السبب والنتيجة، وقد تم طرده جراء ذلك من بلده بولندا بتهمة معاداة السامية، ليستقر في بريطانيا منذ سنة 1971. عرف بكتاباته النقدية للحداثة وتجلياتها على الواقع، كالفردانية والاستهلاكية. 

عرض الكتاب:
ماذا يعني أن تكون الحياة سائلة؟
“في ذلك النظام الجديد، المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وباختصار شديد: اللايقين هو اليقين الوحيد”.1 هكذا يصف زيجمونت باومان نظام ما بعد الحداثة السائل، حيث لا معايير ولا مرجعيات ولا ثبات.

زاد هذا النظام من تسارع حياة الناس بشكل مهول، بصورة لا تتلاءم والتكوين النفسي للإنسان. حيث أصبحت كل جوانب الحياة عبارة عن مساحة خاضعة لقيم السوق، يمكن استهلاكها أو بيعها وشراؤها أو تغييرها بسهولة بالغة؛ سواء كانت أشياء مادية أو قيمًا دينية أو أفكارًا أو علاقات. فصار التخلص من الشيء مقدمًا على الاحتفاظ به: “تعلم أسبقية التخلص من الأشياء على تملكها صار أحد فنون الحياة السائلة وإحدى المهارات اللازمة لممارستها”.2

هذه التغيرات الحياتية السريعة تجعل التجارب السابقة التي مر بها أناس آخرون عديمة الفائدة، “فليس من الحكمة أن يتعلم المرء من التجربة ليعتمد على استراتيجيات وتكتيكات نجحت في الماضي. فتجارب الماضي لا يمكن أن تستوعب ما يطرأ على الظروف من تغيرات سريعة غير متوقعة إلى حد كبير (وربما لا يمكن توقعها)”.3

وبهذا تصير كل جوانب الإنسان عبارة عن سوق استهلاكية، تبعًا لمعايير الحياة السائلة، التي:

تجعل من العالم بكل أحيائه وجماداته موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها عند استخدامها (وتفقد معه سحرها وجاذبيتها وإغوائها وإغرائها)، إنها تشكل معايير تقييم أحياء هذا العالم وجماداته وفق نموذج موضوعات الاستهلاك. 4

هوية.. حتى إشعار آخر!
من الأشياء التي عزاها باومان لما بعد الحداثة أيضًا، حالة التحرر من الهوية لدى الإنسان الحديث، باعتبارها شيئًا يقيد الحرية ويربط الشخص بالماضي، ويمنعه من المضي قُدُمًا في سلم الترقي. بل صار للإنسان أن يختار ما يشاء هويةً له يغيرها متى شاء.

وهي حالةٌ أطلق عليها باومان “التهجين”، وسمى الإنسان الخاضع لها بالهجين الثقافي، ذي “الهوية الهجينة”. ومعلوم أن لفظ الهجين يشير إلى الشيء الذي يملك أصلًا واحدًا، إنما أصوله متعددة وجذوره مختلفة، هكذا هو الإنسان في عصر الحياة السائلة، لا يثبت على هوية ولا يستقر على أصل.

“هكذا صارت الهوية شيئًا يضفيه الفرد على نفسه ويعزوه إلى نفسه، فغدت الهوية محصلة الجهود التي يبذلها الفرد وحده وينشغل بها، ولكنها محصلة مؤقتة من دون عمر افتراضي محدد، وإن كان قصيرًا أغلب الظن”.5

ولئن كان هذا الإنسان الهجين يرى نفسه حرًا بعيشه في حالة سيولة الهوية هذه، فإن باومان يقول: “إن من يمارسون هذه الحالة الجديدة من ميوعة الذات ويستمتعون بها، عادةً ما يصنفونها بأنها حرية؛ بيد أن امتلاكهم هوية مائعة يستمتعون بها “حتى إشعار آخر” ليس من الحرية في شيء، بل إنه تجنيد إجباري لا نهائي في حرب تحرير لا يمكن أن تحقق الانتصار النهائي”.6

بين الشهيد والبطل والشهير
يصف لنا أيضًا باومان في كتابه قصة تطور نوعية الشخصية التي ترنو إليها الأبصار وتشرئب إليها الأعناق في المجتمعات الإنسانية، وكيف أن هذه الشخصية تطورت من كونِها الشهيد، ثم البطل، ثم أخيرًا: الشهير. ويميّزُ هؤلاء الثلاثة مراحل: ما قبل الحداثة، الحداثة وما بعد الحداثة، على التوالي.

يرمز الشهيد إلى الشخص الذي يضحي بنفسه في سبيل قيمة عليا، دون حساب المكاسب والخسائر، وهذا المفهوم ينتمي إلى ما قبل الحداثة، بينما البطل فهو من أهل الحداثة كما يقول باومان، وهو شخص يحسب الأرباح والخسائر ويهتم بها، ولا يقوم بتضحياته بدون مقابل. 

الشهيد والبطل في رأي باومان، طرفان لنفس السلسلة، إذ إن البطل في الحقيقة هو شهيد تمت علمنته! فالعلمنة تشير إلى نزع القداسة عن كل ما هو مباين للعالم المادي، وبما أن الشهيد يقدم تضحيته في سبيل فكرة ما ورائية فإنه لا يلائم نظام الحداثة؛ وبالتالي فهي تقوم بقص الأجزاء المقدسة من الشهيد، ليتحول في النهاية إلى بطل!

يقول زيجمونت باومان: “لم يحدث إنكار “للمقدس”، بقدر ما حدث “نقل عنيف” لسلطته، فانتقل المقدس إلى الوجود تحت إدارة جديدة، وفي خدمة الأمة/الدولة”.7

لكن مع الدخول في عصر ما بعد الحداثة، وطغيان النزعة الاستهلاكية ونمط الحياة السائلة، فالدولة “لم تعد تحتاج إلى أبطال، فكفى بالمستهلكين السعداء اللاهثين وراء حوائجهم أبطالًا!”.8 كما أن المجتمع الاستهلاكي الحديث لا يرى أي قيمة للشهداء والأبطال: “ينظر المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل إلى أعمال الشهداء والأبطال ومن على شاكلتهم الهجينة باعتبارهم أناسًا غير عقلانيين يتعذر فهمهم، ومن ثم فهم يثيرون أشد الاستياء النفور”.9

في المقابل فإن هذا المجتمع يعظم من شأن المشاهير، ويعتبرهم أبطاله (وإن كان مفهوم البطولة غائبًا فيه)، لأنهم بشهرتهم “يمثلون مادة لاصقة تربط بين أشتات من الناس، بل إنهم في هذه الأيام يمثلون العوامل الرئيسة التي تولد الجماعات”.10

الثقافة تحت إدارة السوق

يفرض النظام الاستهلاكي السائل سلطته -كما يفعل مع أي شيء آخر- على الثقافة؛ فيجعلها خاضعة لمعاييره التسويقية، مع أن الأصل في الثقافة ألا تكون كذاك، بل على الإنتاج الثقافي أن يكون على أساسات معرفية متعالية عن رغبات الناس الحالية، فـ”الاستعمال/الاستهلاك الفوري والذوبان في عملية الاستهلاك ليسا غاية المنتجات الثقافية، ولا معيار قيمتها”.11

فالثقافة تسعى إلى تحقيق الكمال السلوكي والأخلاقي والقيمي للإنسان، بينما السوق يسعى لتحقيق الرغبات وتلبية الشهوات، وبالتالي فإرغام الثقافة على الخضوع لمعايير السوق هو الذي أدى إلى تدني مستوى الإنتاجات الثقافية الذي نشهده.

يقول باومان في هذا الصدد: “إن إخضاع الإبداع الثقافي لمعايير السوق الاستهلاكية يعني إرغامها على القبول بمتطلبات المنتجات الاستهلاكية (…). فإما أن تكتسب شرعيتها من القيمة السوقية (قيمتها الحالية في السوق بكل تأكيد) أو أن تفنى”.12
عصر الخوف الدائم

تقدم معنا كيف أن السمة الأبرز للحياة السائلة هي التغير الدائم، والتطور المستمر، فالإنسان صار غير قادر على معرفة ما الذي سيحدث في المستقبل، لأن مؤشرات الماضي وتجاربه لم يعد لها نفع. “إننا عاجزون عن خفض السرعة المذهلة التي يسير بها التغيير، بل نحن عاجزون عن استقراء مسار التغيير والسيطرة عليه”.13

يقول باومان في وصف هذه الحالة: “إن الأرض التي يُفترض أن يقف عليها مستقبلنا إنما هي أرض رخوة بكل تأكيد، تمامًا مثل وظائفنا والشركات التي تعرضها، وشركاء حياتنا وشبكات أصدقائنا، ومكانتنا في المجتمع ككل، وما يصاحبها من احترام للذات وثقة بالنفس”.14

هذا الخوف الدائم من المستقبل، يؤدي إلى سعي الإنسان سعيًا حثيثًا لتحقيق الأمان. وهنا الفرصة الذهبية لأرباب السوق الاستهلاكية، حيث صاروا يتغذون على الخوف ويستغلونه أيما استغلال لتسويق منتجاتهم، فمن السهل جدًا التعامل مع الإنسان الخائف، ما عليك إلا أن تعرض عليه بصيص أمل بالأمان، وإن كان كاذبًا، وسيصدقك ويفعل ما تقول. “ما أكثر الأموال التي يمكن أن يدرها الشعور بالخوف وعدم الأمان”.15

إن الخوف يمثل أرضية استثمارية مربحة سواء للتجار أو السياسيين. فالتجار يعدونك بالأمان، والساسة يعدونك بالأمان، وأنت كإنسان بائس مسحوق تحت عجلة الحداثة المتسارعة، لا تملك إلا تصديق هذه الوعود، أو التظاهر بذلك في حال كنت تراها كاذبةً، ببساطة لأنه لا خيار أمامك!
الاستهلاكية.. من تلبية الرغبات إلى “خلق” الرغبات
إذا سألتك عن عدد المرات التي رأيت فيها إعلانًا تسويقيًا لمنتجٍ ما، فشعرت بحاجتك إليه (أو بالأحرى رغبتك فيه، لأن الفرق بين هذين المعنيين لم يعد موجودًا في حياتنا)، وشعرت أيضًا بالملل من المنتج المماثل القديم الذي كان عندك، ثم ظننتَ أن سعادتك تكمن في امتلاك المنتج المُسوّق؛ فلا أشك أنك ستجيب: يوميًا، بل ربما مرات عديدة في اليوم الواحد. والسخيف في الموضوع أنه بعد أن تشتري ذلك المنتج، سيذهب بريقه وتفقد السعادة التي شعرت بها حين امتلكته وتخلصت من نظيره القديم في سلة المهملات.

للأسف أنت -وجميعنا تقريبًا- ضحايا الماكينة الاستهلاكية الحديثة، بدرجات مختلفة، فالمجتمع الاستهلاكي يقوم “على وعد بإشباع الرغبات البشرية بما يفوق ما كان يإمكان المجتمعات الماضية كافة أن تشبعه أو تحلم بإشباعه. ولكن وعد الإشباع لا يحتفظ بسحره إلا بعدم الإشباع، والتشكك في الإشباع الحقيقي والكامل للرغبة”.16 الأمر أشبه بالبغيّ (وعذرًا على قبح التشبيه) التي تظهر التمنّع والتعفف أمام مريدها وتستبطن الإغواء، فيبقى المريد متعلقًا؛ لا هو ينالها ولا هو يتحقق من رفضها. هكذا تصنع الاستهلاكية بالمستهلك، تدفعه لرفع سقف توقعاته إلى أقصى قدر ممكن ثم تمنعه من تحقيقها، ليبقى لاهثًا خلفها طول حياته، لأن «تحديد أهداف متواضعة، وضمان الوصول إلى الأشياء التي تحقق الأهداف، والاعتقاد بوجود حدود موضوعية للرغبات “الواقعية” و”الحقيقية”، كل ذلك يمثل نذيرًا بنهاية المجتمع الاستهلاكي”.17

يقدم لنا باومان في كتابه تحليلًا للوضع الاستهلاكي الحديث، وذلك باعتبار الاستهلاكية تقوم على ثلاثة أركان إن صح التعبير، أولها: الحياة الاستهلاكية، حيث يرى أن الإنسان منذ القدم كان مستهلكًا، وهو بطبيعته كذلك، لكن الذي يختلف في العصر الحالي هو “المتلازمة الاستهلاكية”، التي تتجاوز مجرد الانبهار باللذات، بل تضع الرغبة في الامتلاك، الذي يتبعه ويلازمه التخلص من القديم؛ فالمتسهلك يدور في دوامة لا نهائية من الامتلاك والتخلص، كحال الفأر الذي يجري داخل العجلة، ويظن أنه قطع مسافة طويلة بينما هو ثابت في مكانه ولا يدري.

فالتملك الذي يرافقه التخلص، والحفظ الذي يرافقه نسيان، مهارتان ضروريتان للعيش في مجتمع المستهلكين. يقول باومان: “إن مقدار المعرفة التي يحتاج إليها المرء حتى يثبت في موضعه يذهل العقل: أعداد مهولة تصيب الرأس بالدوار من الأسماء والعلامات المسجلة والشعارات التي يحتاج المرء إلى حفظها والاستعداد لنسيانها؛ حيث تظهر فجأة أسماء جديدة (…)، وتختفي”.18

أما الركن الثاني فهو الجسد الاستهلاكي، حيث تعمل هذه الماكينة على تخليص الإنسان من حرية التحكم في جسده وملذاته، ودفعه القسري إلى اللهث وراء تلبية هذه الملذات، وتسمية ذلك حرية! يتساءل باومان بهذا الصدد: “هل الوضع الجديد وسع بالفعل نطاق الحرية الفردية، بفتحه أمامنا وأمام كل واحد منا نطاقًا أوسع من الاختيارات، وبإضعافه لشبكة الروابط الاجتماعية التي كان الجسد يقع فيها، أم أن الأمر يبدو كذلك لا غير، حيث تستبدل الروابط القديمة بروابط جديدة ليست أقل قمعًا واستبدادية؟”.19

ويضيف واصفًا هذا الخلق المتواصل للرغبات، التي تكبل الإنسان بقيد السعي الدائم لتحصيل أكبر قدر ممكن من المنتجات الجديدة: “ليست النزعة الاستهلاكية مسألة تتعلق بإشباع الرغبات، بل بإثارة الرغبة في رغبات أخرى، ولا سيما الرغبات التي لا يمكن إشباعها”.20

وبما أن خلق الرغبات، يرافقه خلق “الراغبين”؛ فهذا يقودنا إلى الركن الثالث، وهو “الطفولة الاستهلاكية”. حيث تسعى المجتمعات الحديثة إلى تدريب الأطفال من صغرهم ليكونوا مستهلكين مطيعين؛ فهم “يُقذفون من كل جانب بعروض تقول لهم إنهم يحتاجون إلى هذا المنتج أو ذاك حتى يصيروا شخصيات مناسبة تستطيع أن تؤدي واجبها الاجتماعي ويراهم الناس وهم يفعلونه، ومن ثم فهم يشعرون بعجزهم وقصورهم وفقرهم إذا لم يلبوا النداء على الفور”.21 فالسوق الذي كان في خدمة الإنسان لتلبية حاجاته، صار يخلق عند الإنسان رغبات جديدة ويكرسه في خدمته. 

الطريق إلى خارج الأزمة
حسب باومان، فإن الخروج من هذه الأزمة الإنسانية ليس مستحيلًا، إذ يمكن تلافي هذه السيولة من خلال إعادة بناء علاقات اجتماعية قائمة على الثقة والقيم العليا بإمكانها الاستمرار على المدى البعيد، هذا سيعيد لنا الكثير من الثبات والاستقرار المفتقدين في حياتنا المليئة بالتغييرات المستمرة.

ويرى أن المسؤولية في ذلك تقع على الجميع، إنها مسؤولية كوكبية كما يسميها، فهو حين طرح السؤال التالي: “هل من الممكن أن يصبح المجال العام مرة أخرى مكانًا للمشاركة الدائمة لا اللقاءات العابرة العارضة؟”.22 قال إن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب: «تتطلب مسؤولية كوكبية حقة، إنها تتطلب اعترافًا بأننا جميعًا على هذا الكوكب نعتمد على بعضنا البعض من أجل حاضرنا ومستقبلنا، وأن ما نفعله ونعجز عن فعله لا يمكن ألا يبالي بمصير الآخرين، وأننا جميعًا لا يمكن أن نلجأ إلى مأوى خاص بمنأى عن العواصف التي ربما تضرب أي جزء من الكرة الأرضية”.23

قراءة سعدون يخلف

خلخلت الحداثةُ السائلةُ الحياةَ، إذ أصبحت تتسم بالاضطراب واللايقين، فصار الفرد فيها محاصراً، وأصبح الخوف ملازماً لوجوده، يستغله القادة من أجل التحكم في هذا الفرد، وتستثمره الشركات لمضاعفة أرباحها، ما جعله يعيش في قلق دائم على وجوده، ومن عدم المقدرة على إشباع رغباته، نتيجة طغيان الثقافة الاستهلاكية، التي جعلته في سباق محموم مع الزمن، لكي يثبت جدارته أو يخرج من مضمار السباق، فيصدر في حقه حكم منتهي الصلاحية، هذه الثقافة اختزلت الإنسان إلى شيء من الأشياء، ناظرة إليه كسلعة معروضة في السوق.

الحياة السائلة ما هي؟

يعرف زيجمونت باومان الحياة السائلة، بكونها «الحياة التي نحياها في مجتمع حديث سائل»، وبما أن الظروف التي يعيشها الأعضاء في هذا المجتمع تتميز بالتغير المستمر والسريع، فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلى عدم استقرار الأفعال على شكل عادات وأعمال منتظمة، بالتالي، تنتفي المرجعية الصلبة للفرد، التي يحتكم إليها في أفعاله وتصرفاته، ما يجعل العلاقة بين الحياة السائلة والمجتمع السائل قوية، إذ «تتغذى سيولة الحياة، حسب باومان، من سيولة المجتمع، وتستمد طاقتها وحيويتها منها، والعكس صحيح»، كما أن السيولة تُفقد الحياة المقدرة على الاحتفاظ بشكلها أو استقرارها على حالها مدة طويلة، كل ذلك جعل الحياة السائلة «حياة محفوفة بالمخاطر، يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم»، ومردُّ ذلك إلى الخوف المستفحل، وإلى هاجس القلق الدائم من الفشل، قلق من «عدم القدرة على اللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن التخلف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ نهاية الصلاحية».
لعل الوصف الذي أطلق على الحياة السائلة بأنها «سلسلة من البدايات الجديدة» يحاول إخفاء النهايات التعيسة لهذه الحياة، بعبارة أخرى، أن هذه الحياة لا تملك سوى نهايات مؤلمة وقاسية، من أجل ذلك تحاول أن تبرز بداياتها المغرية من دون نهاياتها، فهي حياة «تبني مجدها على قبور لا تحتفظ بعزيز تخلد ذكراه شواهد القبور الفاخرة».
تمتلك الحياة السائلة المقدرة على إنهاء العلاقات بسرعة، بـ«التحلل من قيود العلاقات، وإمكانية فك الارتباط»، وعلى التدمير الخلاق لكل شيء، بما فيها حياة البشر أنفسهم، كما حوّلت هذه الحياة العالمَ إلى موضوع استهلاكي، لم يقتصر ذلك على الجماد وحسب، بل امتد إلى الأحياء أيضاً، وبذلك أعادت «تشكيل معايير تقييم أحياء هذا العالم وجماداته، وفق نموذج موضوعات الاستهلاك»، ولكل موضوع استهلاكي، كما هو معروف، عمر افتراضي قصير صالح للانتفاع به، بمجرد ما ينتهي هذا العمر يغدو مجرد نفاية.
بناء على ما سبق، فإن الفرد في ظل الحياة السائلة يعيش في حالة حصار، إذ تجده محاصراً بالاستلابات، التي تسلب منه إنسانيته وإرادته، هذه الحياة تجعل الفرد مسلوب الحرية، فبدلا من تحرره، كما وعدته الحداثة السائلة، تزايدت أسباب عبوديته، وبدلا من أن يحصل على الأمن والطمأنينة، صار الخوف والقلق الهاجس الأكبر في حياته، بل صار خوفه وقلقه موضوعاً للاستثمار، كل هذا نتيجة «الثقافة الهجينة» التي تضفي نوعاً من الأيديولوجية على التحرر المزعوم والمزيف، إذ تجعل الفرد في حالة سعار دائم وراء السلع التي لا تحقق له الرضا، نتيجة الخلق المستمر للسلع.

التحولات الكبيرة في المجتمعات الحديثة السائلة أفقدت الشهادة والبطولة قيمتيهما، ذلك أن الدولة صارت تمتلك جيشاً محترفاً، بالتالي، فهي لا تحتاج إلى مواطنين مستعدين للموت في سبيلها.

الشهداء.. الأبطال والمشاهير

يتناول باومان في كتابه «الحياة السائلة» مسألة في غاية الأهمية، متعلقة بنهاية مفهوم التضحية من أجل فكرة أو قضية ما، ففي الأزمنة السائلة يقول باومان «من الصعب، العثور على أناس يمكن أن يضحوا بأنفسهم من أجل هؤلاء الساسة»، مثل بوش الأب أو الابن أو شيراك أو بلير، ذلك أن التضحية ارتبطت بداية بفكرة الشهادة عندما كان للدين تأثير قوي في حياة الناس، بينما ارتبطت بفكرة البطولة في عصر الحداثة لمّا كان الإنسان يقدم نفسه قرباناً في سبيل الدولة/ الأمة، على أن الفرق بين الشهيد والبطل يتجلى في أن موت الشهيد عديم القيمة، بينما الموت يقدم «للبطل قيمة تفوق عظمتها كل ملذات الحياة في الأرض»، كما أن معنى الشهادة «لا يتوقف على ما يحدث في العالم في ما بعد»، عكس البطولة معناها يتوقف عليه، وإلا يعتبر عمله مجرد تهور وحماقة، وإذا كان موت الشهيد تكفيراً للذنوب، وتجديداً للتوبة، وخلاصاً للروح وخلودها في العالم الآخر، فإن موت البطل يكون أساساً من أجل بقاء الأمة وخلودها. غير أن التحولات الكبيرة في المجتمعات الحديثة السائلة أفقدت الشهادة والبطولة قيمتيهما، ذلك أن الدولة صارت تمتلك جيشاً محترفاً، بالتالي، فهي لا تحتاج إلى مواطنين مستعدين للموت في سبيلها، كما أن المجتمع الاستهلاكي لا يعطي تلك المثل قيمة، بل يحطّ من قدرها، ويسعى إلى إلغائها، من أجل أن «تحل محلها قيم الإشباع الفوري والسعادة الفورية». وبما أن المجتمعات الحديثة السائلة تنظر بعين الغرابة إلى الشهداء والأبطال، باعتبارهم أناساً غير عقلانيين، فمن ذا الذي يقدم على ذلك الألم، ويتحمل تلك المعاناة بمحض إرادته؟ إلا إذا كان عقاباً تديره السلطات المختصة، وعليه، فإن المضحي في الأزمنة الحديثة لا بد أن تنتفي المشقة والألم عن تضحيته، ولعل المشاهير هم المثال المعبّر عن هذه المميزات، لأن شهرتهم ليست وليدة أفعالهم، كالشهداء والأبطال، بل العامل الرئيسي لاشتهارهم، على حد قول باومان، هو «كثرة صورهم، وانتشار أسمائهم في البرامج العامة والحوارات الشخصية»، فمحاولة تقديم المشاهير كنموذج يحتذى به، راجعة، في الأساس، إلى أنهم التعبير الصادق عن النمط الاستهلاكي المميز لعصر الحياة السائلة.

إن الأرض التي يفترض أن يقف عليها مستقبلنا إنما هي أرض رخوة بكل تأكيد، تماماً مثل وظائفنا والشركات التي تعرضها، وشركاء حياتنا وشبكات أصدقائنا، ومكانتنا في المجتمع ككل.

الخوف.. الأمن والمدينة

الإنسان المعاصر يعتريه توجّس دائم من المستقبل، بسبب غياب الاطمئنان وتزايد المخاوف، ذلك أن الحياة السائلة في الواقع تتغذى بإنتاج المخاطر، وتبقي باستمرار حالة اللايقين، يعبّر باومان عن ذلك بالقول: «إن الأرض التي يفترض أن يقف عليها مستقبلنا إنما هي أرض رخوة بكل تأكيد، تماماً مثل وظائفنا والشركات التي تعرضها، وشركاء حياتنا وشبكات أصدقائنا، ومكانتنا في المجتمع ككل»، ولعل ذلك يرجع إلى «فكرة التقدم»، ووعودها بتحقيق السعادة والطمأنينة والسكينة، فعوضاً عن كل ذلك، صارت حياة الناس تتسم بالخوف والقلق، وبذلك ما عادت تلك الفكرة «توحي بالآمال الكبرى والأحلام الجميلة، بل صارت تشير إلى معاناة الأرق وكوابيس الخوف من التخلف عن الركب، أو فقدان القطار»، وعليه، فقد صار الخوف ملازماً لوجود الإنسان، وصار القلق من صميم ذات الإنسان المعاصر، واللافت للنظر أن الخوف أصبح استراتيجية بيد الحكومات والشركات، تستغله السلطة لكي تتحكم في الفرد، وتستثمره الشركات من أجل زيادة مبيعات منتجاتها.
لم يقتصر الخوف على الريف فقط، بل انتقل إلى المدينة، التي كانت إلى وقت قريب موطناً للأمن والأمان، وهي اليوم تتحول تدريجياً إلى «حالة الطبيعة التي تتسم بسطوة الرعب وهيمنة الخوف»، إن انتقال الخوف إلى المدينة سببه الرئيسي اختلاط قاطني المدينة بالغرباء الغامضين، ما ولّد اللاثقة، بحيث تتمظهر مظاهر الخوف في الخنادق والملاجئ المحصنة من أجل فصل سكان المدينة عن الغرباء، هذه المظاهر لم تساعد على إرساء الأمان بقدر ما زادت من حجم المخاوف. غير أن الوضع المأساوي هذا، يُبرز حقيقة تلك الشعارات المرفوعة من قبيل «التقدم نحو الحضارة»، فهذه العبارة، على الرغم من جاذبيتها وسحرها، إلا أن معناها الحقيقي يفقد ذلك السحر، ويبطل تلك الجاذبية، ذلك أن التقدم، حسب باومان، لا يكون «إنجازاً واحداً مقطوعاً» بل هو في الحقيقة صراع يومي متواصل، بشرط ألاّ يحقق هذا الصراع الانتصار النهائي، لأنه في الأخير «لا يرجى منه أن يصل إلى خط النهاية، بل يدفعه على الدوام الأمل في الانتصار».

حياة استهلاكية

« يقوم المجتمع الاستهلاكي على وعد بإشباع الرغبات البشرية»، لكنه لا يفي بهذا الوعد، بل يترك الفرد يلهث وراء الإشباع من دون جدوى، لأن الإشباع في الواقع لا يحتفظ بسحره ورونقه إلا بعدم تحقيق الإشباع، في سبيل تحقيق هذا الهدف يعتمد على استراتيجية تتمثل أولا في الحطّ من قيمة السلع الاستهلاكية بعد فترة قصيرة من ترويجها في عالم الاستهلاك، ثمّ يجعل إشباع كل رغبة أو حاجة أو أمنية، حلماً بعيد المنال، يتحول مع مرور الوقت إلى إكراه أو إدمان، «فما يبدأ رغبة ينتهي إكراهاً أو إدماناً»، وحتى تنجح هذه الإستراتيجية، كضمان لبقاء المجتمع الاستهلاكي، تستثمر في جسد المستهلك، فالإنسان المعاصر الذي أنتجته الحداثة السائلة هو إنسان متمركز حول جسده، مسحور به، قلق عليه، لذا استغل خبراء التسويق هذا القلق المرتبط بالجسد، لأجل الدعاية لمنتجاتهم، وزيادة أرباحهم، «فالوعد بتخفيف ذلك القلق أو القضاء عليه هو أكثر عروض السوق الاستهلاكية جاذبية»، كما أن تأثير لغة السوق، ورؤية الآخرين بمنظار السوق امتد إلى الأطفال أنفسهم، حتى صاروا مادة استهلاكية، يستغلها خبراء التسويق من أجل زيادة أرباحهم، من خلال الوعد بتخفيف وطأة قلق الأسر والعائلات.

ما الحل؟

يرسم باومان في الأخير طريقاً من أجل الخروج من المأزق الذي تعيش فيه البشرية، فهو يدعوها إلى إعادة بناء الروابط بينها على أسس متينة وصلبة، قائمة على الحب والصداقة والثقة المتبادلة، لأن ذلك من شأنه أن يساعدها على الانخراط في جهد متواصل لجعل الوجود الإنساني أكثر رحابة وقبولا للتعاون، كما يدعوها، والحال هذه، إلى إعادة النظر في التعليم، لأن الحاجة إلى «التعليم مدى الحياة» ضرورة، من أجل التمكين من إعادة بناء الفضاء العام الذي صار مهجوراً، لكي ينخرط فيه الرجال والنساء، على حدّ سواء، في ترجمة مستمرة بين الواجبات والحقوق، والمصالح الفردية والجماعية، الخاصة والعامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق