مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
بالحديد ملك السادة العبيد، بالحديد قبل المداد كُتِب التاريخ، وسطرت الدساتير والقوانين والشرائع واللوائح، التي حكمت بحق أو بباطل، وسادت الخلق بشرعية أو ببلطجة واستبداد،
بالحديد لا بالهتاف والتنديد قامت الدول والممالك، العادلة منها والظالمة، هذه هي الحقيقة التي تطاردنا في كل درب وتلاحقنا في كل سرب، وتصر على أن تبدو سافرة أمامنا، ونصر نحن على أن نغض عنها الطرف ونغلق دونها والأجفان والآذان!
بالحديد والنار يحكمنا ويتحكم فينا السفهاء والضلال منا، ويحكمهم ويتحكم فيهم من هم أسفه وأضل منهم،
بالحديد والسلاح تتحكم الدول الخمس المسماه بالعظمى في مصائر الأمم، وتفرض بالبلطجة وحدها سيادة (الدولار) و(اليورو) و(الاسترليني)،
بقوة السلاح احتلوا بلادنا ولا زالوا يحتلونها، وانتهكوا كرامتنا ولا زالوا ينتهكونها، وابتزوا أقواتنا ولا زالوا يبتزونها، وبقوة السلاح لا بكثرة الصياح والنباح نخرجهم وأذنابهم، ونحرر أوطاننا ونسترد كرامتنا ومعها لقمة عيشنا، هذا هو الواقع فإن كان ثَمَّ من يماري في طلوع الشمس من المشرق وغروبها في المغرب فليركب في هذه متن المماراة إلى أبعد مدى ولا يلتفت.
لذلك، ولأننا كثيراً ما ننسى أو نتناسى؛ جاءت الآية القرآنية بحقيقة غاية في الصدق والواقعية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد 25)،
وحتى لا يذهب الناس مع الأخيلة المحلقة فوق ظهر حمامة في منقارها غصن الزيتون؛ فإن البأس الشديد – كما فسرها السلف- هو “السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس بها”،
وسياق الآية محمل بالقرائن الدالة على هذا، أصرحها وأوضحها التذييل بهذا التعليل: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)، وما أروع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: “فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هاديا ونصيرا. ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد”.
أُدرك غاية الإدراك أنَّ تجاربنا الجهادية المعاصرة باءت في غالب أمرها بالفشل بعد أن جرَّت على الأمَّة ويلات لا طاقة للكوكب الأرضيّ كله بحملها،
أدرك هذا وأشاطر الجميع أحزانهم وما نالهم من فواجع، وأعلم تمام العلم أنَّ أعداء هذه الأمة ينتظرون اللحظة التي تنزلق فيها الشعوب إلى مستنقع العسكرة؛ ليجهزوا على ما بقي للأمة من آدميين فيذبحوهم ذبح الخراف، ويبيدوهم كما أُبيد أهل الأحقاف، أعلم ذلك وأقاسم الجميع خوفهم وحذرهم وسائر ما يقض مضاجعهم بالليل ويرهق أخيلتهم بالنهار.
لكن الذي أُدندن حوله شيء غير هذا وذاك، فكل ما جرى وما يمكن أن يجري إنما له سبب واحد منفرد ليس له ونيس ولا جليس، وهو (انعدام الدور القيادي الذي يجب أن يقوم به علماء الأمَّة وكبارها مجتمعين حول مشروعهم)،
وهذا السبب الواحد يتحلل إذا مر بمنشور الواقع الكاشف إلى ثلاثة عوامل: غياب الدور القيادي الميداني للعلماء وأهل الحل والعقد في الأمة، وغياب مشروعهم المنبثق عن رؤية واضحة، ودخولهم متفرقين تحت مظلات الأنظمة المحاربة لله ورسوله؛ فنتج عن ذلك انطلاق كل الحركات بلا رؤية ولا مشروع ولا خطط تبنى على رؤية أو مشروع، ولا جملة متسقة من الثوابت التي يتمحور حولها العمل والعاملون؛
فكانت النتيجة التي ستظل هي النتيجة الواقعة والمتوقعة مالم يتوافر هذا العنصر الجوهريّ النفيس العزيز، الذي يمثل دفة السفينة وبوصلة القبطان.
إنَّ الحديد لا يجدي ولا يفيد إذا كان حاملوه لا يميزون بين عدو ذميم وصديق حميم، ولا يفرقون بين من يكفيه البيان ومن لا يكفيه إلا السيف والسنان، ولا يتقدمهم علماؤهم وذوو الرأي من أمتهم، ومن هنا وجب أن يجتمع مع الحديد هدايات القرآن المجيد؛ ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بعودة علماء الأمة وكبارها إلى الدور الحقيقيّ المنوط بهم؛ عندئذ تنحل العقدة من تلقاء نفسها، وتمضي السفينة آمنة فوق ثبج الأمواج، لا تحيد ولا تميد.
والمعضلة التي تحير الألباب هي أنَّ العلماء والصفوة الكبراء – بدلا من أن يقوموا بدورهم لتصحيح المسار وتقويم اعوجاجه – يلعنون القوة، ويسبون الجهاد، ويعلنون البراءة منه ومن كل من يمت إليه بسبب، ليس هذا وحسب؛ بل وينسبون للإسلام براءته هو الآخر من هذا (الإرهاب!)، وكأنهم لم يصلهم أنَّ الإسلام لم يصل إلى ما وصل إليه من فتوح غَلَّفَت ما يقرب من ثلثي المعمورة إلا بالجهاد، وكأنهم لم يشعروا بأنَّ الجهاد (الذي يسمونه بلا خجل إرهاباً!) هو الذي أخرج آباءهم من الظلمات إلى النور؟ فلربما لولاه لكانت الصلبان اليوم زينة صدورهم!!
إنَّ الأخذ بأسباب القوة وصية القرآن الكريم لهذه الأمَّة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال 60)، وستظل الخيل وما يقوم مقامها من مركبات الجهاد معقوداً في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وسيبقى الجهاد سبيل الأمَّة الوحيد للخروج من أزمتها، وللانطلاق بدعوتها، ولن يضر بهذه الحقيقة الراسية تجارب باءت بالفشل أو اجتهادات جلبت الخسران والبوار؛ لأنّ سبب الفشل والبوار والخسران ليس هو الجهاد في ذاته، وإنما ممارسته على غير الوجه الذي يثمر نصراً ولا يورث خزياً..
والله المستعان
د. عطية عدلان
الخميس _4 _أكتوبر _2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق