الاثنين، 10 أكتوبر 2022

انتصارٌ عسكريّ وانحدارٌ سياسيّ

 انتصارٌ عسكريّ وانحدارٌ سياسيّ

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن خلال جلسة مشتركة للكونغرس أعلن فيها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر نتائج اتفاقية كامب ديفيد

صحيحٌ أنّ المعركةَ لم تَنْتَهِ بالتحرير الكامل للأرض المحتلة، ولم تُنْهِ الخطر الصهيونيَّ في المنطقة العربية، ولم تكافئ ما أصاب الأمة في حرب الأيام الستة ولم تَمْحُ عارَ النّكسة، وصحيحٌ كذلك أنّ الهزيمة السياسية التي تَلَتْ ذلك في مبادرة السلام وفي معاهدة كامب ديفيد قد مَحَتْ كل أثر للنصر العسكريّ، ووطّدت لمرحلة صار للعدو الإسرائيليّ فيها هيمنةٌ لم يكن يصبو إليها إلا في بروتكولاته الأسطورية، يضاف إلى هذا وذاك أنّ الحكم العسكريّ أساء إلى مصر وإلى شعبها، وأورد البلاد موارد الهلكة؛ بإصراره على أن يكون وَحْدَهُ المهيمن على الحياة السياسية، كلُّ هذا صحيحٌ إلى أبعد مدى، لكنّ هذا كلَّهُ لا يقلل من قيمة النصر الذي حققته الأمّةُ المصرية في السادس من أكتوبر، بشعبها وجندها وحكومتها وقيادتها السياسية والعسكرية، وليس من العدل ولا من العقل تجاهل ذلك أو التقليل من قيمته.

نصرٌ من نوع فريد

من أين علمنا أنّ أكتوبر كان نصرا عظيمًا؟ علمنا ذلك بالتواتر، علمنا ذلك مثلما علم الجميع أنّ سوريا لم تحرز نصرًا حقيقيًّا، علمنا ذلك مثلما علمت الأجيال أنّ 67 كانت نكسةً، وأن 48 كانت خِدْعَةً، وأن 56 لم يكن لنا في إنهائها أثر ولا خطر، علمنا ذلك مثلما علمنا بعد ذلك أنّ مسيرة السلام مَحَت الآثارَ وعكست المسارَ ونقلت الوضع من انتصارٍ إلى انحدار، علمنا الجملةَ تامّةً بالتواتر والتوافر؛ فلسنا بحاجة إلى التجديف في عكس التيار، ولسنا على استعداد للاستماع لمن يفقدنا الثقة بأنفسنا؛ فنحن قادرون على أن ننتصر، وحسبنا “أكتوبر” و”يناير” شاهدين على عظمة أمتنا.

ومما يعلي من شأن تلك المعركة -بعد صيحة “الله أكبر”- أنّها كانت معركةً نظيفة بكل المقاييس، حيث وقعت المواجهةُ بين جيش وجيش، ولم تستعمل فيها القوات المصرية أساليبَ منافية لأخلاق الحرب. فعلى الرغم من أنّ المدنيين الصهاينة مُحْتَلُّون على الحقيقة؛ ولا عصمةَ لهم في دمٍ أو مال، لم تُوَجِّهْ قواتُنا ضربةً واحدة لمدينة من المدن، ولا هجومًا واحدًا على حيّ من الأحياء السكنية، مثلما وقع -ولا يزال يقع- بيد من يَدَّعون الحضارة والمدنية، ولم يتعامل المصريون مع الأسرى الإسرائيليين مثلما تعامل الصهاينة مع أسرانا في 67 أو غيرها.

ومما يعلي من شأن هذه المعركة أيضا أنّها لم تُحْسَمْ لصالح السلاح المتطور والترسانة العسكرية الجبارة مثلما جرى ويجري في التاريخ المعاصر كله، ولم تكن الوحشيةُ التّقنيةُ هي كلمة السرّ مثلما هي في معارك العصر الحديث كله، وإنّما اعتمدت معركتنا على عاملين إنسانيين كبيرين، الأول: روح التضحية والبذل والفداء، والثاني: حسن التخطيط، وبراعة التكتيك، والسبق الكبير في الفكر العسكريّ؛ بما جعلها معركة تستحق أن تُدَرَّس في الأكاديميات العسكرية الكبرى، وتستأهل أن تكون أنموذجا يُحْتَذَى. 

من الانتصار إلى الانحدار؟

ذاك كان الانتصار؛ فكيف جاء الانحدار؟ جاء عندما غلبت الأهواء والمصالح الشخصية، وعندما ظهر السعي إلى المجد الشخصيّ ولو على حساب المصالح العليا للبلاد، جاء بسبب الداء العضال في الحياة السياسية في أوطاننا، وهو عدم القدرة على امتلاك الإرادة السياسية المستقلة، وبسبب العلة المستديمة في تاريخنا المعاصر كله، وهي الهزيمة النفسية أمام الغازي المتفوق بالتكنولجيا المتطورة، جاء بسبب هشاشة الفكر السياسي للحكم العسكريّ، وبسبب ترسخ فكر التبعية في جسم النظام.

لقد أدركت إسرائيل أنّ الواقع بعد أكتوبر يحتم عليها أن تأخذ خطوة إلى الوراء؛ من أجل الالتفاف على النصر الكبير، أدركت إسرائيل بخبثها ومكرها أنّها لن تكسب المعركة حربا أو سلما إلا بتفريق الموقف العربيّ، فقد كشفت حرب أكتوبر وما تلاها من تضامن عربيّ عن خطر الصحوة التضامنية، وأدركت كذلك أنّ السادات لديه الرغبة في حَلٍّ منفرد وعاجل، وفهمت دوافع السادات المتمثلة في رغبته العارمة في إحراز مجد كبير بالسبق إلى نصر سياسي في ميدان السلم، يضاف إلى نصر أكتوبر في ميدان الحرب؛ فبدأت المغازلة بين السادات وإسرائيل في عهد قريب من وقف إطلاق النار، وكان كيسنجر هو “تاكسي الغرام” الذي وصل بخيوط الرشاقة واللباقة بين “العشيقين الغريمين في آن”!

بين السلام الضائع ومعركة السلام

وذات يوم استيقظ العالم على صوت السادات يعلن استعداده لاتخاذ خطوة نحو السلام، وبمجرد أن أعلن رغبته تلك التي قوبلت بالترحاب من مناحيم بيغن، استقال وزير خارجيته إسماعيل فهمي، وبعده بقليل وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض، ثم مراد غالب سفير مصر في يوغسلافيا؛ ثم محمد إبراهيم كامل الذي لم يلبث أن استقال، ليضع كتابه: “السلام الضائع”.

وقبل زيارة السادات كانت أنظار العالم تتجه نحو “جنيف”، حيث الترتيب للمؤتمر الدولي للسلام، وقد كانت القضية الفلسطينية متحركة صوب الحل بعد أكتوبر، وكان العالم كله متقبلا لفكرة حل القضية الفلسطينية جذريا، وانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها في 67، فإذا بالسادات يفاجئ الجميع بقراره الذي أثار التساؤل: لماذا يؤثر التحول عن المؤتمر الدوليّ إلى التفاوض المباشر مع إسرائيل؟

وبدأت مسيرة السلام الضائع، والعجيب أنّ إسرائيل بمجرد إنهاء اتفاق “أسوان” الذي مهد لكامب ديفيد هاجمت جنوب لبنان؛ ووجهت ضربة واسعة للفدائيين الفلسطينيين، والأعجب أنّ السادات دعا “وايزمان” إلى زيارة القاهرة في التوقيت الذي كانت الوفود العربية في القاهرة، وقد أشار “وايزمان” في كتابه “معركة السلام” إلى أنّ السادات هو الذي دعاه؛ مما كرّس الفرقة بين الزعماء العرب.

التحول المدهش

لم تكن إسرائيل تحلم بأكثر من هذا: أن تُحَيِّدَ دول الطوق؛ ريثما تمتص لطمة أكتوبر، وتنجح في تمزيق شمل العرب؛ لتأخذ فرصتها وتتوسع في إنشاء المستوطنات، وفي جلب المستوطنين، وتكون في وضع يؤهلها لانطلاقة ثانية، وها هي اليوم تبرم صفقة القرن، وتقيم العاصمة الموحدة، وتنفذ مشروع التقاسم الزماني والمكاني، وغدًا سنرى أحلام الألفية الثالثة تتحقق، حيث بناء الهيكل على أنقاض الأقصى، وبعدها تكون مهيأة للحلم الأكبر: دولة إسرائيل الكبرى، ونسأل الله السلامة لبلاد المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق