كنتُ في بلد عربي ذات سنة ليست بعيدة، وداهمتني صلاة الفجر، فتوجّهت إلى المسجد لأداء الصلاة، وفوجئت بصاحبي يجذبني بعيداً عن المسجد، قائلاً لي إنّ صلاة الفجر "جماعة" في المسجد تشكّل في بلده تهمة، ومن الأفضل لي أن أؤديها إما في بيته أو الفندق. وأخذ يروي لي كيف رأى شقيقه "نجوم الظهر" من جهاز أمن البلد، فقط لأنه دأب على تأدية صلاة الفجر تحديدا في المسجد. وحين رأيت شقيقه قال لي، وهو شاب عشريني، ليس متدينا، ولا يوجد في بيتهم من يصلّي ولو ركعة، إنه حدث ذات يوم أن دعاه ابن جيرانه إلى صلاة الفجر، فلبّى النداء، وصحبه إلى المسجد، وحينما خرج كان في انتظاره عنصران من "أمن الدولة" حملاه في سيارة ومضيا به بعيدا، ثم عاد الفتى بعد أيام، وهو يقول لأهله: "والله لو صلّى اليهود الفجر في المسجد ما صليته بعد الآن". باختصار، تعرّض الفتى لألوان من الضرب والإهانة من أزلام الأمن، وهدّدوه بما لا يتخيله عقل إن واصل الذهاب إلى المسجد، ولقاء مرتاديه.
ليست هذه الواقعة شاذّة، ففي الأردن، مثلاً، فرض على خدم المسجد أن يُغلق فور أن يؤدّي المصلون الصلاة، وقد كان في ما مضى يبقى مشرع الأبواب لخدمة عابري السبيل، وترافق هذا مع تعليمات مشدّدة تصدرها وزارة الأوقاف، تمنع أي داعية من فتح فمه بالدعوة والإرشاد إلا بإذن من الوزارة، مع منع كثيرين من الخطباء وعلماء الدين وأساتذة الشريعة من اعتلاء المنبر. وتطوّر الأمر أخيراً إلى "توحيد" خطبة الجمعة في جميع المساجد. وليس الأردن ببدع من البلاد العربية الأخرى، فقد غدا المسجد تحت الضوء الكاشف مراقبةً ورصداً، لأنّه في معيار أنظمةٍ كثيرة بؤرة لتنظيم الدعاة الحركيين، وما يسمّونه "التطرّف". وبلغ الأمر في بلاد أخرى فرض إجراءاتٍ مشدّدة على كل من يخرج من الخطباء عن الخط المرسوم أمنياً، فيجد نفسه واقعاً في الأغلال، ومجرجراً إلى غياهب السجن، حتى لو كان خطيباً للحرم المكي. وما قصة الحكم بالسجن على إمام الحرم المكي، الشيخ صالح آل طالب، عشر سنين بسبب خطبة جاء فيها على ذكر حفلات "الترفيه" بالنقد، في خطبةٍ انتشرت على منصات الإعلام الشعبي، ومثله كثيرون، أودعوا المعتقلات بسبب موعظة أو "بوست" على "فيسبوك"!
"مفتاح" ما جرى ويجري في كثير من بلادنا العربية مرتبطٌ بشكل وثيق مع حمّى "التطبيع" والتطبيل مع كيان العدو الصهيوني
وفي واقعةٍ ليست بعيدة، منع حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن من إقامة مهرجان خطابي انتصاراً للأقصى ضد هجمات المستوطنين قبل ساعات من انطلاقه، فيما يُسمح لكلّ من هبّ ودبّ بتنظيم حفلات غناء ورقص، بل يُستقدم مطربون ومطربات من كلّ بقاع الدنيا وتفتح لهم صالات كبار الزوار، ويجدون ترحيباً منقطع النظير، هم ومنظمو حفلاتهم، فيما يضيق صدر القوم بمهرجان خطابي ينتصر للأقصى، وإن بالكلام.
أما حكاية مراكز تحفيظ القرآن الكريم، فتلك قصة طويلة بدأت منذ أعلنت غير جهة مسؤولة في بلاد العرب عما يسمّونه "تطوير المناهج" ليتبين بعد بحث سريع أنّ عمليات التطوير نالت من آيات الجهاد فشُطبت كلها أو جلها من مناهج العرب، كما شطب كلّ ما له علاقة باليهود وخيانتهم العهود وتآمرهم على الدعوة الإسلامية في سنيها الأولى في المدينة المنورة. ولهذا تعين على السلطات ذات العلاقة أن تلاحق حلقات تحفيظ القرآن الكريم، كي لا يقرأ النشء ما شُطب من آياتٍ من مناهج الدراسة المختلفة.
ويبدو أنّ "مفتاح" ما جرى ويجري في كثير من بلادنا العربية مرتبطٌ بشكل وثيق مع حمّى "التطبيع" والتطبيل مع كيان العدو الصهيوني، وإن كانت الحملات على المساجد وأهلها بدأت مبكراً مع موضة محاربة ما يسمّونه "الإرهاب" لكنّها اشتدّت ضراوة وتوحشاً مع البدء بإعلان تحالفات النظام العربي الرسمي مع كيان الاحتلال، بعدما كانت تلك التحالفات والعلاقات سرّية بعيداً عن الأعين وفي الغرف المغلقة، ولا أدلّ على هذا من شريط فيديو لصهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، جاريد كوشنر، وهو يقول بكلّ صراحة: "نفّذنا عملاً جيداً في تطهير كثير من المساجد بالتعاون مع شركائنا في المنطقة لتسهيل التطبيع مع إسرائيل". ولا يحتاج هذا التصريح لأي تعليق أو شرح لمعنى "التطهير"، فهي كلمةٌ توحي أن مساجدنا كانت "ملوّثة" بالنظافة، وجرى "تطهيرها" من أي معنىً للرجولة أو الجهاد أو عزة الإسلام، كي تصبح مجرّد أماكن تفتح لوقت قصير لكبار السن، لتأدية الصلوات على عجل، ثم تغلق فوراً كي لا يجتمع فيها "الإرهابيون!" ليتعلموا بعضاً من دينهم!
تغصّ جنبات المساجد، والمسجد الأقصى على وجه الخصوص، بآلاف المصلين في صلاة الفجر تحديداً، في مظهرٍ لافت
الغريب هنا، وهو ليس بغريب حقيقة، أنّ حملات السلطات المختصّة على مساجد العرب، ومناهجهم، يرافقها شيوع غير مسبوق للتدين اليهودي وجنوح مخيف في كيان العدو نحو مزيد من نمو أحزاب وحركات وجماعات متطرّفة دينياً، شعارها "الموت للعرب" وليس للفلسطينيين فقط، ولن يمر وقت طويل حتى نرى نتائج انتخابات الكنيست الصهيوني الوشيكة، وطبيعة ما يفرز من قوى يمينية، يتوقّع أن تهيمن عليه بشكل ساحق، جرّاء الرعاية الرسمية لليمين المتطرّف والتدين اليهودي، وهو الذي يأخذ على عاتقه حملات التهويد والبطش بالفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وتخريب محاصيلهم وسرقتها.
ومن طريف ما يُروى في هذا المقام أنّ مخبراً أمنياً في بلد عربي كان يتعقب "مشتبهاً به" بالتدين لاحظ أنّه دخل يوماً محلاً لبيع الخمور، فرفع تقريراً لمرؤوسيه كتب فيه عن هذا "المشبوه": "تحسّنت أخلاقه!"... ويبدو أنّ هذا "التحسّن" هو المعنى ذاته الذي قصده كوشنر في تصريحه عن "تطهير" المساجد. ومن المفارقات هنا أن عملية "التطهير" تلك لم تصل إلى مساجد فلسطين، التي تشهد هذه الأيام إقبالاً غير مسبوق على صلاة الفجر، إذ تغصّ جنبات المساجد، والمسجد الأقصى على وجه الخصوص، بآلاف المصلين في صلاة الفجر تحديداً، في مظهرٍ لافت لا بدّ أنّه محط "دراسة" وتعقب من جهاز الشاباك، ووحدات الدراسة والتعقب والرصد في أجهزة أمن الاحتلال، وما يتبع لها من أجهزة "التنسيق الأمني" في فلسطين وخارجها!
ومن طريف ما قالته رئيسة وزراء الكيان إبّان حرب أكتوبر عام 1973، غولدا مائير، عندما حذّروها بأنّ عقيدة المسلمين تنصّ على حرب قادمة بين المسلمين واليهود سوف ينتصر فيها المسلمون عند اقتراب الساعة، فقالت: "أعرف ذلك، لكنّ هؤلاء المسلمين ليسوا من نراهم الآن، ولن يتحقق ذلك إلا إذا رأينا المصلين في صلاة الفجر مثلما يكونون في صلاة الجمعة"... ويبدو أنّ ما خشيته مائير قد بدأ بالتحقق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق