الفرص العربية الضائعة.. فلسطين: خط الدم المهدور والمغدور "2"
عندما نتحدث عن الفرص العربية الضائعة، نتذكر فلسطين، الجرح العربي والإسلامي النازف منذ حوالي 100 عام، ولا يزال خط الدم المهدور والمغدور يشق طريقه في صحراء التخبط والخيانة والمتاجرة والتيه والاحتراب والأنانية السياسية وضياع البوصلة؛ دون جدوى. العديد من الفرص مرّت على فلسطين، وعلى القيادات الفلسطينية أن تخرج من التيه والأنانية السياسية، وتحدد بوصلتها باتجاه تحقيق الهدف الأسمى، ولكنها مرّت عليهم وتناقلتها أيديهم، وتهللت لها عيونهم، ولاكتها أوداجهم، ولكن دون أن تقوى على تحطيم الصدأ الذي تكلّس فوق عقولهم، ودون أن تقوى على إيقاظهم من الإدمان السلطوي الذي أزاغ الأبصار وأعمى القلوب. لم تنته الفرص بعد، ولكن هل يستيقظون؟
أضاعت القيادة الفلسطينية المنقسمة على ذاتها الكثير من الفرص السابقة واللاحقة. ورغم أن الفرص لن تنتهي، ولكنها حتماً ستضيع دائماً، إذا استمر واقع القيادة الفلسطينية على ما هو عليه الحال
الانقسام عنوان الفشل
بين الخطاب الفلسطيني الشعبوي الذي يدغدغ العواطف ويستثير المشاعر، ويغذي التعبئة الثورية والتنظيمية والتضامنية، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وبين الواقع الذي تمر به القضية الفلسطينية، مسافة هائلة تزداد يوماً بعد يوم، لتعزز الشعور باستمرار تدفق الدم واستطالة أمد المعاناة واستحالة الوصول إلى الحل، وهذا بدوره يعزز الشعور بعبثية التضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم، وعاماً تلو عام، وخاصة في ظل الواقع البشع المطبق على مسار القضية، والمتسبب في حالة العقم والفشل التي تعاني منها، وأهم ما في هذا الواقع:
- استمرار انقسام القيادة الفلسطينية بين حركتي "فتح" و"حماس" وفشلها في تحقيق المصالحة الوطنية حتى اليوم، مسطّرةً عنوان الفشل الذريع لكافة الجهود التي تبذلها الحركتان لصالح القضية والشعب الفلسطينييْن.
- غياب المشروع السياسي الفلسطيني المشترك للتحرر الوطني، وحل القضية الفلسطينية، وهو نتيجة تلقائية لحالة التشظي التنظيمي، والأنانية السياسية التي تعيشها القوى الفلسطينية.
- انشغال المحيط العربي والإسلامي بأزماته وصراعاته الداخلية والخارجية بصورة لم يسبق لها مثيل، والذي أدى إلى تغيير الأولويات وخروج القضية الفلسطينية من دوائر الاهتمام الوطنية والقومية، لتنتهي مركزية القضية الفلسطينية لدى الأمة العربية والإسلامية.
- الاختراق الإسرائيلي للعديد من الدول العربية، وإقامته لعلاقات شراكة وتعاون ومصالح متبادلة معها في شتى المجالات، برعاية الولايات المتحدة الأميركية، ضمن ما يعرف بـ "اتفاق أبراهام" الذي انتقل الاحتلال الإسرائيلي بموجبه من دائرة العدو إلى دائرة الحليف.
في ظل هذا الواقع المرير، باتت الأيام والشهور والسنون تمر على القضية والشعب الفلسطينيين دون جديد يذكر على مستوى الجوهر، فالقيادة السلطوية والقيادة الفصائلية منشغلة بتسيير أعمالها اليومية، الداخلية والخارجية، والشعب الفلسطيني لا يفيق من إدمانه على الألم والمعاناة والحصار وتشييع الشهداء، والاعتزاز بالصمود والتضحية، والتغني بقصص القذائف والصواريخ والغارات والقصف والدمار والمعجزات.
لا شيء يتغيّر! تماماً مثل دورات الفصول، الصيف هو الصيف، والخريف هو الخريف، وهذا العام مثل سابقه قبل 10 سنوات، وقبل 80 سنة، ومازال الخطاب الشعبوي عنوان كل المراحل وكل الفصول، رغم أن الانقسام الفلسطيني الرأسي والأفقي مازال قائماً، دون أن يبدو في النفق أي بصيص ضوء لمعالجة هذا الانقسام.
والعجب كل العجب أن يتحدث الفلسطينيون عن خطط وأعمال وإنجازات مع هذا الانقسام! العجب كل العجب، أن تمر الأيام والشهور والسنوات على الشعب الفلسطيني، وهذا الانقسام ينخر مدنهم وقراهم ومخيماتهم، ويغذي كوادرهم وأجيالهم، ويلوّن طعامهم وشرابهم وإنتاجهم الفكري والثقافي والإعلامي! العجب كل العجب، أن يتناسى الفلسطينيون أن إنهاء هذا الانقسام هو رأس الأولويات، ومهمة المهمات في أعناقهم بجميع فئاتهم وتشكيلاتهم!
والأعجب من ذلك، أن يتوهم الفلسطينيون أنهم قادرون -مع هذا الانقسام- على إدارة العمل السياسي والعسكري والأمني لصالح القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها، بل وأن يتوهموا أن هذا الانقسام هو الصيغة المثلى للوضع الفلسطيني الراهن!! والأكثر عجباً من ذلك كله، أن يكون للفلسطينيين عدو مشترك كالعدو الصهيوني، ولا يتحدون!!!
العجب كل العجب، أن يتناسى الفلسطينيون أن إنهاء الانقسام هو رأس الأولويات، ومهمة المهمات في أعناقهم بجميع فئاتهم وتشكيلاتهم! والأعجب من ذلك، أن يتوهّم الفلسطينيون أنهم قادرون، مع هذا الانقسام، على إدارة العمل السياسي والعسكري والأمني لصالح القضية
عندما تغيب الإرادة الوطنية الصادقة
لا جدال في أن القضية الفلسطينية ظلت إلى حد كبير رهينة للتحولات المواقف والقرارات السياسية العربية والدولية، وأن القيادة الفلسطينية لا تملك الاستقلالية الكاملة في إدارة صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي، بعيداً عن النفوذ العربي والإقليمي والدولي، ولكن الذي لا جدال فيه أيضاً أن القيادة الفلسطينية استطاعت مع ذلك أن تفرض نفسها على جميع الأطراف كرقم صعب لا يمكن تجاوزه، وكبؤرة انفجار قابلة للاشتعال مرات ومرات في الوقت الذي تريده، وبصورة تحدث ارتباكاً شديداً في جميع الأوساط المعنية بدءاً بالاحتلال الإسرائيلي وانتهاءً بالولايات المتحدة.
وهذا يعني أن القيادة الفلسطينية المنقسمة، بين فتح وحماس، قادرة على إيجاد طرق وآليات وطنية داخلية لإنهاء الانقسام، وقادرة على الخروج من حالة الاستضعاف و(اليد السفلى) أمام الاحتلال الإسرائيلي، وإجباره على الإذعان للمطالب الفلسطينية، وقادرة على التحرر من قيود الحلول السياسية الوهمية التي تبيعها لهم الأمم المتحدة والولايات المتحدة، والقائمة على حل الدولتين. ولكن شريطة أن تتوفر الإرادة الوطنية المشتركة الصادقة لدى القيادة الفلسطينية، التي ما زالت تضيّع الفرص التي تأتيها دون أن تغتنمها لصالح القضية الفلسطينية وتطلعات الشعب الفلسطيني، ومن هذه الفرص:
- الانتخابات الفلسطينية التي جرت عام 2006، والتي -رغم كل التحفظات التي عليها- كان يمكن أن تشكل بداية جديدة لإعادة بناء الوضع السياسي الفلسطيني بالكامل لصالح قضية فلسطين وشعبها.
- الجهود العربية التي قامت بها العديد من الدول العربية والإسلامية، كالسعودية ومصر وقطر وتركيا والمغرب والجزائر، لتحقيق المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، وإنهاء الانقسام الذي حدث بعد سيطرة الأخيرة على قطاع غزة عام 2008. هذه الجهود التي كانت تسفر عن العديد من التعهدات والتأكيدات من الطرفين بتحقيق المصالحة، كانت دائماً تذهب أدراج الرياح فور انتهاء فعاليات المصالحة وعودة الطرفين إلى مراكزهما.
- معركة "سيف القدس" بين فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي العام الماضي، نصرة للقدس والأقصى، مثّلت فرصة كبيرة، ونقطة انطلاق مناسبة جداً لإعادة ترتيب الأوراق السياسية والعسكرية والأمنية على كل المستويات: الفلسطيني والصهيوني والعربي والإقليمي والدولي، نظراً لطبيعة المواجهة، والنتائج الاستثنائية التي ترتبت عليها. إلا أن المؤسف جداً، أن تمر الأيام دون أن يحدث شيء.
- اتفاقيات "أبراهام" التي أبرمتها بعض الدول العربية مع الاحتلال الإسرائيلي العام الماضي، والتي أحدثت انهياراً هائلاً في الموقف العربي من القضية الفلسطينية، كان يمكن أن تمثل دافعاً قوياً جداً للقيادة الفلسطينية لتعيد حساباتها وتقدير مواقفها، تنظر بعين المستقبل لمثل هذه الاتفاقيات وتداعياتها الكارثية على القضية الفلسطينية، وتعمل بصورة أكثر جدية وصدقية لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، وتضع الخطط المناسبة لمواجهة هذا التحوّل في مسار القضية والموقف العربي والترتيبات الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، وانعكاساتها على القضية الفلسطينية. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، واكتفت القيادة المنقسمة بتصريحاتها وتعليقاتها الإعلامية الباهتة التي لا تسمن ولا تغنى من جوع.
وقفنا فقط عند بعض الفرص الحديثة التي ضيعها الفلسطينيون، وقد سبقها العديد من الفرص، مثل فرصة خروج القوات الفلسطينية من لبنان عام 1982، وفرصة اتفاق أوسلو. والتي ضاعت مثلما ضاعت الفرص اللاحقة لها. لن تنتهي الفرص، ولكنها حتماً ستضيع دائماً كما ضاعت الفرص السابقة، إذا استمر واقع القيادة الفلسطينية على ما هو عليه الحال، وظلت تتعامل مع هذه الفرص بذات الأنانية السياسية، والانطوائية التنظيمية، وسوء التقدير للوقائع والمستجدات والمآلات.
(يتبع..)
الفرص العربية الضائعة.. الألم المتراكم فوق بساتين العنب(1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق