النخبة المدلسة
التدليس لغة يعني الغش، ودلّس البائع أي أخفى عيوب بضاعته عن المشتري، واصطلاحا يعني الزيف والخداع، خاصة في مجال الفكر والرأي. أما المدلّسون، في هذا المقام، فهم نفر من أهل العلم والفكر والثقافة يستخدمون بضاعتهم ومهاراتهم وأحاديثهم في خداع الناس، وغشّهم، وتزييف عقولهم ووعيهم. وهم كالشعراء الذين تجدهم في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون. والتدليس لا يختلف، هنا، كثيرا عن التلبيس، الذي يعني إظهار الباطل في صورة الحق عبر التمويه والخداع، وكذلك إظهار الأول وكتمان الآخر عبر خلط الصدق بالكذب. ولبَّس عليه الحقائق، أي خلطها وستر حقيقتها وأظهر خلافها. وقد نهى الله، سبحانه وتعالى، اليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، فقال في كتابه الكريم "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" (سورة البقرة: 42).
اليوم، لا يكاد يخلو مجتمع عربي من المدلسين والملبّسين، الذين يخلطون الحق بالباطل عبر التضليل والخداع، وكثير منهم يتخذ صفة العلماء والمفكرين والمثقفين والإعلاميين والمؤثرين، إلخ. ويصفهم البعض جهلا بـ"العلماء" ويسمّون أنفسهم، غرورا واستعلاء، بـ"النخبة"، التي تعرف كل شيء، وتفهم في كل شيء، وتتحدث عن أي شيء، وأنها إذا تحدثت يجب أن ينصت الناس، وإذا صمتت، فصمتها حكمة وإلهام.
خذ -على سبيل المثال- ذلك "العالم الجليل"، الذي يتعمد خلط الحق بالباطل، ويمارس التدليس على الناس، وذلك من أجل تبرير أفعال معينة لأصحاب السلطة والنفوذ، وهو شيخ كبير، صاحب علم ومؤلفات، كان سمته الوقار، أو على الأقل هذا ما تظهره لحيته البيضاء الكثّة. كان يصفه طلابه بـ"العالم" الفقيه، والشيخ المجدد، والعابد الصوفي الزاهد، الذي لا يُشق له غبار في مسائل الفقه والإفتاء، وهو ما جعله يجلس على عرش "الإفتاء" في مصر لعقد كامل من الزمان. وكان، وربما لا يزال، يمنّي النفس بأن يصبح شيخا للأزهر الشريف.
فجأة، سقط وقار الرجل، وتبددت هيبته، بعد أن ارتمى في أحضان السلطة، يمجدها ويداهنها ويبارك كل أفعالها، ويشن حربا ضروسا على مخالفيها. وتحوّل لسانه إلى مدفع رشاش تقفز من بين شفتيه عبارات الكراهية والتحريض على قتل المخالفين لها، بعد أن استحل دماءهم، ووصفهم بأنهم "أوباش" و"خوارج هذا العصر" و"كلاب أهل النار"؛ هكذا انقلب الشيخ الودود، ذو الوجه البشوش، والطلعة البهية، إلى وجه غاضب متجهم، ينفث كذبا وكراهية ضد مخالفيه، في حين يكيل لسانه المديح والنفاق للسلطة مهما أخطأت، وذلك في أكبر عملية "تدليس" و"تلبيس" تجري تحت عباءة من يوصفون "بالعلماء" ورجال الدين.
بعض الصحفيين وصل به "جنون العظمة" إلى أن يتخيل نفسه فقيها وعالما دينيا يفتي الناس في شؤون دينهم ودنياهم عبر برامجه التلفزيونية ولقاءاته الإعلامية، وقد أصابه "ذهب المُعزّ" فأصبح فجأة من أهم "كتّاب الدراما والسينما" في مصر.
خذ أيضا ذلك "المثقف الكبير" الذي كان يدافع عن الحرية، ويطالب بالديمقراطية باعتبارها الحل، فلمّا جاءت بخصومه إلى السلطة انقلب على عقبيه، فلعن الديمقراطية، وحرض خصومها للانقلاب عليها، ثم برر فعلتهم بأنها كانت لمصلحة الوطن. وأيضا هناك ذلك الأستاذ (أو الأستاذة)، والمحاضِر (أو المحاضِرة) الجامعي (الجامعية)، الذي ظل يحاضر الناس عن الحرية، ويدرسهم قواعد الديمقراطية، فلما ناداه أصحاب النفوذ، بسيفهم وذهبهم، ذهب إليها مهرولا؛ يمتدح الطغيان ويبرر الجرائم، متناسيا كل ما كان يردده عن الحرية والديمقراطية.
أعرف أحدهم وقد كان يوما ما أستاذا جامعيا محترما يُشار إليه بالبنان لفرط ذكائه وقدراته البحثية، ولمواقفه التي كانت تعارض الاستبداد أيام مبارك. ولكنه تحوّل وانقلب على عقبيه بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، بل ويرفض الحوار مع كل من يخالفه في رؤية ما حدث.
التقيته قبل 6 سنوات تقريبا -على هامش مؤتمر علمي في بيروت- وكنت أعرض وقتها ورقة بحثية أسميتها "المقاومة تحت العسكر بعد انقلاب يوليو/تموز 2013″؛ فانزعج وانتفض، معترضا على عنوان الورقة، وأصر أمام الملأ على أن ما جرى في الثالث من يوليو/تموز ليس انقلابا؛ لأنه جاء نتيجة "ثورة شعبية" هي ثورة 30 يونيو/حزيران 2013. نعم، هكذا قالها على الملأ من دون أن يهتز له جفن. ثم عاد وكرر الأقوال نفسها، قبل أيام، على قناة "الجزيرة مباشر" التي كان يدافع فيها عن "مسرحية الحوار الوطني" التي نشاهدها حاليا.
وأخيرا، خذ ذلك الصحفي الفذ، والإعلامي اللامع، الذي رفع سيف قلمه في وجه نظام مبارك، وكاد أن يدخل السجن بسبب ذلك، وعندما قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كان في مقدمة الصفوف، ولكنه تحول لاحقا إلى مؤيد للاستبداد، ومدافع عن جرائمه، في حين لا يجرؤ أن يفتح فمه بكلمة نقد لصاحب سلطة. وقد وصل به "جنون العظمة" مؤخرا أن يتخيل نفسه فقيها وعالما دينيا يفتي الناس في شؤون دينهم ودنياهم عبر برامجه التلفزيونية ولقاءاته الإعلامية، وقد أصابه "ذهب المُعزّ"، فأصبح فجأة من أهم "كتاب الدراما والسينما" في مصر.
هؤلاء جميعا نعرفهم جيدا، ونراهم ونسمعهم على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تطاردنا ليل نهار، فما أكثرهم بين ظهرانينا، يروجون بضاعتهم من دون كلل أو ملل، ويصرخون في الناس ليصدقوهم ويتبعوهم. شيوخ وعلماء وأساتذة جامعيون ومثقفون وباحثون وإعلاميون وصحفيون، إلخ جميعهم وقعوا في مصيدة التاريخ التي لا ترحم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق