أوروبا في أحضان أحفاد هتلر وموسوليني
تشي حالة الصعود المضطرد لتيارات اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة بأن ثمة أزمة عالمية تواجه النموذج الليبرالي الغربي، وذلك إلى الدرجة التي بدأ فيها البعض يتحدث عن نهاية وسقوط الليبرالية أو فقدان صلاحيتها. فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، نجحت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أكثر من بلد أوروبي في الوصول إلى السلطة، وذلك على نحو ما حدث مؤخرا في إيطاليا مع فوز اليمينية، جورجيا ميلوني، التي أصبحت أول امرأة تتولى منصب رئاسة الحكومة في إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية، وقد كانت ميلوني عضوة بارزة في "الحركة الاجتماعية الإيطالية" (MSI) التي تمثل الفاشية الجديدة في إيطاليا، وكانت تسمى من قبل الحركة الاشتراكية الإيطالية، التي أسسها بينيتو موسوليني أوائل القرن الماضي.
منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، فاز "النازيون الجدد" في الانتخابات التشريعية بالسويد، وذلك بعد أن حصل تحالف اليمين المتطرف على 176 مقعدا من أصل 349، وذلك بفضل تقدم حزب "ديموقراطيي السويد" اليميني. وهو حزب وُلد من رحم الحركة النازية الجديدة في ثمانينيات القرن الماضي. وبعد أن ظل لفترة طويلة حزبا هامشيا منبوذا، دخل البرلمان بعد فوزه بنسبة 5.7% من الأصوات عام 2010، ثم ارتفعت النسبة إلى 17.5% عام 2018 قبل أن يتجاوزها هذه المرة.
النموذج الليبرالي يتضعضع ويتراجع من داخله، وذلك بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي ساعدت بشكل كبير على صعود اليمين المتطرف وهيمنته على أكثر من بلد كان يُعتقد يوما أن ديمقراطيته وليبراليته راسخة، وأنه لا تمكن العودة فيه للأفكار الفاشية أو النازية.
خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، حلت اليمينية المتطرفة مارين لوبان زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف في المركز الثاني، وذلك بعد أن دخلت جولة الإعادة مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ قيام الثورة الفرنسية قبل أكثر من قرنين.
ومن المتوقع أن تتسع مساحة الموجة اليمينية المتطرفة لتشمل دولا أوروبية أخرى خلال الأعوام المقبلة. وبذلك سنكون إزاء دورة تاريخية جديدة تحدث كل قرن تنزوي فيها القيم الليبرالية لصالح قيم الشعبوية الشوفينية، التي تقوم على إقصاء الآخر وترفض التعددية الثقافية والدينية والأيديولوجية كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الأولى.
يتزامن ذلك كله مع الحرب التي تدور رحاها حاليا بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها أوروبا وأميركا التي تزيد من وتيرة التوتر والانقسام داخل المجتمعات والنخب الأوروبية والمتوقع أن تزداد كلما زادت وتيرة الحرب التي لا يبدو أنها سوف تتوقف قريبا.
قبل 30 عاما، بشرّنا الباحث الأميركي فرانسيس فوكوياما بأطروحة "نهاية التاريخ"، التي تنبأت بإعلان هيمنة وسيطرة النموذج الغربي علي ما عداه من النماذج الفكرية والأيديولوجية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الأيديولوجية الشيوعية لصالح الليبرالية الغربية. وتحدث فريد زكريا، الذي كان يرأس وقتها دورية "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) المرموقة، عن الديمقراطية غير الليبرالية ومشاكلها وأن النموذج الغربي لليبرالية هو الذي يجب أن يكون المرجعية للنظم التي تسير في عملية التحول الديمقراطي.
مؤخرا، أعاد فوكوياما النظر في أطروحته بعد أن ثبت قصورها وفشلها؛ فالنموذج الليبرالي يتضعضع ويتراجع من داخله وذلك بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، التي ساعدت بشكل كبير على صعود اليمين المتطرف وهيمنته على أكثر من بلد كان يُعتقد يوما أن ديمقراطيته وليبراليته راسخة، وأنه لا تمكن العودة فيه للأفكار الفاشية أو النازية.
وبغض النظر عن حديث النهايات أو فشلها، الذي يطمس أجزاء من التحليل الموضوعي، فسوف يتوقف الباحثون والمفكرون كثيرا أمام تفسير هذا التحول التاريخي، واستكشاف أسبابه وإذا ما كان أمرا عابرا أم تجسيدا لحالة سياسية ومجتمعية سوف تدوم معنا حتى منتصف هذا القرن.
ولكن ما لا شك فيه هو أن ثمة تشققات وانكسارات حقيقية تواجه النموذج الليبرالي الغربي، خاصة بعدما تحول من نموذج يهدف لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة إلى أداة لتكريس سيطرة فئات قليلة على السلطة والثروة على حساب بقية فئات المجتمع. فالتصويت لليمين المتطرف ليس بالضرورة تصويتا عن قناعة بشعارات هذا اليمين، بقدر ما أنه تصويت احتجاجي على السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها النخب الحاكمة طيلة العقود الثلاثة الماضية، والتي نجم عنها تراجع في الطبقة الوسطى التي تمثل حجر الأساس في النموذج الليبرالي. ومن المفارقات اللافتة أن أزمة الليبرالية الغربية تتواكب مع أزمة أخرى تواجه تيارات وقوى اليسار، خاصة في أوروبا. وكأننا إزاء حالة إفلاس فكري وسياسي للتيارين اللذين تبادلا مقاعد السلطة والنفوذ في الغرب على مدى العقود الثلاثة الماضية، وهو ما يجعل مستقبل أوروبا مفتوحا على سيناريوهات مخيفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق