كندا ملكية أكثر من الملك
جعفر عباس
ظلت الأرض التي تقوم عليها دولة كندا الحالية، مأهولة منذ آلاف السنين من قبل مجموعات مختلفة. وفي أواخر القرن الخامس عشر بدأت الحملات البريطانية والفرنسية للسيطرة عليها، ليستوطنها مهاجرون بريطانيون وفرنسيون، ثم تخلّت فرنسا عن مستعمراتها في أمريكا الشمالية، ولكنها حافظت على إقليم كيبك الذي أطلقت عليها اسم فرنسا الجديدة، حتى عام 1763 حيث صار الإقليم تابعا للتاج البريطاني، ثم وفي عام 1867، تشكلت كندا باعتبارها كيانًا فدراليًا ذا سيادة يضم أربع مقاطعات، خاضعا للتاج البريطاني، ولم تخرج قوانين كندا عن سطوة البرلمان البريطاني إلا في عام 1982.
وهكذا يتضح أن كندا شأنها شأن جارتها الجنوبية الولايات المتحدة كيان أنشأه مستوطنون أوروبيون، أشبعوا السكان الأصليين قتلا وتشريدا، وبهذا فإن البلدين هما أول نموذج للاستعمار الاستيطاني في التاريخ القريب، ولا عجب من ثم، في أن كليهما يساند إسرائيل في سياسات البطش بسكان فلسطين الأصليين، وإشباعهم قتلا وتشريدا على مدى أكثر من سبعة عقود.
قبل أسابيع قليلة تقدمت كندية من أصل فلسطيني إلى إدارة الجوازات والهجرة الكندية بطلب لتجديد جواز سفرها، وكان لها ما أرادت، ثم انتبهت إلى أن خانة مكان الميلاد في الجواز شاغرة، فلجأت إلى الإدارة المختصة لتصحيح الخطأ، فقيل لها إن جواز سفرها القديم يقول إن مكان مولدها هو فلسطين، وإنهم تلقوا توجيهات بأنه لا يوجد بلد اسمه فلسطين في التاريخ القديم أو المعاصر.
هذه الواقعة نقطة في بحر شطحات حكومة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، في موالاة إسرائيل في حربها الراهنة على غزة وأجزاء من الضفة الغربية المختلة (بالخاء وهي الرقعة التي تسيطر عليها السلطة الوطنية الفلسطينية)، فعشرات الموظفين الكنديين فقدوا وظائفهم لأنهم اعتمروا الكوفية الفلسطينية وتم تجميد حساباتهم المصرفية، لأن ترودو الذي يوصف بالليبرالي الشرس قضى بأن حركة حماس إرهابية، وأن الصهيونية فكر انساني، وانه من حق صهاينة إسرائيل الدفاع عن أنفسهم، وهكذا كان مفهوما أن تصدر كندا الى إسرائيل أسلحة بما يناهز 28 مليون دولار ما بين تشرين اول/ أكتوبر الذي بدأت فيه الحرب، وكانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، وهو ما يفوق اجمالي مبيعات كندا من السلاح لإسرائيل طوال الثلاثين سنة الفائتة، وكندا موقعة على المعاهدة الدولية التي تحرم بيع العتاد الحربي الى أي جهة، قد يكون استخدام السلاح فيها مسببا لمآس إنسانية او انتهاكات لحقوق الانسان، وإزاء انتقادات كثيرة لترودو، لجأ الى تخفيف وقعها بالمعلبات اللفظية الغربية المتداولة عبر العقود، والتي تتمثل في حث إسرائيل على ضبط النفس.
موقف حكومة ترودو المعلن من القضية الفلسطينية هو تأييد حل الدولتين ورفض التوسع في الاستيطان في الضفة الغربية، ولكن وكما هو حال الحكومة الأمريكية إزاء تلك القضية، فكل هذا على الورق فقط، ففي مضابط الأمم المتحدة ما يؤكد على نحو قاطع أن كندا لم تصوت قط لصالح قرار يستنكر أو يدين الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين وعلى الدول المجاورة، وهي الأجهر صوتا في رفض تقديم إسرائيل للمحاسبة القانونية أمام محكمة الجنايات الدولية بمقتضى شكوى من جمهورية جنوب إفريقيا، وكما تقول فريدة ضيف مديرة مركز مراقبة حقوق الإنسان في كندا، فالحكومات الكندية المتعاقبة لم تر في أي عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين ما يبرر مجرد الاحتجاج.
العلاقة الودية بين كندا وإسرائيل قديمة وقوية، فقد كانت كندا ضمن المبادرين بالاعتراف بإسرائيل في عام 1948، وفي عام 1997 وقع الطرفان اتفاقية للتجارة الحرة أدت الى رفع المعاملات التجارية بين البلدين الى ملياري دولار في عام 2022، وحرص رئيس الحكومة الكندية السابق ستيفن هاربر على تمتين العلاقات مع إسرائيل، ووقف أمام البرلمان الإسرائيلي في عام 2014 ليقول في إسرائيل ما لم يقله قيس في ليلى، ثم جاء ترودو وسار على نهج هاربر، ولكن من منطلق براغماتي يتمثل في تفادي أي استنكار لنهج إسرائيل العدواني، أو أي شكل من أشكال مؤازرة الفلسطينيين من جانب بلاده كي لا يثير غضب الأخ الأكبر ـ الولايات المتحدة ـ الشريك التجاري الأكبر لبلاده كما يقول بيتر لارسن رئيس "منتدى إسرائيل- فلسطين" في العاصمة الكندية أوتاوا.
والحقيقة الثابتة في المشهد السياسي الكندي هي أن اللوبي الصهيوني الكندي متغلغل في مفاصل الدولة الكندية، وبمؤازرة من نظيره الأمريكي ينشط في تحريك الدمى في البرلمان الكندي، شاهرا سلاح معاداة السامية في وجه كل من يذكر إسرائيل بسوء، ولعل موقف كندا في الاجتماع الأخير للجمعية العمومية للأمم المتحدة، خير شاهد على ان حكومة ترودو تمشي على حبل سيرك، وتخشى ان تسقط من "نظر" واشنطن، فقد أيدت غالبية الدول الأعضاء في المنظمة الدولية قرارا غير ملزم يدعو الى هدنة مؤقتة لاعتبارات إنسانية في الحرب على غزة، فما كان من كندا إلا أن امسكت بالعصا من نصفها، وامتنعت عن التصويت بعد ما رأت رفض واشنطن للقرار، ورغم انه سبق لحكومة ترودو ان وصفت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية بأنها غير قانونية، إلا أنها صوتت ضد مشروع قرار في الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي يستنكر- مجرد استنكار- سياسة إسرائيل الاستيطانية.
من الأمور المتفق عليها بين المحللين السياسيين هو أن علمانيي تركيا أساءوا إلى العلمانية كما لم يفعل خصومها، بالاشتطاط في أمور لا علاقة لها بأساليب الحكم، مثل تغطية شعر رأس المرأة، وطول شارب الرجل وتحريم لبس العمامة، وبالقياس فما من كيان أساء إلى الليبرالية كما جماعة جاستن ترودو، الذين بلغ بهم الشطط، حشو المناهج المدرسية بما يفيد بأن زواج مثليي الجنس حق طبيعي، وأنه من الطبيعي أن يكون شخص ما بعض رجل وبعض امرأة، حتى لو لم يكن كذلك من الناحية البيولوجية، ثم صارت حرب غزة قضية الساعة في الساحة الدولية، فصار ترودو ملكيا أكثر من الملك، وشارك في مسيرة تضامن مع إسرائيل، وأدان المظاهرات المتعاطفة مع غزة، ووصفها بأنها تمجيد للعنف، وعمل على حظرها قائلا: "إرهابيو حماس ليسوا مقاومة، وليسوا مقاتلين من أجل الحرية، إنهم إرهابيون. ولا ينبغي لأحد في كندا أن يدعمهم"، ثم أضاف مخاطبا الإسرائيليين: نحن نقف معكم الليلة وغدا وكل يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق