“الإنقاذ المشوّه”..
لماذا جلبت الإصلاحات العثمانية الانقلابات والدماء؟!
محمد شعبان أيوب
تأتي قضية الإصلاحات والتنظيمات في الدولة العثمانية التي أخذت شكلاً ثورياً مع السلطان عبد المجيد الأول منذ عام 1839م حين شرع في تنظيم أو تشريع قوانين لتحسين مؤسسات الحكم والإدارة، وكانت في مجملها إصلاحات تستوحي التجربة الأوروبية لتغيير نظام الدولة العثمانية في الشؤون العسكرية والإدارية، وإرسائها على أسس فكرية وقانونية جديدة، كلحظة مفصلية في تاريخ الدولة العثمانية.
إن التأمل في التاريخ العثماني يُرجع مرحلة التنظيمات والتحديثات والبحث عن سؤال أين الخلل إلى القرن السابع عشر بل وقبل ذلك، ففي أواخر ذلك القرن انكسرت الجيوش العثمانية أمام روسيا واضطرت للتنازل عن أوكرانيا، واضطروا إلى الانسحاب من قلعة آزاق، وسمحوا للروس -مرغمين- إلى النزول ووضع موطئ قدم لهم على ساحل البحر الأسود الذي كان حتى عام 1700م بحيرة عثمانية خالصة، كما هُزم العثمانيون على أبواب فيينا سنة 1683، واعتُبر صلح "فارلوفجة" بين العثمانيين والروس حدثاً فريداً من نوعه، فقد كان الضربة الأولى الأكثر خطورة في تفكيك جسد الدولة العثمانية، حتى اعتبر بداية التحول من الهجوم إلى الدفاع.
العلماء والبحث عن الحل
والحق أن الوضع العام المترهّل والتدهور الذي باتت تعانيه الدولة العثمانية لم يكن خافياً على رجال الدولة ولا مفكري العثمانيين، فقد كثرت الدعاوى المطالبة بالإصلاحات، وقُدمت للسلاطين المتعاقبين مذكرات ومؤلفات تطالب بالإصلاح وترسم الطريق، وتبين أفضل المناهج لتحقيق هذه الإصلاحات الملحّة والضرورية، ففي القرن السادس عشر الميلادي قدم المؤرخ مصطفى علي أفندي (ت 1599م) إلى السلطان مراد الثالث (ت 1599م) كتابه "مفاخر النفائس في كفاية المجالس"، وصف فيه المجتمع والحكومة العثمانية، وصبَّ اهتمامه على بذخ الطبقة الحاكمة.
وفي عصر السلطان مراد الرابع (ت 1640م) تقدم مستشاره الخاص مصطفى قوجي بيك الذي أُطلق عليه "باعث الإصلاحات التقليدية" إلى مخدومه بتقرير عاجل في صورة كتاب أطلق عليه اسم "الرسائل"، وصف فيه حالة الدولة العثمانية ومدى اتساعها وعظمتها في عصر السلطان سليمان القانوني، ثم طرح للسلطان مراد الرابع أسباب التقهقر الذي واجهته الدولة العثمانية في تلك المرحلة، وحددها بأربعة عناصر؛ هي غياب مشاركة السلاطين في أعمال الحكومة والجيش، وكذلك السلطة الكبيرة التي مُنحت للصدور العظام "رؤساء الوزراء"، وزيادة نفوذ وقوة الوزراء وكبار رجال الحكومة وتعددها وتعارضها، ثم انتشار المفاسد الأخلاقية والرشوة في قطاعات الجيش والتعليم والحكومة، وزيادة الضرائب وإرهاق النظام الزراعي بالمظالم التي كانت تجبر الفلاحين على ترك أراضيهم والهجرة صوب المدن، وخلص كوجي بك إلى ضرورة تدخل السلطان الصارم لإنهاء هذه الأوضاع.
على أن المحاولة الإصلاحية الأكثر جدية تمثّلت في الرسالة التي وضعها المؤرخ الموسوعي الشهير مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة (1608- 1657م) وكان من رجال الإدارة العثمانية؛ جواباً على أسئلة بعثها له السلطان محمد الرابع (1642- 1693م)، وقد أسماها بـ"دستور العمل في إصلاح الخلل"، بحثاً عن الخلل المالي والإداري الذي أصاب الدولة، وقد تضمنت هذه الرسالة رؤية حاجي خليفة التاريخية للدولة العثمانية، وأسباب انحدارها، ويبدو أنه كان من المتأثرين بنظرية ابن خلدون في أطوار الدولة، فهي تمر بمرحلة التطور السريع ثم الاستقرار والمجد، ثم مرحلة البطء والتقهقر، وقد رأى حاجي خليفة أن الدولة العثمانية تعيش في طورها الأخير، لكن بفعل قواها الداخلية وقوة النظام العثماني فبإمكانها الثبات لعدة قرون على هذه المرحلة إذا قامت بإصلاحات جادة لشؤون الفلاحين، وإصلاح نظام الضرائب، وإبعاد الموظفين المرتشين، وإصلاح الجيش، وتخفيض مصروفات الدولة الزائدة عن الحاجة.
في هذا السياق، تأتي محاولة حسين هزارفن (1601- 1679م) في كتابه "تلخيص البيان في قوانين آل عثمان"؛ حيث يؤكد المسائل نفسها التي ذكرها قبله قوجي بيك وحاجي خليفة؛ بيد أن قسوته كانت أشد في نقد المسؤولين عن التدهور سواء كانوا سلاطين أو الوزراء العظام وسوء تصرف ضباط الجيش، ويشدد على ضرورة إسناد المناصب في الولايات إلى الحكّام الصالحين، وبحسب حسين هزارفن فإن على السلطان أن يعتمد على هيئة من الرجال تراقب الرعايا كما تراقب الأعداء، ولا يتردد في استخدام القوانين التي تدعم سلطته أبداً، ويجب إعادة الاعتبار للشريعة والمسؤولية الأخلاقية والروحية المنوطة بشيخ الإسلام والعلماء.
كتب حسين هزارفن مؤلفه هذا في عام 1669م، وكتب من بعده ساري محمد باشا في السياق نفسه، متابعاً التأليف العثماني حول الانحطاط كتابه "نصائح الوزراء والأمراء" فلم يضف الشيء الكثير على من سبقوه، لكن الكتاب جاء في وقت عبرت الدولة العثمانية من مجرد الانحطاط الداخلي إلى الهزيمة العسكرية الكبيرة أمام أعدائها، فقد أدت هزيمة كارلوفيتز عام 1699 إلى خسارة الدولة العثمانية أراضي شاسعة من ضمنها ترانسلفانيا والمجر وسلوفينيا وكرواتيا، وأكدت هذه الهزيمة التي أظهرت عجز وتخلف قوات الانكشارية صحّة توقعات المفكرين العثمانيين الذين ألحّوا على ضرورة الانحدار والتدهور.
التوجه نحو الغرب
مع بداية القرن الثامن عشر دخلت الدولة العثمانية في مرحلة جديدة حين شرع السلطان أحمد الثالث (1703- 1730م) في فتح بعض النوافذ باتجاه أوروبا بعد أن لمست الإدارة العثمانية ضعف عسكريتها وتفوق الأوروبيين في هذا المجال، وقد أظهر السلطان أحمد الثالث والصدر الأعظم داماد إبراهيم ميلاً لتقليد الأوروبيين في بناء القصور وإقامة أول مطبعة من نوعها في الدولة، تلك التي أنشأها إبراهيم متفرقة، وكذلك إنشاء مدرسة للمدفعية وغير ذلك من الإصلاحات العسكرية والبحرية، لكن هذه المحاولات انتهت عام 1730 بعزل السلطان وقتل وزيره بعد ثورة قام بها جنود الانكشارية، العمود الفقري للجيش العثماني، الذين سيصبحون أكبر عائق أمام الإصلاحات منذ ذلك الحين.
والحق أن سطوة وقوة الانكشارية في الدولة العثمانية تعود إلى القرن السابع عشر حين ثار الانكشارية على السلطان عثمان الثاني (ت 1622م) وقتلوه لأنه أراد لجْم تمرّدهم، وإدخال بعض الإصلاحات، وبعد قرنين على هذه المحاولات التي كانت تبوء كل مرة بالفشل بسبب تدخل الانكشارية والحفاظ على مصالحهم الشخصية والمالية في داخل بنية الدولة؛ قرر السلطان محمود الثاني في عام 1826م القضاء عليهم بالمدافع مثلما قضى محمد علي باشا في مصر على منافسيه من المماليك في مذبحة القلعة سنة 1811م، وبهذا فتح الطريق أمام السلاطين العثمانيين لإدخال الإصلاحات الملائمة العسكرية والإدارية في جسد الدولة المترهّل، وبدأت الدولة منذ الربع الأول من القرن الثامن عشر في إرسال سفراء ومبعوثين عثمانيين دائمين في أوروبا بغرض نقل تجارب الإصلاح والتعرف على أسباب التقدم.
تركزت الإصلاحات العثمانية على عدة ميادين أهمها الإصلاحات المالية والتعليمية وتسخيرها لخدمة الإصلاحات والتنظيمات العسكرية، ومنذ منتصف القرن السابع عشر رأينا اعتماد بعض السلاطين العثمانيين على مستشارين فرنسيين، فقد اعتمد السلطان محمود الأول (1730- 1754م) على المستشار الفرنسي للشؤون العسكرية الكونت دي بونفال (1675- 1747م)، وشرع السلاطين اللاحقون يوجّهون وجههم شطر أوروبا التي لم تأت منها وصايا المبعوثين والسفراء العثمانيين بضرورة السير على دربهم في الإصلاحات الحكومية والعسكرية فقط، بل جاء منها الخبراء والمستشارون العسكريون والتعليميون لتطوير المؤسسات العثمانية المترهلة، والتي اعترفت الدولة نفسها بهذا الترهل.
التغريب.. ثورة أم انقلاب؟
يخبرنا المؤرخ الدكتور قيس جواد العزاوي في كتابه المهم الذي يناقش هذه المسألة بعمق "الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط" أن "غزو التحديث لم يقف عند حد، فقد هبّت رياح التغريب على الإمبراطورية العثمانية في أعلى مراتبها، فالسلاطين ومن حولهم قد ربطوا مصيرهم بالعلاقة مع أوروبا، بضرورة الإصلاح على النمط الأوروبي". هذا التحديث الذي انطلق دون تعقل أو بصيرة فكرية ثقافية -كانت الحاجة إليها مُلحة في المجال الثقافي الإسلامي في الأناضول والرومللي- نتج عنه نشأة جيل جديد مؤمن كلياً بالغرب ومحتقر في الوقت ذاته الدولة العثمانية التي نشأ فيها، وشبع في ظل طبقتها الأرستقراطية ليس فقط، بل ومقدسات دينه وثقافته.
ومع ارتقاء السلطان عبد المجيد الأول للسلطنة عام 1839م بعد وفاة والده محمود الثاني، وهو لم يزل ابن السادس عشر عاماً، أصدر وزيره الأعظم مصطفى رشيد باشا -سفير الدولة العثمانية السابق في لندن وباريس- على لسان سُلطانه ما عُرف باسم "خط كلخانة" الذي تضمن إصلاحات مالية وضريبية والمساواة في الحقوق والواجبات بين رعايا الدولة العثمانية دون تمييز ديني أو عرقي، ويؤكد خالد زيادة أن هذه الإصلاحات أو التنظيمات كانت بتأثير أو ضغط القوى الأوروبية.
في الفترة عينها شرع بعض المبتعثين العثمانيين إلى فرنسا والمتأثرين بأفكار أشهر فلاسفتها ومفكريها مثل مونتسكيو وروسّو، وعلى رأسهم إبراهيم شناسي (1826- 1871م) وتلميذه الشهير نامق كمال (1840- 1888م) وزمرة أخرى في إعلانهم التململ من الأوضاع الثقافية والسياسية في البلاد، ورغم الإصلاحات والتنظيمات التي شرع السلطان عبد المجيد الأول في تنفيذها منذ عام 1839 وإصلاحاته لعام 1856، فإن هذه الإجراءات كلها "لم تكن كافية بنظر مجموعة من الشباب الذين تأثروا بعمق بصورة أوروبا الليبرالية وشعاراتها وآدابها".
ولهذه الأسباب وفي عام 1865م تأسست جمعية "العثمانيين الجدد" التي شاع تسميتها في الأقطار العربية باسم "تركيا الفتاة" نقلاً عن التسمية الأوروبية Jon Türk، نشأت هذه الجمعية على يد شباب أمثال محمد بك ونامق كمال ورفيق بك ورشاد بك وغيرهم، وكانوا في أغلبهم أبناء باشوات وأغنياء ينتمون إلى طبقة اجتماعية راقية وقد استطاعوا نيل العلوم المختلفة والمعارف من أوروبا، وعادوا يرددون كلمات الحرية والإصلاحات بلا كلل، فقد عُرف نامق كمال بين أقرانه بأنه "رسول الحرية والوطنية" على الطريقة الفرنسية.
لقد رأت هذه المجموعة أن "أوْرَبة" الدولة العثمانية بصورة كلية هي الحل الجذري للإصلاحات المنشودة، ووضعوا لهذا الهدف خطة عملية من خلال اختراق دوائر السلطة، وعزموا على إيصال نامق كمال إلى منصب وزارة الخارجية، وضياء باشا إلى منصب الصدارة العظمى "رئاسة الوزراء"، ثم تحولت الجمعية إلى حركة معارضة رسمية بانتماء سليمان باشا قائد المدرسة الحربية، ومصطفى فاضل باشا أخو خديوي مصر إسماعيل، وكان مصطفى فاضل من الناقمين على الدولة العثمانية التي فوّتت عليه فرصة الخديوية بتأييد أخيه إسماعيل على حسابه.
وعلى الرغم من التضييق والتشرذم الذي تعرضت له هذه المجموعة في أواخر عصر عبد المجيد وأوائل عصر عبد العزيز، فإنها استطاعت بعد بضع سنوات إيصال العديد من الأسماء المهمة مثل مدحت باشا إلى منصب الصدارة العظمى "رئاسة الوزراء" وهو الذي اشتُهر بـ"أبي الدستور" و"أبي الأحرار"، وأحد أهم وأشد المتحمسين للإصلاح وهيكلة الدولة على الطريقة الأوروبية، وكذلك حسين عوني باشا الذي تقلّد هو الآخر منصب الصدارة العظمى، وكانت لهذين الرجلين يد مباشرة في خلع واغتيال السلطان عبد العزيز سنة 1875، ودور أهم في ارتقاء ابن أخيه السلطان عبد الحميد الثاني الذي سايرَهم في بداية الأمر حتى تمكن من إقصائهم فيما بعد.
لقد أدرك السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909م) خطورة أهداف جمعية الشبان العثمانيين "تركيا الفتاة" لأنه انتسب إليها في بداية شبابه، ورأى دعوتها التي نادت علانية بفصل الدين عن الدولة، بل بإقصاء الدين كلية عن الحياة العامة والمجتمع، وكان عبد الحميد كما يقول المؤرخ أحمد آق قوندوز: "يؤثرُ الإعجاب بجده محمود الثاني ورشيد باشا، وظنه بأن السيرة الغربية لأبيه عبد المجيد الأول وأخيه الكبير مراد (الخامس) أضرت بالدولة والأمة".
فرضت هذه المجموعة العلمانية التي استولت على الدولة في بداية حكم عبد الحميد الثاني -وكان منزوع القوة والصلاحية لمدة عام ونصف- فرضت ما عُرف بالمشروطية أو "الديمقراطية" على الطريقة الأوروبية، وأنشأوا لهذا الغرض البرلمان العثماني برعاية مدحت باشا وأعضاء جمعية الشبان العثمانيين "تركيا الفتاة"، وكانت أكبر الجرائم التي وقعوا فيها بزعامة مدحت باشا ومجلسه توريط الدولة العثمانية في حرب لم يكن من ورائها أي طائل ضد روسيا رغم اعتراض السلطان على هذه الحرب، وكان من نتائج الهزيمة بلوغ القوات الروسية إلى ضواحي إسطنبول.
ورغم الاتفاقية المهينة والمذلة التي وقعتها الدولة أمام روسيا المنتصرة في حرب 1878م، لم يقنع مدحت باشا وفريقه بالهزيمة الكبيرة المالية والعسكرية وخسارتها الفادحة في البلقان وغيرها، بل راح مجلس المبعوثين "البرلمان" يناقش تشكيلَ إنشاء دول مستقلة مثل أرمينيا وبونتس (شمال تركيا)، وكردستان، وأمام هذه الكوارث العسكرية والسياسية، أصدر السلطان عبد الحميد الثاني قراره بحل مجلس المبعوثين في فبراير/شباط 1878م.
ساء الإنجليز هذا القرار، وانطلقوا يحرّضون رجال "العثمانيين الشباب" -وكانوا من أشد المقربين لهم- وعلى رأسهم علي سعاوي ضد السلطان عبد الحميد، ومن ثم قررت هذه المجموعة بعدما أصدر السلطان عبد الحميد قراره بإقصاء زعيمهم مدحت باشا، وإلغاء البرلمان الذي ورط الدولة في الحرب الروسية وفي مناقشة تفكيك أجزاء من الدولة العثمانية في الأناضول تحت دعوى "الاستقلال"، قرروا الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، في الواقعة التي عُرفت آنذاك بواقعة "علي سعاوي" أو "اقتحام قصر جراغان"، وهي أحداث جرت بتحريض السفير البريطاني في إسطنبول اللورد إليوت وماري البريطانية زوجة علي سعاوي.
اتجهت هذه المجموعة بقيادة سعاوي إلى قصر جراغان وهو مقر سكن السلطان السابق مراد الخامس، وحاولوا خلع السلطان عبد الحميد وتنصيب مراد الخامس الذي اشتهر بالضعف الشديد بدلاً منه، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل ليقظة عبد الحميد ورجاله، وقُتل في هذه الحادثة 23 متمرداً وجُرح منهم 15 وحوكم الكثيرون منهم في المجلس العرفي العسكري ولم يصدر بحق أحد منهم حكم الإعدام.
في أعقاب هذه الكوارث الخارجية والداخلية، ومعاصرة عبد الحميد خلع سلفيه عمّه عبد العزيز الأول وأخيه مراد الخامس وضعفهم الشديد أمام هذه المجموعة الموالية للغرب والمتآمرة على الدولة، وحيث لم يكن زمن هذه الحادثة متوقعاً، أصدر السُلطان قراره بتنظيم وإنشاء تشكيلات أو مؤسسات أمنية استخباراتية مهمتها الأولى تتبع كل من يهدد أمن الدولة ويبغي الانقلاب على السلطنة، وقد سُميت هذه التشكيلات بـ"المنظمة الخفية" أو جهاز الأمن السري ويسمون بالتركية العثمانية "خافيه" والتي تعني "تحري".
يرى بعض المؤرخين والدارسين بعمق للإصلاحات أو التنظيمات أو التحديثات العثمانية والتي بدأت منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر حتى عصر السلطان عبد الحميد الثاني أنها جاءت -في مجملها- خارجية بآليات ومفاهيم غربية وغريبة عن المجتمع العثماني، وكان على حساب وجود مؤسسات بكاملها، فالنظام العسكري الجديد استوجب إلغاء المؤسسة العسكرية العثمانية التقليدية "الانكشارية" كلياً، وقد أبعد الأخذ بالقوانين الوضعية الأوروبية الجديدة الشريعة الإسلامية من مجالات عديدة أهمها التجارة والسياسة، بل إن هذه القوانين جاء بعضها يناوئ الشريعة الإسلامية، وتمكنت من طردها من أغلب تشريعات الدولة، كما أن نظام التعليم الحديث حارب ثم ألغى نظام المعارف الإسلامي.
انتهت هذه المحاولات باختراق العلمانيين الأتراك للجيش وانتمائهم لحركة تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي وغيرها، وقد أدت في نهاية المطاف إلى الانقلاب على السلطان عبد الحميد وإقصائه من الحكم في إبريل عام 1909م، ومن ثم بداية الانهيار السريع حين تورطوا في حرب البلقان ثم الحرب العالمية الأولى ثم الهزيمة وحرب الاستقلال ونهاية الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة، وتأسيس الجمهورية الحديثة.
حين نتأمل في مسألة الإصلاحات العثمانية التي بدأت في نهايات القرن السادس عشر وحتى بداية القرن العشرين سنجد أنها مرت بمرحلتين؛ الأولى إصلاحات طالب بها المفكرون والعلماء والفقهاء والمؤرخون العثمانيون وكثير من رجال الدولة، وقد دوّنوها في صور رسائل أو كتب أو توصيات أو إجابة على تساؤلات السلاطين، وحرصت على تقديم الحلول الصحيحة من خلال القضاء على الفساد الإداري، وإصلاح الجيش مع الحفاظ على التقاليد والقيم العثمانية والإسلامية، وأخرى رأت الإجابة بصورة حصرية عند أوروبا دون البحث عن سؤال الدين والهوية، بل وشجعت على تقسيم الدولة عرقياً تحت دعاوى الديمقراطية والمشروطية، وقد ورّطوا الدولة العثمانية في أوقات ضعفها في حروب روسيا والبلقان والحرب العالمية الأولى، واتجهوا للتغيير من خلال الانقلابات العسكرية والدموية.
والحق أن الدولة العثمانية كانت بحاجة ماسّة إلى الإصلاحات المالية والعسكرية، بل والإصلاحات المؤسسية والفكرية وقد رأينا نموذجاً لهذه الإصلاحات في مصر في الفترة عينها، وبرز رجال مدرسة النهضة الحديثة بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، لكن لم نجد الأمر عينه في تركيا العثمانية لأسباب ثقافية وبيروقراطية عتيقة كانت هي الأخرى من جملة الأسباب التي استغلها المتطرفون العلمانيون في الانقلاب والقضاء على السلطان عبد الحميد ومن ثم إضعاف وإسقاط الدولة العثمانية فيما بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق